«بداية ونهاية» هي إحدى أكمل أعمال نجيب محفوظ ببنائها المتماسك وإيقاعها المحكم ونقدها الاجتماعي الموجع، إلى جانب دقة تصويرها الواقعية لحياة الطبقة الوسطى في قلب القاهرة خلال الربع الثاني من القرن العشرين. الرواية هي رابع أعمال محفوظ الاجتماعية بعد «القاهرة الجديدة»، «خان الخليلي»، «زقاق المدق»، يفصل بينها وبين هذه الأعمال رواية واحدة من نسيج مختلف هي «السراب».
ومقارنة بهذه الأعمال التي تجنح في بعض عناصرها إلى الميلودراما، مثل إثارة الشعور بالشفقة والرثاء في «خان الخليلي»، أو الحل الذي يعتمد على المصادفات في «القاهرة الجديدة»، أو البناء الفضفاض والشخصيات النمطية في «زقاق المدق»، تنتمي «بداية ونهاية» كلية إلى التراجيديا في تعريفاتها الأكثر كلاسيكية.
«بداية ونهاية» الصادرة عام 1949 هي أيضاً أول عمل لمحفوظ يتحول إلى فيلم سينمائي عام 1960 على يد المخرج صلاح أبو سيف، وهو برأي كثيرين أفضل فيلم مقتبس عن نجيب محفوظ وواحد من أفضل أفلام السينما المصرية على الإطلاق.
كانت «بداية ونهاية» أيضاً أول رواية تتحول إلى فيلم في السينما العالمية، على يد المخرج المكسيكي أرتورو ريبستين وزوجته كاتبة السيناريو باث أليثيا غارثيا دييغو.. وهو فيلم حقق نجاحاً نقدياً ملحوظاً، وفاز بعدد من الجوائز على مستوى المكسيك وأميركا اللاتينية.
أول ما يلفت الانتباه في «بداية ونهاية» هو مشاهد نهايتها السريعة، اللاهثة، المربكة للمتلقي بعض الشيء، لأنّ تحول حسنين من شخصية الأخ المتطلع، الأناني، الذي لا يفكر في عواقب أفعاله على الآخرين، إلى شخص ينتحر تحت وطأة الشعور بالذنب بعد انتحار أخته بدقائق، هو أمر ليس فقط يصعب تصديقه في الواقع، ولكن الأهم أنه قد يصعب تصديقه فنياً، لأن المتلقي يحتاج إلى رؤية الشخصية وهي تتحول، وإلى التماهي معها جزئياً خلال هذا التحول. وهو ما يحقق «التطهير» الأرسطي، الذي هو الأثر، أو الهدف النهائي في التراجيديا.
ليس هناك خطأ في إيقاع الرواية. إحساس محفوظ صحيح كالعادة. في التراجيديا كما أوضح أرسطو في كتاب «فن الشعر»، تكون الفصول الأولى بطيئة. أما الفصل الأخير، فيجب أن يكون سريعاً جداً.
ملامح التراجيديا في «بداية ونهاية» تتجلى، أول ما تتجلى، عبر بنائها. منذ اللحظة الأولى التي يتم فيها زف خبر موت الأب للشقيقين حسين وحسنين ثم مشاهد نواح المعزيات (يا خراب بيتك يا اختي)، ومراسم الجنازة والعزاء، يبدو الأمر كأننا نستمع إلى أشعار الكورس ودقات النواقيس المصاحبة في مأساة إغريقية كلاسيكية. دقات القدر المحتوم تفرض نفسها على العمل منذ اللحظة الأولى: الموت غير المشرف هو المصير الذي سيذهب إليه معظم أفراد هذه الأسرة، إذا استثنينا الأخ الأوسط حسين. القدر الذي يحكم عليهم بهذا المصير، هو قدرهم الطبقي، الانهيار الذي تتعرض له الطبقة الوسطى نتيجة ظروف خارجة عن إرادة أفرادها: موت الأب، الأحوال الاقتصادية المتدنية محلياً ودولياً نتيجة عدم الاستقرار السياسي وشبح الحرب المخيم على الأبواب، جهلهم بصعوبة وضعهم، وسعي كل منهم، بطريقته، لتحدي ومناطحة قدره، هو بالضبط ما يدفعهم إلى السقوط سريعاً في براثن هذا القدر.
حسين فقط، الأخ القانع بقدره، المتأمل والمتفسلف، الذي يعلق بأفكاره، مثل صوت الكورس المعلق على الأحداث في المأساة الاغريقية، يردد عبارات تكشف عن جوهر المأساة من نوعية:
«مصر تأكل بنيها بلا رحمة، ومع ذلك يقال أننا شعب واحد.. وهذا منتهى البؤس الذي غايته أن تكون بائساً وراضياً»، «الجاه والحظ والمهن المحترمة وراثية في هذا البلد. ليست تلك الرؤية حقداً ولكنها حزن على النفس وعلى الملايين، ليس على فرد ولكن على أمة مظلومة».

أمثال حسنين انضموا إلى
الثورة، وصعدوا معها
مواصلين انتهازيتهم

ملامح المأساة تتمثل كذلك في المصائر، أو المسارات الاجبارية، التي تذهب فيها الشخصيات رغماً عن إرادتها، وفقاً لطبائعها وظروفها الفردية غير القابلة للتغيير أو التعديل.
الارتباك الذي قد يصيب قارئ الرواية في الصفحات الأخيرة ربما ينجم عن التحول السريع في الأحداث الذي يتحول معه العمل من ميلودراما عائلية تقليدية، إلى مأساة قاسية لا هوادة ولا حلول وسطى فيها. يدير محفوظ الفصل الأخير من مأساته بفهم عميق للنوع الفني وبراعة تقنية مدهشة من خلال عدد من المشاهد المتتابعة المتلاحقة بدءاً من المشهد 84، حتى المشهد 92، والأخير في كريشندو يتصاعد وصولاً إلى مشهد النهاية: حسنين مصلوباً فوق سور الكورنيش يهم بالقفز في النيل عقب موت اخته سنية بالطريقة نفسها.
في فيلم صلاح أبو سيف، تنزل كلمة «النهاية» على جسد حسنين وهو يسقط في الماء. وفي فيلم ريبستين يكون انتحار جابريل أكثر تفصيلاً ودموية، حيث يقوم بقطع شرايينه كما فعلت أخته.
المدهش أنّ الرواية نفسها لا تؤكد على انتحار حسنين. السطور الأخيرة تتوقف عند كلماته: «...وبلغ الموقع نفسه من الجسر فارتفق السور وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياج واصطخاب. وأخلى رأسه من الفكرة. «إذا أردت هلم. لن أصرخ. فلأكن شجاعاً ولو مرة واحدة. ليرحمنا الله»».
هذا الإحساس الدقيق بالإيقاع وبالتوازن الكلاسيكي، هو الذي يجعل محفوظ يتوقف في تلك اللحظة، لا قبلها، ولا بعدها، في نهاية مفتوحة على صورة حسنين بالبدلة الميري فوق منصة مرتفعة مطلاً نحو الأسفل شاهراً يديه: هل سينتحر؟ أم سيواصل حياته ويتحول إلى زعيم سياسي؟
تدور وقائع «بداية ونهاية» من عام 1935 وحتى عام 1939، وفقاً لبعض الإشارات التاريخية المتناثرة عبر النص، ونجيب محفوظ انتهى من كتابتها عام 1949، ومن ثم لم يكن يخطر في باله بالطبع الحديث عن «ثورة يوليو» وما أعقبها من إطاحة بالنظام الملكي والحزبي ومن تغيرات في البنية الطبقية والاجتماعية. ولكن لنرجع معاً إلى المشهد 74 من الرواية، وهذا الحوار الذي يدور بين أفراد العائلة، يسأل حسين أخاه:
«- هل حقاً ما يقال عن احتمال سقوط الوزارة؟
فضحك حسنين قائلاً:
- غير مسموح للضابط الاشتغال بالسياسة.
فضحك الشاب، ثم قال:
- كيف تسقط بعد أن نفض الانجليز أيديهم من سياستنا؟
وتساءلت الأم:
- أنعود مرة أخرى إلى المظاهرات؟
- من يدري؟
فعادت تقول بقلق:
- لا شأن للجيش مع المظاهرات؟
فقال حسنين بمكر:
- إذا قامت ثورة فلا بد من تدخل الجيش!
وضحك حسين، وأدركت الأم ما تعنيه ضحكته، فرمت حسنين بنظرة شزراء وهزت منكبيها استكانة».
نجيب محفوظ ــ على لسان حسنين ــ كان يدرك مبكراً جداً أن الغليان الاجتماعي والسياسي الدائر في البلاد قد يؤدي إلى اندلاع المظاهرات، والثورة، وتدخل الجيش. ورغم أن نبوءة حسنين كانت تتخذ نبرة الهزل، إلا أنها تتحقق فعلاً بعد سنوات قليلة من صدور الرواية، وإن كان دور الجيش لم يقتصر على التدخل فقط.
«بداية ونهاية» عمل فني بديع يعالج تأثير الفقر وعلاقته بالأخلاق مثلما لم يفعل عمل قبله، وقالب التراجيديا الذي يستخدمه محفوظ يخدم هذه الفكرة كأفضل ما يكون، لأنه يجعل من النظام الاجتماعي قدراً قاسياً محتوماً لا قدرة للأفراد على الفكاك منه. لكن ذكاء محفوظ الخارق يجعله يشير في الصفحات الأخيرة من روايته إلى احتمالية «الثورة» القادمة، ويجعله أيضاً ينهي روايته دون أن يؤكد أن حسنين قد لحق بأخته إلى قاع النهر.
في الواقع، من المستبعد أن ينتحر حسنين كشريحة اجتماعية متسلقة وانتهازية، طالما رصد محفوظ طباعها وتأثيرها في أعمال تلك الفترة مثل محفوظ عبد الدايم في «القاهرة الجديدة»، وحميدة في «زقاق المدق». ومع أن محفوظ يرصد سقوطهم المادي بعد سقوطهم الأخلاقي والمعنوي، إلا أن الواقع يؤكد لنا أن «القدر» لا يعاقب دائماً هذه النماذج وأن «العدالة الشعرية» تظل غالباً بين جنبات الشعر والفن.
الواقع يقول لنا إنّ أمثال حسنين واصلوا الحياة لسنوات قادمة وانضموا إلى صفوف الثورة وصعدوا معها إلى قمة الهرم الاجتماعي مواصلين انتهازيتهم فوق جثث ضحاياهم. أمر يرصده محفوظ في أعماله اللاحقة بدأب ومزيد من «الواقعية»، متخلياً عن نهاياته «المثالية» التي اتسمت بها روايات فترة الشباب!
لذلك، أرى أنه لا يجب التوقف عند السطور الأخيرة من رواية «بداية ونهاية» من دون أن نقارنها بما كتب قبلها وبعدها، كما أرى أن مصطلح «الواقعية» الذي نميز به أعمال نجيب محفوظ الأربعينيات وبداية الخمسينيات يحتاج إلى مناقشة.