لو سارت الأمور كما ينبغي، فمن المفترض أن يتمّ خلال الأسبوع القادم، قبل نهاية الشّهر، إطلاق أكبر صاروخٍ يُرسل الى الفضاء منذ أيّام برنامج «أبولو» وصواريخ «ساتورن-5» الهائلة، التي كانت مصمّمة لنقل روّاد الفضاء ومركباتهم ومعدّاتهم، ذهاباً واياباً، الى القمر.
النّظام الجديد اسمه «فالكون الثقيل»، ويبدو أنّ تجربته الأولى سوف تتأخّر بسبب «إقفال» الحكومة الأميركية بسبب الخلاف على اقرار الميزانيّة، فلا يوجد ــ بحسب الشركة الصانعة ــ ما يكفي من عناصر سلاح الجوّ في الخدمة لتأمين الإطلاق ــ وهو من المفترض أن يحصل من على منصّة LC-39A التاريخيّة في فلوريدا التي انطلقت منها، في الستينيات والسبعينيات، المهمات المأهولة الى القمر (الصّاروخ أصبح بالفعل مستوياً على المنصّة، ينتظر التجارب النهائية ومن ثم الإطلاق).
حتّى نفهم حجم وقدرة «فالكون الثقيل»، تصوّروا أنّه قادرٌ على نقل بين 45 و63 طنّاً من الحمولة الى خارج الغلاف الجوّي والى مدارٍ قريبٍ من الأرض. هو فعلياً عبارة عن ثلاثة صواريخ «فالكون ــ 9» مربوطةً جنباً الى جنب، فيشتعل مع إطلاق الصّاروخ 27 محرّكاً في الآن ذاته، بدلاً من تسعة محرّكات في فالكون-9 (الذي يستخدم منذ أكثر من سنتين لإطلاق الأقمار الصناعية الثقيلة). التجربة الأولى لن ترسل حمولةً مفيدة الى المدار، بل سيكون في أنف الصّاروخ سيّارة «تِسلا رودستر»، خاصّة بمالك الشركة ايلون ماسك، وسيتمّ قذفها في الفضاء الخارجي لتصل الى مدارٍ حول كوكب المرّيخ، وتسبح في الفضاء الى ما لا نهاية.
هناك ثلاثة عناوين «فريدة» هنا: أوّلاً، أنّ هذا النّظام لم تنتجه حكومة أو شركة دفاع، بل شركة خاصّة «مدنيّة» هي «سبايس اكس»، التي أسّسها البليونير مالك «تِسلا» ايلون ماسك. ثانياً، أنّ «سبايس اكس» تزعم بأنّ تقنياتها تفتتح عهداً جديداً من السّفر الرخيص الى الفضاء (كما هو الحال مع «فالكون-9»، من المفترض أن تعود المراحل الثلاث ــ التي تكوّن «فالكون الثقيل» ــ الى الأرض لتحطّ سالمةً ويتمّ إعادة استخدامها من جديد، ما يقلل من كلفة الإطلاق). و، ثالثاً، أنّ «فالكون الثقيل» يمثّل «نهضةً أميركية» في صناعة الصواريخ، تقودها الشركات الخاصّة، وقد أخذت اميركا من حالة «انحدارٍ» كانت تعيشها هذه الصناعة قبل أقلّ من عشرة أعوام (حتّى أنّ الشركات الأميركية كانت تضطرّ الى شراء محرّكات روسية لصاروخها الثقيل، لعدم توفّر بديلٍ أميركي) الى تصدّر غزو الفضاء اليوم.

اقتصاد الفضاء

ما ذُكر أعلاه هو، فعلياً، «الرّواية الرسمية» عن الموضوع: مغامرون رؤيويّون، مثل ايلون ماسك وجيف بيزوس (الذي أسّس الشّركة التي ستنافس «سبايس اكس» وأسماها «بلو اوريجين»)، يراهنون بمالهم على مستقبلٍ مختلف للبشريّة وينجحون، بفعل مهاراتهم التقنية والتنظيمية، في إبداع تكنولوجيا جديدة وبناء صواريخٍ أكثر فعالية بكثير من تلك التي تنتجها الحكومة ووكالاتها؛ وهم سيجعلون استعمار الفضاء، بل والسّفر اليه، رخيصاً ومتوافراً، بل وقد يأخذوننا الى المرّيخ! قصّة جميلة يربح فيها الجميع؛ ومن هنا نشأت حول برامج الفضاء هذه مواكبةٌ إعلاميّة وشعبيّة حافلة وجمهورٌ هائل من «المشجّعين». في اميركا، دخل تعبير «عالِم صواريخ» («الأمر لا يحتاج الى عالم صواريخ»، «ابني ذكيّ ويريد أن يصبح عالم صواريخ») في الاستخدام الشعبي خلال الحرب الباردة والتنافس السوفياتي ــ الأميركي، حين أصبح برنامج الفضاء رمزاً وطنياً أساسياً، ودليلاً على «تفوّق» النظام الأميركي على غريمه. فأصبح «عالِم الصواريخ» مثالاً لأذكى وأكفأ مَن في المجتمع، والمولج بأعظم المهام وأخطرها. اليوم، بدلاً من الأعلام الوطنية وشعارات التحدّي، يتمّ التسويق لـ«حمّى الفضاء» عبر سرديّة «البليونير الشابّ المبدع» وتفوّق القطاع الخاصّ.
المشكلة الاولى في هذه السّرديّة هي أنّها تخفي «الأصول الحكومية» والأمنيّة لهذه المشاريع. بل إنّ بناء برنامج الفضاء الأميركي الخاصّ يشبه، كأكثر البرامج العلمية في اميركا، النّمط «الحكومي» في بناء القدرات، وليس نمط القطاع الخاص الحرّ. السّبب الحقيقي لدخول أمثال ماسك وبيزوس في «بيزنس الفضاء»، أصلاً، هو أنّ الحكومة قد طلبت من القطاع الخاصّ تطوير هذه الأنظمة، ووعدتهم بتمويل للأبحاث وبسوقٍ مضمون بعد التطوير ــ أي أنّ الأمر يشبه عقداً حكومياً أكثر من مبادرة فرديّة. برنامج «سبايس اكس» بأكمله، من «فالكون-1» الصغير الى «فالكون الثقيل»، لم يكن ممكناً لولا عقود الحكومة، من «ناسا» التي تلزّمه مهمّات تزويد المحطة الفضائية الدولية والنقل اليها (وهي كثيرة ومربحة)، الى وكالات الدفاع والاستخبارات التي ترسل على متن «فالكون-9» أقمارها التجسسية. بل إنّ صاروخ بيزوس التجريبي «نيو شيبيرد» (وهو لا يفعل شيئاً ولا ينقل حمولة، بل يصعد فحسب الى حدود الغلاف الجوّي ثم يهبط. فالهدف منه اختبار المحرّك والتكنولوجيا وتقنية استرجاع الصاروخ وإعادة استخدامه، قبل تطبيقها على صاروخٍ تجاريّ كبير في المستقبل). حتّى هذا المشروع الإختباري يتلقّى عقوداً من «ناسا»، التي تُرسل »تجارب علميّة» على متنه (أي حجّة لدفع ثمن الصاروخ). بمعنى آخر، الفارق بين قطاع الفضاء الأميركي وغيره هو ليس فقط في قدرة القطاع الخاص الأميركي ورساميله وإبداعه بل هو في أنّه، في اميركا فقط، هناك من يدفع لك مليون دولارٍ لكي تُرسل ليمونةً الى حدود الغلاف الجوّي.
حتّى نفهم اقتصاديّات غزو الفضاء يجب أن نتذكّر عاملين اثنين: أوّلاً أن استكشاف الفضاء واستعماره جاءا، قبل أي شيء، لأسباب عسكريّة و، تالياً، أنّ جزءاً أساسياً من العقود لوضع أقمارٍ صناعيّة في المدار اليوم تأتي من الحكومات، سواء في اوروبا والصين أو في اميركا. فمن تقدّم حكومته سوقاً أكبر وعقوداً مربحة يقدر على تطوير برامج معقّدة ومن ليست له سوقٌ لن يفكّر في ذلك. على سبيل المثال، تقنية استرجاع الصاروخ ليست جديدة، بل كانت هناك برامج منذ السبعينيات لإسقاط الصواريخ في البحر بعد الإطلاق وإعادة استخدامها، وكان مشروع المكّوك الذي بنته «ناسا» يعيد استخدام مراحل من الصاروخ، ولكنّ العملية ببساطة لم تكن اقتصادية. يقول أحد مديري برنامج «أريان» الأوروبي لموقع «سبايس نيوز» أنّ تصميم صواريخ يعاد استخدامها ينطوي على تكاليف عالية للأبحاث والتطوير، وهذا لن يكون مجدياً الّا لو كنت قادراً على إطلاق 35 ــ 40 صاروخاً في السّنة، وهو ما لن تؤمّنه اوروبا يوماً (أطلق «اريان» 12 مهمّة السنة الماضية، منها خمس حكوميّة، فيما أطلقت «سبايس اكس» ــ الجديدة في السوق ــ 17 مهمّة السنة الماضية، وهي تتوقّع قرابة 30 مهمّة هذه السّنة).

دعاية وحقائق

في الأصل، هناك سببٌ لأن يكون «فالكون الثقيل» هو أكبر صاروخٍ في العالم حالياً، وهو أنّه ــ بالمعنى التجاري ــ لا حاجة لصاروخٍ بهذا الحجم لإطلاق أقمارٍ صناعيّة للاتصالات أو للإستخدامات المدنيّة. «السّوق» الأساسي لصاروخٍ هائلٍ كهذا هو المهمّات في عمق الفضاء، حيت تُرسل الحكومة روّاد فضاء ومركبات، أو تركّب محطّات فضائية، أو ترسل مسباراً أو مهمّة خاصّة تحتاج الى نقل أوزانٍ ثقيلة. يجب أن نتذكّر أن ثمن القمر الصناعي (وهو بمئات ملايين الدولارات) أكبر بكثيرٍ من ثمن الصّاروخ الذي يطلقه («فالكون-9» يكلّف، بالمقارنة، أقلّ من ستين مليون دولار). أي أنّه لا يوجد لديك حافزٌ لبناء صواريخ أكبر بلا حدود، فلو كنت قادراً نظرياً على إرسال خمسة أقمار صناعية ــ مثلاً ــ على متن الصاروخ، فليس من الحكيم هنا أن تخاطر بملياريّ دولار، تضعها جميعها على صاروخٍ واحد، من أجل أن توفّر عشرين مليوناً.
إضافة الى ذلك، فإنّ الكثير من وعود الإبداع التقني وخفض التكاليف لم تتحقّق بعد. على سبيل المثال، كانت نظرية ايلون ماسك هي أنّ «فالكون الثقيل» سيكون تنافسيّاً لأنّه يعتمد على الصاروخ القديم والمحرّك ذاته، ويضع ثلاثة منه في رزمة، فلن يكلّف كثيراً لتطويره، وسيستخدم آليات الانتاج المتوافرة. ثمّ تبيّن أنّ ربط الصواريخ بعضها ببعض يهدّد بتحطيم الصاروخ الأوسط تحت تأثير الضّغط، فاحتاج الأمر الى إعادة تصميم مكلف، وتأجّل موعد خروج الصاروخ أكثر من خمس سنوات (كان من المفترض، بحسب ماسك، أن يطير «فالكون الثقيل» في 2013 ــ 2014). كما أنّ «التقنية الإبداعية» التي ميّزت «فالكون الثقيل»، وهي فكرةٌ لربط الصواريخ الثلاثة عبر خطّ وقود وبرمجة توزيعه أثناء التحليق لتحقيق أكبر فعالية ممكنة، تبيّن أنّها خطيرةٌ هي الأخرى ولن تكون موجودة في النماذج الاولى، وقد لا تطبّق نهائياً.
القصّة المشهورة عن «سبايس اكس» هي أنّ أوّل ثلاثة تجارب لإطلاق «فالكون» منيت بالفشل، وقد ثابر ايلون ماسك وفريقه ولم ييأس حتّى بدأ النجاح يتتالى. ولكنّ الإعلام لا ينقل بالحماسة ذاتها خبر أنّ «فالكون-9»، منذ أيّامٍ فقط، قد فشل في وضع حمولةٍ حسّاسة للحكومة الأميركية. القمر الصناعي (اسمه «زوما») سرّيّ الى درجة أننا لا نعرف عنه شيئاً أو حتّى، بحسب «نيويورك تايمز»، اسم الوكالة التي اشترته، وقد نجح الصاروخ في الوصول الى مداره غير أنّ القمر الصناعي لم ينفصل كما يجب وهبط مع بقايا الصاروخ ليحترق في الغلاف الجوّي. بالمقابل مثلاً، هناك قصّةٌ حقيقيّة وأكثر تأثيراً بكثير، حقّقها الصينيون. فبعد أن عانوا طوال التسعينيات في انشاء برنامجٍ فضائي كفوء، وانتبهت اميركا اليهم ومنعت تصدير تقنيات الفضاء الى الصين (أو حتى المشاركة معها في مشاريع مثل «المحطة الدولية»)، وبعد أن صمّموا صواريخ فيها عيوبٍ وتفشل بكثرة، تمكّنوا أخيراً، في أواخر التسعينيات، من تحقيق 75 إطلاقاً ناجحاً على التّوالي، وهو سجلٌّ لم تقدر عليه أعرق الدّول في هذا المجال.

خاتمة

قصّة الشركات الخاصّة الاميركية في الفضاء لها مغزيان حقيقيّان، أحدهما أميركي داخلي والثاني دوليّ، ولا علاقة لهما بالابداع التكنولوجي أو استعمار المرّيخ. أوّلاً، هذه العمليّة تعبّر عن انزياح هذه الشريحة من العقود الحكومية الأميركية من شركات السلاح التقليدية (مثل بوينغ وماكدونل دوغلاس ولوكهيد، وهي من كان يرسل الحمولات الى الفضاء لحساب الحكومة والقطاع الخاص) الى شركات التقنية العالية، التي تلعب باستمرارٍ أدوارا أكبر في الاقتصاد والمجتمع الأميركي. من ناحيةٍ أخرى، فإنّ بناء الأقمار الصناعية العسكرية وهو، كما أسلفنا، سوقٌ اضخم بكثير من سوق النقل الى الفضاء، يظلّ أساساً في يد شركات الدفاع. ثانياً، تمثّل هذه الاستثمارات الأميركية ردّاً على مشاريع فضائية ناشئة، أساساً في الصين والهند؛ فهذه الدّول (إضافة الى روسيا «العريقة») تمكّنت من صنع أنظمة كفوءة ورخيصة، هدّدت بسحب سوق الأقمار الصناعية اليها في المستقبل، فساعدت الحكومة الأميركية على تمويل برامج تقدر على التنافس معها.
في الأدبيات الماركسيّة أنّ الرأسمالية تعمل عبر فصل المستهلك الذي يشتري سلعة، وعزله، عن عمليّة انتاج هذه السّلعة ــ أي ما يجري «في الكواليس» قبل أن تصل هذه السّلعة، مكتملةً، اليك. بمعنى أنّك حين تفكّر بحذاء «نايك»، فأنت تفكّر بثمن الحذاء أو بمايكل جوردان، وليس بعمليّة انتاج هذا الحذاء (وهي دوماً عمليّة سياسية واجتماعية، وقد تمتدّ من نيويورك الى مشاغلٍ الأطفال في باكستان). هذا من أسباب الأهميّة القصوى للدعاية في السوق الرأسمالي الحديث، فكلّما ازداد انفصال المستهلك عن سلعته، وكلما ازدادت قصّة هذه السّلعة شرّاً وبؤساً، كلّما احتجت الى بناء صورةٍ مختلفة، وقصّة بديلة، تشرح هذه السلعة وتجمّلها وتشجّعك على استهلاكها براحةٍ ومن غير ذنب. بالمعنى نفسه، فإنّ استعمار الفضاء على يد الشركات الأميركية يخفي قصّةً تختلف بالكامل عن «الرواية الرسميّة»، التي بإمكاننا أن نندمج فيها ونستمتع من دون نقديّة، فنجد أنفسنا نصفّق لرجل أعمالٍ يضع قمر تجسّسٍ فوق رأسنا.