هل كانت الولادة متعثرة؟ ربما تكشف إجابة السؤال جزءاً من «أسطورة» الاسم. اسم المولود الجديد: نجيب محفوظ!حكت أمه فاطمة ابنه الشيخ مصطفى قشيبه ـــ كما قال في حوار إذاعي عام 1981 - أنّ الولادة كانت عسيرة وأن الاب التقليدي استدعى الطبيب الشهير وقتها نجيب محفوظ لتوليد الأم، عندما رأى خطراً على صحتها. لكن الأم حكت أيضاً أنهم اختاروا له اسم حافظ نجيب اللص الشهير وقتها، وكان اسمه رناناً في مصر كلها.

لكن الشخص الذي ذهب إلى مكتب المواليد لتسجيل الاسم، نسي اسم «حافظ نجيب» وتذكر اسم الطبيب. يضحك نجيب محفوظ وهو يحكي الروايتين: «ربنا أعلم بالحقيقة، وقد تكون هذه الحكايات مجرد أساطير اخترعت، ويكون اللي خلفونا روائيين زينا».
من الإجابة، يبدو ولع محفوظ الروائي بصناعة الأساطير، بتعدد تأويلاتها وانفتاحها على الدلالات المختلفة.
اسمه أسطورة أيضاً. لم تكن الأسماء المركبة قد منعت وقتها. كانت تقليداً مصرياً، لكن المدهش أن هذا التقليد المصري ارتبط بتسمية المولود باسمه الذي اختارته له العائلة مضافاً إليه اسماً آخر، وعادة ما يكون اسم الخديو أو الملك.
يحكي عباس العقاد في كتابه «حياة قلم»: «ومما يحضرني من ذكرياتي فيما دون العاشرة، أنني رفضت أشد الرفض أن أجيب نداء المعلم حين دعاني باسم «عباس حلمي» جرياً على تقاليد ذلك العهد التي بقيت إلى الآن في أسماء المعاصرين. فلم يكن أحد من التلاميذ يدعى باسم أبيه، ولكنهم كانوا يلقبون بألقاب حلمي وصبري ولطفي وحسني وشكري، وما شاكلها على حسب المطابقة لأسماء المشهورين أو الموافقة لجرس اللقب ورنينه في الأسماع، فبقيت واحداً من قليلين يذكرون بأسماء آبائهم بين أبناء هذا الجيل. ولولا إصراري على رفض اللقب المستعار، لكان اسمي اليوم «عباس حلمي محمود» كما كتب في قائمة «التصنيف» أي توفيق الأسماء والألقاب»! لكن نجيب محفوظ لم يحمل اسم «الحاكم» كعادة الأسماء المركبة، وإنما اسم الطبيب «القبطي» في الأسطورة الأولى التي ينفيها هو مرات ومرات، أو اسم اللص الظريف (كان مدخله إلى عالم الأدب) في الأسطورة الثانية!
لنختبر إذن صحة الحكايتين الافتراضيتين. ولد نجيب محفوظ (الطبيب) في كانون الثاني (يناير) 1882 في مدينة المنصورة، أي كان عمره وقت ولادة محفوظ 29 عاماً. تخرج من كلية الطب عام 1908 وكان الأول على دفعته ضمن ثمانية آخرين تخرجوا في العام ذاته. كانت شهرته في البداية كطبيب باطنة، ولكنه أتقن عمليات الولادة العسيرة، واتفق مع مفتشي صحة أقسام القاهرة على استدعائه في الولادات العسيرة التي يدعون لها «على ألا أطالبهم نظير ذلك بأجر»، كما يقول في مذكراته: «وقد واظبت على ذلك خمس عشرة سنة، أجريت خلالها نحو ألفي ولادة في المنازل، ولست أغالي حين أقول إني لم أبت في منزلي أثناء تلك الحقبة أكثر من يومين فى الأسبوع».
وقد حقق - في سن صغيرة- شهرةً كبيرةً بسبب نجاحه في إجراء العديد من الجراحات في أمراض النساء.
استمر نجاح محفوظ في أوساط الطبقات الفقيرة تحديداً، خصوصاً أنّ الأسر الكبيرة وحدها التي كانت تلجأ إلى أطباء. وافتتح عيادة في القاهرة لم يكن يتقاضى في البداية أي أجر على ما يقوم به من أجل كسب ثقة المصريين الفقراء.
الغريب أن الدكتور نجيب محفوظ تزوج في تشرين الثاني (نوفمبر) 1911، أي قبل شهر واحد من ميلاد سميه الروائي نجيب محفوظ. والمدهش أيضاً أنه كان في إجازة شهر العسل لمدة شهرين مع زوجته في ذلك الوقت، وهو ما نشرته جريدة المقطم، ونشره محفوظ في مذكراته. ولكن يظل السؤال: هل قضى الشهرين خارج مصر كما كان يخطط؟ أم عاد قبل أن يكملهما؟
التشابه بين اسم محفوظ الطبيب والأديب أحدث العديد من المفارقات الضاحكة لكليهما. حكى محفوظ في أحد حواراته أن الأديب الصحافي السوري نزيه الحكيم جاء ليزوره في القاهرة سنة 1945، ولكنه ذهب إلى عيادة الطبيب، وراح يحدثه عن رادوبيس وكفاح طيبة والقاهرة الجديدة، حتى قال له الدكتور نجيب محفوظ: «أنا يا بني جرّاح، ولست طبيب أمراض عقلية». لكن محفوظ يحكي في حوارات أخرى أنه لم يكن يعرف الطبيب معرفة شخصية. حتى أخذه صديقه ثروت أباظة إليه وقدمه له قائلاً: «هذا أحد مواليدك يا باشا».
في الحكاية الثانية، التي حكاها على لسان والدته، يتحدث عن أسطورة أخرى، حافظ نجيب (1879-1946) الذي كان مادة صحافية خصبة للجرائد والمجلات في تلك الفترة، وحسب جريدة «المحروسة» (1909): تسابقت الصحف في تتبع أخباره وتسجيل حوادثه، وإجراء التحقيقات الصحافية معه عند القبض عليه، وعقد موازنات بينه وبين المحتالين العالميين مثل النصاب الباريسي الماير»، وقد وضع عنه صديقه الصحافي اللبناني جورج طنوس كتابين الأول عام 1909 بعنوان «نابغة المحتالين أو حافظ نجيب»، والثاني بعده بعام بعنوان «الراهب المسلم». وحسب المؤرخ أحمد حسين الطماوي، بالرغم من انحراف حافظ نجيب، إلا أنه أحد صناع الثقافة. إذ أنه شاعر وقاص وروائي ومترجم وكاتب مسرحي، وممثل مسرحي، وواعظ ديني وصحافي حرر مجلتين. وبعيداً عن أسطورة التسمية، فإن حافظ نجيب كان مدخل نجيب محفوظ إلى عوالم الأدب والفن، قاده إلى «أبواب السحر ومدائن الغرائب». يقول محفوظ: «أعطاني صديق رواية بوليسية، وكانت خارج المقرر الدراسي ومن هذا اليوم لم أتوقف عن القراءة. ومن صغري كنت أقرأ ما كتبه حافظ نجيب، وكان «حرامي مثقف» وعربيداً دوّخ الحكومة! وأصبح أشهر مؤلف قصص بوليسية وأشهر مؤلفاته «جونسون» و«ميلتون ويب». هذه السلاسل كانت بديلاً لكتب الأطفال». يضيف محفوظ: «في ذلك الوقت، لم تكن هناك كتب لصغار السن، وكان أقرب شيء يصلح لنا الروايات البوليسية. وبعد عشرات من الروايات التي كان بطلها جونسون، وزاد عددها عن العشرين، انتهت السلسلة، لكن نجاحها دفع حافظ نجيب إلى إصدار سلسلة جديدة عن ابن البطل أسماها «ابن جونسون»، والحقيقة التي اكتشفتها لاحقاً أنه لم تكن هناك سلسلة باسم «ابن جونسون»، لكن المترجم أراد استثمار نجاح السلسلة بعد انتهائها. ولما كان بطلها جونسون قد مات في الرواية الأخيرة، رأى حافظ نجيب استكمالها بأن جعل للبطل ابناً يمكّنه من إصدار الروايات، أي أنه كان يؤلف هذه الروايات كما علمت بعد ذلك، لكنه كان يضع عليها عبارة ترجمة حافظ نجيب لأن القراء كانوا يحبون الروايات البوليسية المترجمة التي لم يكن في مصر من يكتبها. وكانت أحداث روايات جونسون تجري في فرنسا باعتبار المؤلف فرنسياً، لكن حافظ نجيب نقل أحداث روايات ابن جونسون إلى أميركا اللاتينية. الطريف أنني في ذلك الوقت لم أكن أعرف جونسون ولا ابنه، لكني حين عرفت الابن في الرواية الأولى، وبقية سلسلة ابن جونسون، عدت إلى السلسلة السابقة عليها الخاصة بجونسون نفسه، ثم توصلت بعد ذلك إلى سلاسل أخرى لــ «ملفيل توب» و«روكامبول» وغيرهما. وعن طريق كتب «الأهرام» المترجمة، بدأت دائرة قراءتي تتوسع حيث كنت أتابع إعلانات هذه الكتب في الجريدة، وأسارع بشرائها ولم أعد بحاجة لاستعارة الكتب من صديقي العزيز يحيى صقر».
يحيى صقر هو زميل محفوظ في المدرسة، وزميله في فريق كرة القدم أيضاً، سيتحول فنياً إلى يحيى مدكور كما يحكي محفوظ الحكاية في نصه الفني المكثف في «حكايات حارتنا» الذي يتضمن حكايات الطفولة: «يحيى مدكور أمهر لاعب كرة في مدرستنا، وصديقي المفضل في المدرسة الابتدائية. أجده يوماً يقرأ كتاباً في الفسحة فأسأله: ما هذا؟
ــ ابن جونسون.. الحلقة الأولى من سلسلة بوليسية جديدة.
ويعيرني الكتاب بعد فراغه، فأقرأه بسعادة لم أجد مثلها من قبل. وأواظب على قراءة السلسلة، ثم أنتقل من سلسلة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر، ثم أدمن القراءة. وأصير مع الزمن بطلاً من أبطال القراءة، أما صديقي فيهجرها سريعاً، ثم يتربع على عرش الكرة».
هناك أيضاً حكاية ثالثة، لزينب شقيقة محفوظ التي تكبره بـ 17 عاماً رواها ابنها محمود الكردي في كتابه «من الجمالية إلى العالمية» على لسان والدته: «توقفت والدتي عن الحمل حوالي عشر سنوات، وكان املها أن تنجب ولداً ثالثاً. وعندما قضت سنوات دون الحمل، قطعت الأمل في الانجاب. وذات يوم، شعرت بالحمل ولم تبح بالسر، فمضت أشهر وظهرت عليها علامات الحمل فعم السرور أفراد الأسرة. انتظرت يوم الوضع بفارغ الصبر، حتى آتاها المخاض وحضرت الداية ومرت ليالي ثقيلات الخطو، مرهقات بأعباء الفكر لأم تتأوه من شدة الآلام، والوالد متلهّف لسماع صوت المولود، والداية أصبحت قلقة مضطربة لمدة ثلاثة ليالي وشعرت بأن الحالة سيئة، فتوجهت إلى الوالد وطلبت منه أن يحضر طبيب ورشحت دكتور شاب له سمعة حسنة، ساورني الخوف والقلق على والدتي، ولم أذق طعاماً ولا نوماً، حضر الطبيب. وعند دخوله الغرفة تمت عناية الله ووضعت أمي حملها، وإذا بالداية تهلل وتكبر وذهبت بسرعة إلى الوالد واخبرته بانجاب ولد، فشك الدكتور وقال له: قدومك أسعدنا وسيكون اسم المولود على اسمك».
الغريب أن اسم «نجيب محفوظ» سبّب له العديد من المشكلات، وتعرض للكثير من سوء الفهم. وكان أستاذه في الجامعة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكان محفوظ من مريديه وزواره الدائمين في بيته طوال عامين. ورغم كل تلك العشرة، إلا أن الشيخ الفيلسوف لم يكتشف أن تلميذه الأثير مسلم! حتى كان يوماً في قاعة الجامعة يلقي محاضرة عن أصول الإسلام، وسمع الطلاب أستاذهم يقول: «إن الطلبة المسلمين يعرفون هذا الموضوع جيداً لكني سأعيد شرحه مرة أخرى علشان أخونا نجيب محفوظ». لكنه فوجئ بالطلاب يهتفون: «يا مولانا.. دا مسلم!».
كما كان الاسم سبباً أساسياً في أن يفقد بعثة للسفر إلى فرنسا لدراسة الفلسفة، إذ تصور مدير البعثات في وزارة المعارف إبراهيم رمزي وكان كاتباً مسرحياً أن نجيب محفوظ قبطي، فقرر حرمانه من البعثة! وهو ما كشف عنه أدهم رجب صديق محفوظ في حوار له في مجلة «الهلال» (فبراير 1970): «اسم نجيب محفوظ جنى عليه‏، فقد تم حرمانه من البعثة إلى فرنسا بسببه‏، ولا أستطيع أن أفصح أكثر من ذلك لحساسية الموضوع‏.‏ والاسم الكامل لنجيب محفوظ هو نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا‏، ولكنه كان يوقع أوراقه الرسمية ووثائقه باسم نجيب محفوظ فحسب‏.‏ وبسبب هذا الاسم، أفلتت منه فرصة العمر باعتبار ما كان‏.‏ ولكن أعود فأقول‏:‏ الحمد لله‏، فربما لو كان نجيب محفوظ سافر في بعثة الفلسفة تلك‏، باعتباره كان الثاني علي دفعته في قسم الفلسفة‏، وهي دفعة ‏1934، لكان عاد متخصصاً ومتبحراً في الفلسفة‏، ولربما عاد أستاذاً في الفلسفة‏، وساعتها‏، من يدري‏، ربما كانت اهتماماته قد تحولت عن الأدب‏».
وقد علق نجيب محفوظ في العدد ذاته من المجلة على ما كتبه الدكتور أدهم رجب، فقال‏:‏‏ «بل ضاعت علي بعثتان لا بعثة واحدة‏:‏ بعثة في الفلسفة وبعثة في اللغة الفرنسية‏، والسبب فعلاً هو اسمي‏.‏ وقد تحرج الدكتور أدهم من رواية السبب‏، ولست أرى سبباً للحرج‏، فقد راح ذلك وانتهى‏.‏ والقصة أن السراي كانت تضطهد الأقباط لأنها كانت ترى أنهم العماد الأساسي لحزب «الوفد»‏، وقد اشتبهوا في اسمي ظناً منهم أنني قبطي‏.‏ وكنت ثاني دفعتي وكان الأول قبطياً فقالوا‏:‏ يكفي قبطي واحد‏.‏ وأخذوا الأول والثالث وتخطوني‏. وأنا لست حزيناً على بعثة الفلسفة‏، لكني كنت أتمنى لو أنني ذهبت إلى فرنسا في بعثة اللغة الفرنسية‏، كنت سأتجه كلياً إلى ما اتجه إليه توفيق الحكيم في «زهرة العمر»».
لقد اختار محفوظ منذ البداية أن يحذف اسم والده (عبدالعزيز) من توقيعه سواء على المقالات التي كان يكتبها أو في رواياته. اكتفى باسمه مجرداً من العائلة. ربما تفسرها أعماله الروائية التي كان فيها ناقداً ومعارضاً للنظام الأبوي، وسلطة الأب والعائلة، أراد منذ البداية أن يكون «هو» نفسه بدون الاستناد إلى سلطة أخرى، وهو ما فسره على لسان كمال عبد الجواد في الثلاثية: «كلّ شيء في هذا البيت يخضعُ خضوعاً أعمى لإرادةٍ عليا ذات سيطرة لا حدَّ لها هي بالسيطرة الدينية أشبهُ».
وفي «الثلاثية»، يعلن أحمد حشمت: «من الخطأ أن يكون للإنسان والدان»!. يسأله كمال عبد الجواد: «كيف هان عليك أن تقول هذا؟». يجيبه: «لا أعني حرفيته، ولكن ما يرمز إليه الوالدان من تقاليد الماضي، فالأبوة على وجه العموم فرملة وما حاجتنا في مصر إلى الفرامل، ونحن نسير بأرجل مكبلة بالأغلال».
وهكذا اختار محفوظ أن يعبر عن موقفه الديني والفلسفي والأخلاقي من النظام العائلي والكوني... من السلطة الأبوية!