يستفيق حبيب من سباته العميق مزعوجاً. ما تلك الرائحة القذرة التي تملأ المكان كما سائر أرجاء المدينة؟ أين اختفت روائح زهر الليمون والحامض والأكيدنيا التي غفا عليها؟ مضى على نومه أكثر من 42 عاماً. حدث ذلك كأنّه بالأمس. كيف يمكن أن يمرّ الزمن بمثل هذه السرعة؟ يأتيه صوتُ أخيه الأكبر خضر من غرفة مجاورة. يسمع جلبة وأصواتاً يُفترض لها أن تتعالى، لكنّها تخبو. لمَ كلّ هذا اليأس والقهر المكتوم؟
في السياسة والمجتمع

يكبر الشاب في صيدا على أمل أن ينهي تعليمه المدرسي ليلتحق بإحدى جامعات بيروت، حتى لو أنهك الأمر كاهل أهله بأعباء قد تفوق قدراتهم. لا يريد أن يفكّر في الأمر كثيراً، يريد أن يرحل، وبسرعة. تعميم يصح لحالات تعايشها وتسمعها منذ أمد طويل. ليس الأمر نظريّاً، اسألوا طلاب المدارس، وتساءلوا عن النتيجة التي ستكون بين أيديكم.
لا تمثّل المدينة محطّة نهائية لأبنائها، ولا سيّما الطامحين أو الآملين بانطلاقة في فضاء أرحب. يحبونها كمسقط رأسهم، لكنّها لا تعني لهم إلا القليل في الوجدان والتعلّق والشعور بالمواطنة المدينية والانتماء. هي لهم مجرد مكان... لا قضية.
لم تنجح الأوهام والكلام الرتيب الذي يفتقد الشغف والروح، في جعلها مدينة قابلة للحياة، متوائمة مع روح العصر. هكذا يراها معظم شبابها، من دون مواربة.
لا يجد معظم الصيداويين اليوم أيّ أمل بتغيير سياسيّ جديّ على مستوى القيادات المتحكّمة. استسلام شبه كليّ لما هو قائم. عبوس في الظلام أواخر الليل وقبالة التلفاز أو بين الجدران الضيقة والشكاية من حال لم ولن تتغير. دوماً ما تبحث المسؤولية عن «آخر» يتحملها وحده، فهم غير معنيين.
يكثر الحديث عن زعامات المدينة، وبيوتها السياسية التي لم تُنتج على مدى عقود إلا ورثة لمحطات أو أمجاد لم تعد تُصرف في تفاصيل الحياة اليومية الآن. وحين يحين يوم الأحد لموعد الاقتراع، يُساقون زمراً إلى صناديق صدئة في مدارس متهالكة ليكرّروا المشهد القاتم نفسه لسنوات ست تتماثل فيها الأحداث حدّ الملل.

في الاقتصاد

لا يجتمع الصيداويون اليوم على أمر، إجماعهم على الشكاوى من سوء الحال الاقتصادية والتجارية والمعيشية التي وصلت إليها المدينة. الحال كذلك في البلاد، لكن في صيدا يخبرونك اليوم عن أيام لم تمرّ حتى في أحلك أوقات الاجتياح الإسرائيلي. الكلام نفسه تسمعه من شارع المطران والأوقاف في السوق التجاري القديم حتى المولات والأوتوستراد الشرقي والأسواق الجديدة، مروراً بالمرفأ و«ميرة السمك»...
يقولون إن صيدا فقدت دورها ومكانتها. باتت أقل شأناً وتأثيراً. ما هو تفسير ذلك الشعور لدى أغنيائها بأن الثروة لا تصنع في المدينة، بل خارجها. حدثنا عن مصنع أو معمل أو مشروع أو مركز إنتاج افتُتح في المدينة خلال السنوات الأخيرة.

في البلدية والنفايات

طالبة تدرس الطب في جامعة هارفرد الأميركية، زارت صيدا لبحث حول التلوث على الساحل اللبناني، قالت إن المنطقة الممتدة من نهر الأولي شمالاً حتى مصب نهر سينيق جنوباً، هي أكثر المناطق تلوّثاً في لبنان. لم تُنشر نتائج الدراسة بعد، لكن ذلك سيكون قريباً.
لم يطلب الصيداويون من محمد السعودي الكثير. هو لم يكن بالنسبة إلى أكثرهم معروفاً قبل سنوات قليلة. جلّ ما كانوا يأملون منه أن يخلّصهم من ذلك الورم الجاثم على صدورهم وصدور أبنائهم وأحفادهم من تراكم جبال النفايات على خاصرة مدينتهم.
لم يطمحوا إلى الكثير، وهو قدّم نفسه على أنه القادر على إيجاد الحل، وتمّ التجديد له لولاية ثانية على هذا الأساس. أما المصيبة الكبرى، فهي أنه مقتنعٌ بنجاحه في ذلك. حسناً، ما تلك الرائحة القذرة التي تملأ المكان منذ أشهر، ولا تزول؟ لا تنفع اليوم حال الصدمة والشعور بالخديعة التي يشعرون بها حيال الواقع الأليم بأن مستشفيات المدينة لم تعرف من قبل هذا الكمّ من حالات الإصابة بمختلف أنواع السرطانات لدى صيداويين. اسألوا معين أبو ظهر ليخبركم أكثر.
لن تشفع لرئيس البلدية الحالي «أنه آدمي». لا يكفي حين يطال الأمر العمل بالشأن العام. إن لم يكن قادراً على البوح بما يعرفه، فليرحل بعد أن يكاشف الصيداويين عما يجري في الخفاء من صفقات مشبوهة وعمولات وخوات وخنوع وحسابات انتخابية ضيقة تبدأ من بيروت ولا تنتهي باتحاد بلديات الزهراني وقرى شرقي صيدا.
معكم ومع من كان قبلكم، تحوّلت صيدا من عاصمة الجنوب... إلى مزبلته. أما البدائل والحلول، فها هي في أوراق مكدّسة أمام مكتبكم، ما عليكم إلا أن تعتبروها مشروعاً من مشاريع شركة «CCC» لتحلّ المعضلة.

في العلم والكيدية

منذ سنوات، تعايش المدينة صعود نجم مدرسة اسمها «مدرسة حسام الدين الحريري» التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا. ولأن لكلّ زمان مدرسته، كما كانت الحال في صيدا سابقاً مع مدارس «الأميركان» و«صيدا الجديدة» و«القلعة»، كان منذ سنوات سطوع نجم «الحسام». نظامٌ تعليميّ غير تقليدي ومحاكاة عصرية للمتغيرات التي طرأت على مناهج العلم ومفاهيم التدريس. مديرة «شغوفة» بعملها كرّست له الكثير لتصل المدرسة إلى ما وصلت إليه.
قبل أشهر، يقع خلاف بين مديرة المدرسة ومجلس إدارة الجمعية، يُفضي لأسباب كيدية وشخصية تافهة إلى إخراج المديرة من موقعها، لتبدأ مرحلة الانحسار لتلك «الطلعة». السبب الأساس أن الرئيس الراحل رفيق الحريري كان قد أخبر رئيس جمعية المقاصد يوماً بضرورة قبول استقالة أي موظف يتقدم باستقالته، لأنه يصبح من بعدها غير منتج. فعلاً، مؤسسات الحريري وشركاته تؤكد صوابية هذه الحكمة حالياً.
عصر اليوم، تخوضُ المدرسة فصلاً جديداً من فصول الكيدية وتكبير الرأس يهدف إلى مزيد من الإمعان في إفشال مشروع ناجح عبر إحكام السيطرة على لجان الأهل وقمع رفضها للزيادات على الأقساط، بحسب ما تريده إدارة جمعية المقاصد. خداع وشائعات وشق للصفوف وتضييع للمعلمين والطلاب، وكأن معركة الانتخابات النيابية بدأت من الشرحبيل.
يحاول حبيب النهوض من مرقده، ولا يستطيع. أطرافه مكبلة، وجسده مخدّر، لكن حواسه حاضرة بقوة. حين عمل مهندساً، لم يكن يبقى من راتبه إلا بضع ليرات بمجرّد أن ينزل السلالم من الطبقة الرابعة إلى الطبقة الأرضية لمبنى البلدية.
هكذا كانت الزعامة غير المعلنة، ولهذا لا تزال صوره معلقة في بعض دكاكين الفقراء في صيدا القديمة، وإن بهتت ألوانها. خدمة الناس واجب لمن أعطاهم الله القدرة. لهذه الأسباب، سعى إلى لقاء الرئيس جمال عبد الناصر بحضور معروف سعد. الأمل بغد أفضل لمدينة لم تغلق أبوابها لأحد. لهذه القناعات، طرق الأبواب لتقوية جمعية المقاصد، وإرسال متخرجيها إلى جامعات القاهرة وبغداد، والاتحاد السوفياتي، فكيف تصبح اليوم في عداء مع أهلها وناسها بحجج كاذبة بأنها لا تحقق أرباحاً؟ يسأل حبيب: «من ذا الذي يتلاعب باسم جمعية خيرية أسسناها لخدمة المدينة، فتحولت إلى مشروع تجاري لا روح فيه؟».
مع من يتكلم خضر في الخارج بهذه اللهجة القاسية؟ يسأل حبيب نفسه، لمن يقول: «أكلّما ملك أحدكم 300 مليون دولار، يبدأ التفكير بالتقاعد في منزل جميل على ضفاف إحدى البحيرات الأوروبية؟ لا، لهذه المدينة حق عليكم، عليكم أن تدفعوه بلا جميل ولا منّة من أحد».
عد إلى سباتك أيها الخال البديع، فجلّهم نائمون وأنت المستيقظ.