يرى الدكتور نظمي الجعبة أنّ سياسة التنكيل المنهجية التي يعتمدها الاحتلال بحق المدينة وسكانها كان لها نتائج كبرى على المستوى الاجتماعي والسكاني والعمراني، أولاها الإفقار: «الاحتلال منذ البداية بعد حزيران ١٩٦٧، جاء القدس بخطط جاهزة، وبعضها استوحاه من خطط الانتداب البريطاني مع إضافة الأبعاد العنصرية عليها.
الخطة الإسرائيلية في القدس اتجهت نحو هدفين: السيطرة على الأرض، وإبعاد قسم من السكان. حقق الاحتلال نجاحات كبيرة في السيطرة على الأرض، إلى حد أنه حشر السكان الفلسطينيين في ١٣ في المئة من مساحة المدينة بعدما عمد الى توسيعها في القسم الشرقي لتبلغ ٧٢ كلم مربعاً. هناك ٣٥٠ ألف نسمة من الفلسطينيين يعيشون على ١٠ كيلومترات مربعة، وهي مساحة ضئيلة جداً إذا ما استثنينا منها الطرقات والساحات العامة. استطاع الاحتلال تحويل الأحياء التي بنيت ما قبل عام ١٩٦٧ إلى مدينة عمودية».
السكان لجأوا إلى التوسع عمودياً، بعد التضييق عليهم ومنعهم من البناء في المساحات الخالية التي سيطر عليها الاحتلال. وبعد خمسة عقود من الاحتلال والتطور القهري، لجأ الناس إلى البناء العمودي، إما بهدم الأبنية الصغيرة القديمة وتشييد أكبر وأعلى منها، وإما بإضافة غرف صفيح في الحدائق.
«كل عمليات البناء في القدس بيد الاحتلال. الترخيص لشقة واحدة يكلّف ٥٠ ألف دولار تُدفع لبلدية الاحتلال. وهو مبلغ هائل جداً. إذا أردت أن تشيد بناء من ٨ شقق مثلاً، يكلف ٤٠٠ ألف دولار من الرسوم البلدية. وبما أن سكان القدس غير قادرين على ذلك، لجأوا إلى البناء من دون ترخيص، وهناك ٢٠ ألف وحدة سكنية من دون ترخيص يعيش فيها ١٠٠ ألف من المقدسيين، ويخشون أن توقظهم كل صباح جرافة إسرائيلية لهدم ما بنوه».

لا نموّ اقتصادياً

الترخيص لشقة واحدة
يكلّف ٥٠ ألف دولار تُدفع
لبلدية الاحتلال

البعد الآخر المهم الذي أدّى إلى الإفقار هو انعدام النمو الاقتصادي في المدينة منذ خمسة عقود، لأن الاحتلال ألحقها كلياً بالاقتصاد الإسرائيلي. لم نستطع، ونحن الحلقة الأضعف في المعادلة، أن نشكّل بنية اقتصادية مستقلة. لم نضف غرفة فندقية واحدة في القدس الشرقية الأنشط سياحياً في العالم. النمو تركز في القسم الغربي من المدينة.
المؤرخ نظمي الجعبة لم يرَ «فندقاً واحداً جديداً يبنى في القدس، فيما يعتمد اقتصاد المدينة بشكل واسع على السياحة. وتدريجياً، تحول عمالنا إلى يد عاملة لدى الإسرائيليين من الأعمال البسيطة ذات الأجرة المتدنية كأعمال النظافة. وتحوّل ٨٠ في المئة من المقدسيين إلى طبقة تعيش تحت خط الفقر، بعدما كانت المقدسية طبقة وسطى متعلمة ومنفتحة تملك أعلى نسبة تعليم في الشرق الأوسط. صاحب الإفقار مشاكله مدن الصفيح التقليدية من التسرب المدرسي والعنف المنزلي، والمخدرات. الأراضي التي استولى عليها الاحتلال أضحت في الثلث منها مستوطنات، إلى حد أن ٢٠٠ ألف مستوطن باتوا يعيشون في القدس الشرقية في حلقات تحيط بالمدينة، أو بين الأحياء العربية أو في داخلها، أو في قلب البيوت العربية في أحشاء المجتمع المقدسي، وهدفها تفتيت النسيج الاجتماعي والسياسي للفلسطينيين، وتحويله إلى جزر متناثرة عاجزة عن الاشتغال مجتمعة».
لكن ما تحقق من تلك الأهداف لا يزال بعيداً عن بلوغ نقطة اللاعودة. الاحتلال لا يدرك أن الناس يملكون هم أيضاً آليات للرد عليه، والأفق لدى نظمي الجعبة لا يزال مفتوحاً.
«فالتغيّر الديموغرافي في المدينة يسير في اتجاه مضاد لما خطط له الاحتلال. كانت خطته الأولى ألا تزيد نسبة الفلسطينيين في المدينة الموحدة على العشرين في المئة، لكن نسبة الفلسطينيين لا تزال تزيد على الأربعين في المئة، وإذا أخرجنا من الحسابات السكانية العشرين في المئة من يهود «حراس الهيكل» (ناطوري كارتا) الذين لا يعترفون بالدولة اليهودية، يقفز الفلسطينيون إلى نسبة تبعد عن نصف سكان المدينة. لذلك أرى أن الاحتلال خسر معركته الديموغرافية، وجوهرة التاج فيها هي المدينة القديمة المسوّرة التي تبلغ مساحتها كيلومتراً مربعاً واحداً، وفيها المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، والمقدسات التاريخية».

المدينة القديمة عربية

يعيش في المدينة القديمة أربعون ألف نسمة، من بينهم ٣٧ ألف فلسطيني وثلاثة آلاف مستوطن. ولو رسمنا دائرة حول الأحياء القديمة، مركزها كنيسة القيامة، واتسع قطرها تدريجياً من كيلومتر واحد إلى عشرين كيلومتراً، سنرى أنّ الأكثرية في المدينة لا تزال عربية، المعنى مهم جداً.


«معركة السكن في القدس ليست قضية خاسرة، حتى لو بدا الأمر سوداوياً. هناك ٣٥٠٠ وحدة سكنية وعقار يملكها العرب في القدس، فيما لا يملك المستوطنون أكثر من ٨٠ عقاراً فيها بعد نصف قرن من الاحتلال والحصار. الأمور لا تزال مفتوحة على من يدعو من العواصم العربية إلى البراغماتية والتعامل مع الأمر الواقع إلى النظر في ذلك. إن ذلك ليس منهجاً مقبولاً لأن البراغماتية لا تعني التنازل عن الحقوق، وإنما الحفاظ عليها، ولو كان صلاح الدين قد أقر بأكثرية سكانية من الفرنجة في القدس واعترف بالأمر الواقع، لما كنا لنشهد حطين».

■ هناك تنافس يومي بين ترسانة الاحتلال للاستحواذ على المدينة وبين إبداع المقدسيين في الصمود؟

«إن بقاء المقدسيين في المدينة هو إنجاز كبير بحد ذاته، كما يعني أن مستقبل المدينة لا يزال مفتوحاً، يضرب بقرار دونالد ترامب عرض الحائط، نقل أو لم ينقل سفارته إليها. توّج الاحتلال سيطرته على الأرض بجداره العنصري لعزل القدس كلياً عن الضفة الغربية، فكراً أنها الوسيلة المثلى لقطع علاقة الفلسطينيين بالمدينة، للتخفيف بإحساسهم بوجود المدينة والتحكم بمصيرها، النتيجة كانت معاكسة تماماً، الناس يقفزون فوق جدار ارتفاعه ثلاثة أمتار ونصف متر للصلاة في الأقصى، وازداد عدد السكان الفلسطينيين داخل المدينة بنسبة ٤٠ في المئة. وكلما أوغل الاحتلال في وضع اليد على المدينة، أبدع الناس في الالتفاف على خططه. الناس عبّروا عن حبهم للمدينة عن طريق سلسلة بشرية أحاطت بأسوار المدينة، وجلسوا تحت السور يقرأون الكتب، ووقف جيش الاحتلال محتاراً لا يدري ما ينبغي أن يفعل. كانت صرخة مدوية شغلت الإعلام الإسرائيلي. من بين أساليب المقاومة أيضاً أن ينظم الشباب تجمعات متنقلة طيارة ومفاجئة تشتت قوات الاحتلال وتشغلها، وتزيد من كلفة البقاء فيها».
والاحتلال يبدع في مراقبة السكان، فهو ينشر غابة من الكاميرات في أنحاء المدينة. هناك ٤٠٠ كاميرا تراقب أزقة المدينة القديمة وحدها، ولكن ذلك لم يمنع الناس من مواصلة نشاطهم ودفع الثمن ومواجهة الاعتقال، صحيح؟
«هذه المراقبة أدت إلى رفع نسبة الاعتقالات، وخصوصاً في شريحة من هم دون الثامنة عشرة من العمر، وتم اعتقال ٨٠ في المئة من شباب القدس، وخصوصاً ممن هم ما دون السادسة عشرة، والبعض لم يبلغ الحادية عشرة وهو اعتقال قد يدوم يوماً أو أسبوعاً أو شهراً أو عاماً أو عشرة أعوام.

٨٠ في المئة من
المقدسيين يعيشون
تحت خط الفقر
وآخر بدعة للاحتلال الإسرائيلي هي الاعتقال المنزلي. لا يكلفه هذا النوع من الاعتقال غرفة أو حراسة أو مأكلاً، ويطال حتى من هم في سن العاشرة. يخضع الأهالي للابتزاز من الاحتلال الذي يحوّل بعضهم الى سجانين لأبنائهم، ويقبلون بذلك تفادياً لزجهم في سجون الاحتلال، وإذا ما أخلّوا بشروطه، يتعرّضون هم أيضاً للاعتقال. عشرات المنازل تحوّلت إلى سجون يتناوب فيها الأب والأم على حراسة ابنهما لكي لا يخرج من البيت، وبإمكان الاحتلال أن يدهمه متى شاء للتأكد من بقاء السجين في البيت، لكن ذلك لم يمنع الشباب من رمي الحجارة والتظاهر. مراكز الأبحاث الإسرائيلية تحاول أن تفهم ما الذي يدفع فلسطينية في الأربعين من العمر، من عائلة متوسطة الحال، لا مشكلة عائلية لديها، وأم لأربعة أطفال الى أن تهجم بخنجر على دورية إسرائيلية في باب العمود؟ هم لا يفهمون ماذا يعني أن تعيش تحت الاحتلال، ماذا أن تسلب أرضه وأن تهان كرامته. بنظرهم، الكل مسؤول باستثناء الاحتلال، وأن الفلسطيني إرهابي جينياً، ولا حق له أن يقاوم الاحتلال».

«حل الدولتين»

إحصاءات نظمي الجعبة تضع الأفق الفلسطيني أمام احتمال واحد هو الصمود. أما الاحتلال فأمامه خياران، إما المأسسة في السنوات المقبلة وإقامة نظام فصل عنصري، أو البحث عن خيارات أخرى، فيما الموقف العربي الرسمي والدولي لا يزال مع حل الدولتين.
نظمي الجعبة يعترض: «لكن هذا الحل الذي يعرض ٧٨ في المئة للإسرائيليين و٢٢ في المئة من فلسطين التاريخية للفلسطينيين هو حل يتعرض للتدمير. إذا أرادوا تطبيق هذا الحل عليهم أن يقتلعوا ٣٠٠ ألف مستوطن على الأقل، لكنني لا أرى أي كتلة إسرائيلية حكومية قادرة على اتخاذ هذا القرار، ولا أرى المجتمع الدولي يجبر إسرائيل على ذلك. ولكي نكون صادقين مع أنفسنا، لم يوافق الإسرائيليون أبداً على حل الدولتين. كل الإعلانات الرسمية الإسرائيلية تحدثت عن الدولتين، لكنها لم تكن قادرة على تعريف حل الدولتين، وعندما يتحدثون عنه فهو حكم فلسطيني بلدي يمنحهم حق جمع نفاياتهم بأنفسهم، لا سيادة في الجو، ولا في البحر، ولا في الأرض، ولا علاقات خارجية، ولا دفاع، فالأرض والحدود كلها بيد الاحتلال. ولنكون واقعيين، أتساءل إلى متى ينبغي أن نتمسك رسمياً بحل الدولتين. الفلسطينيون يتمسكون بهذا الحل لوجود إجماع عالمي حوله لا يريدون أن يخسروه، ولو طرحت شعاراً آخر لن تجد له دعماً أوروبياً أو عربياً. لكن من ناحية استراتيجية، ينبغي أن ندرك أن هذا الحل قد دُمر، وأن الاحتلال هو من دمره، وهو يعدّ لإقامة نظام فصل عنصري تحت مسمى الإجراءات الأمنية. الشارع الذي يمنع الفلسطيني من المرور فيه، هو إجراء أمني، الجدار الذي يبعده عن القدس إجراء أمني كذلك، لكنها بنية تحتية لنظام عنصري لتفتيت الضفة الغربية إلى ٣٦٠ جزيرة منفصلة، يمكن إغلاقها خلال ساعة واحدة. على مدخل كل قرية هناك قواطع، أو سيارة عسكرية، تحولها إلى جزيرة مع محيطها بمجرد إغلاقها. وهناك اتجاه لدى الاحتلال لتطبيق القانون الإسرائيلي على مستوطنات الضفة، وهناك النظام العسكري المطبق حالياً على الأراضي الفلسطينية، ما يجعل أرض الضفة منطقة تخضع لنظامين مختلفين أي نظام الفصل العنصري. وعلى ضوء ذلك، قد يكون المشروع الوطني الفلسطيني في المرحلة المقبلة ما كان عليه في جنوب أفريقيا، أي ناخب واحد صوت واحد، أي المطالبة بالمساواة في الحقوق مع المستوطنين، ونحن متساوون عددياً في فلسطين التاريخية مع المحتلين، وأنا اعتقد أنهم مهما أبدعوا لن يبدعوا أكثر من النظام العنصري في جنوب أفريقيا الذي فشل في النهاية، والمستقبل لنا».

■ لكن ما تشهده القدس والأراضي الفلسطينية هو إرهاصات انتفاضة؟

«لا مشكلة لديّ في التسميات. الأوضاع لم تهدأ ولن تهدأ. كم ستتسع؟ لا أحد يعرف. لكن لكل انتفاضة شروطها ولكل جيل أساليبه. ما رأيناه في القدس في تموز الماضي لم يكن متوقعاً لا في الشكل ولا في النتائج. أوقف المنطقة كلها على رؤوس أصابع قدميها، أن جمهوراً من عشرات الآلاف رفع سجادة صلاة في الأقصى وفي الساحات العامة وأذهل الجميع. قد لا يكون لدينا القدرة اليوم على تكرار الانتفاضة الأولى. الظروف الموضوعية تغيّرت، الحياة تغيّرت أيضاً، وعشنا وهماً بسبب وجود هذه السلطة، لكننا اخترنا نظام نمو قيّد الناس بقروض مصرفية للبيوت والسيارات والمدارس، وصرت ترى الموظف ينفق أكثر من نصف راتبه لتسديد ديونه. العالم من حولنا تغيّر. في الانتفاضتين الأولى والثانية، وقفت خلفنا شعوب عربية وغير عربية كثيرة. اليوم، نشعر أنه لا سند قوياً لنا، ومن كنت لا تتوقع في الماضي منه دعماً سياسياً، كان مع ذلك يدعمك مالياً، وأضحينا اليوم من دون هذا وذاك. قد لا نكون اليوم في المعارك الكبيرة، أو في خضم مجرد معارك مطلبية صغيرة محددة، لتثبيت أنك لا تزال على قيد الحياة، وأن الراية لم تنكسر، وأنك لم تهزم، وأنك مستمر في نضالك، عارفاً أن أمامك سنوات عجاف، عسى أن تتغير الظروف في المنطقة. لكن من الغباء اتخاذ قرار بخوض معركة كبيرة لأن الاحتلال سينفرد بنا تماماً، ولن نسمع مواقف رسمية أفضل مما سمعنا إزاء قرار ترامب، لا بد من حسبان كل المعطيات والمعارك الصغيرة التي تخاض في القدس حول كل بيت، كل شارع، معارك تقلل من الخسائر حالياً، وتراكم قوة لمعارك المستقبل. هناك اليوم سلطة تدافع عن مصالحها، وطابور طويل من البيروقراطيين داخل السلطة، لا مصلحة لهم في حل السلطة، يرتبطون برواتب شهرية. الحسابات تختلف وأشكال النضال اختلفت، ومن يريد أن يسمي ذلك انتفاضة، فلا مانع من ذلك».
ومن أجل القدس، قد تتسع المعركة في النطاق الديني بعد التحول في الموقف الأميركي من الصراع في فلسطين. انحازت الولايات المتحدة لإسرائيل دائماً واعتبرتها حليفاً استراتيجياً، لكن الموقف الأميركي أصبح أكثر خطورة لأنه يعتبر في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب أن الصراع بات دينياً عقائدياً.
«التيار المحافظ الديني الجديد يتقدم في الولايات المتحدة منذ أكثر من عشرة أعوام على المستوى السياسي والشعبي، وقد توج التقدم بانتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، وقد لا يكون ترامب نفسه منخرطاً في هذا التيار، لكن من المؤكد أن نائبه مايك بنس الممثل الأوضح لهذا التيار. وعنده أن نبوءة دينية تتحقق، وعليه واجب إلهي أن يساندها لكي تقوم إسرائيل الكبرى وتساعد في عودة المسيح، ولا ينبغي أن يكون دعمها من منطلقات استراتيجية فحسب، كدور إسرائيل في المنطقة لحماية المصالح الأميركية فيها وغيرها. والخوف كله أن تتبنى إسرائيل مجدداً مشروع إسرائيل الكبرى انطلاقاً من هذه النبوءة، اعتماداً على هذا الموقف الأميركي، وأن تلجأ إلى حرب اقتلاع وتهجير مجدداً».