قد يتوقّع المرء أن يكون المؤتمر الصحافي الذي عُقد أمس في «نقابة الصحافة» (الروشة ــ بيروت) حاشداً بالشخصيات والمؤسسات الإعلامية المواكبة له. غير أنّ الواقع كان مغايراً، في ظل حضور خجول، سيّما على صعيد الميديا («المنار» وmtv فقط)، فيما اتسمت الأجواء بالكثير من التشتّت وتضارب المواقف والأفكار.
الحدث غير المسبوق محلياً الذي جمع «كلّ المتضرّرين» من منع The Post لستيفن سبيلبرغ في لبنان في حال حصوله (من منتجين وموزّعي الأفلام وأصحاب صالات)، كان يهدف إلى «توضيح وجهة نظرنا ورأينا من قضية التطبيع»، وأعقب اللقاء الوطني العام الذي جرى في المكان نفسه في اليوم السابق «رفضاً للتطبيع الثقافي والفنّي مع العدو الإسرائيلي».
على المنصّة، جلس المنتج صادق الصبّاح (شركة «سيدرز آرت برودكشن»، ومدير عام شركة «إيطاليا فيلم» الموزّعة لـ The Post كارلو فينشنتي، ونائب رئيس مجلس إدارة شركة «أمبير إنترناشونال» ماريو جونيور حدّاد، والمستشار ضمن «نقابة الفنيين السينمائيين» سليم حدّاد، إضافة إلى المنتج حمّاد نادر الأتاسي/ شركة World Media Holding). في كلمته المكتوبة المقتضبة، لفت الصبّاح إلى أنّ مضمون The Post «لا علاقة له بالنزاع مع العدو الإسرائيلي»، كما أنّه «صُنّف بأنّه أفضل فيلم عن معركة الصحافة ضد السلطة، وفي وقت تواجه فيه الصحافة في الولايات المتحدة هجوماً وتوصف بالكاذبة». أكّد صادق الصبّاح أنّ «السينما سلاح مؤثّر استخدمه اللوبي الصهيوني أو غيره من المروّجين للعنف والقتل لغزو مجتمعاتنا والتأثير في ثقافتنا وتزوير تاريخنا... ووضعوا كلّ طاقاتهم فيه لخدمة أهدافهم فقدّموا آلاف الأفلام التي تضمّنت رموزاً ورسائل تخدم خططهم ومشاريعهم»، مشدداً على أنّه «نرفض التطبيع بوعي وإدراك ومسؤولية، ولدينا من القدرة على المقاومة الثقافية والفكرية ومعرفتنا لتاريخنا ما يكفي لمقاومة إسرائيل وهزيمتها». غير أنّ الصبّاح والحاضرين سخّفوا مواقف سبيلبرغ الداعمة للكيان الغاصب والمدافعة عنه، مركّزين على أن الفيلم «ليس موقّعاً باسم شركة إسرائيلية أو مخرج إسرائيلي، ولا يحمل رسالة مباشرة أو غير مباشرة تدعو للطبيع أو لأي موضوع يشكّل خطراً على مجتمعنا... ولو كان كذلك لدعمنا إيقافه»، ومعتبرين أنّه من الخطأ والمضرّ توقيف عرضه بعد الموافقة الرسمية. علماً بأنّه دارت في القاعة قبل بدء المؤتمر أحاديث حول تبرّع المخرج بمليون دولار أميركي لـ «إسرائيل» أثناء حرب تموز، دافع خلالها عدد من الموجودين على المنصّة عن الخطوة بذريعة أنّها «لجمعيات تُعنى بالشؤون الإنسانية»!
في مقابل تأكيد رفض التطبيع، لفت الصبّاح وزملاؤه إلى أنّ لا علاقة لهم بالسياسة لأنّهم رجال «اقتصاد وفنّ وإعلام»، وهو ما يتواءم مع الخطابات الداعية إلى «فصل السياسة عن الفن والثقافة». كلام يتغاضى كلياً عن أنّ المعركة الأساسية اليوم هي ضدّ التطبيع الثقافي والفني مع العدو، والذي تسعى «إسرائيل» إلى التسويق له والترويج لنفسها وتلميع تاريخها، بعدما هُزمت فعلياً على يد المقاومة. والمعركة ضدّ هذا الشكل من التطبيع تحديداً تربوية في الدرجة الأولى، بالنسبة للبنانيين والعرب، في سبيل إفشال سياسة «كي الوعي» عند الأجيال الجديدة.
خلط المواضيع والمفاهيم كان جلياً أيضاً (عدم التفريق بين المقاطعة الثقافية والأكاديميّة والاقتصادية)، عبر تشبيه قضية The Post مثلاً ببعض اللقاحات والأدوية المهمّة المسجلّة ببراءات اختراع تحت «أسماء يهودية» (عدم التفريق بين اليهود وإسرائيل)، فضلاً عن الإشارة إلى مقاه ومطاعم ومنتجات تكنولوجية على علاقة بالكيان الصهيوني... وكان مستغرباً طرح المسألة على أنّها قضية حرّيات تندرج في سياق سياسة المنع والرقابة (المرفوضة) التي تُمارس في لبنان.
على خط موازٍ، استغلّ كارلو فينشنتي المناسبة للدفاع عن المخرج اللبناني زياد دويري الذي رُشّح فيلمه «قضية رقم 23» للفوز بأوسكار «أفضل فيلم أجنبي»، إذ اعتبر أنّ هذه السابقة اللبنانية تعدّ «تفوّقاً» لدويري على شريط «فوكستروت» للإسرائيلي شموئيل ماعوز، وهو ما يمثّل شكلاً من أشكال المقاومة! وقد يكون من المفيد لكارلو الإطلاع على موقف وزيرة ثقافة العدو، ميري ريغيف، عندما أبدت سعادتها بالنتيجة لأنّ «فوكستروت» بنظرها «مناهض لإسرائيل، ومسيء للجيش».
كلّ ما قيل بالأمس لم يسهم في فتح نقاش وطني وجدّي (مطلوب ونتمنّاه) حول قضية سبيلبرغ والحالات المشابهة التي قد نصادفها مستقبلاً، وإنّما شكّل «إبتزازاً اقتصادياً» بامتياز بما أنّ أصحاب الدعوة أصرّوا طوال الوقت على الإشارة إلى «الخسائر المالية التي ستضرّ بالقطاع السينمائي والشركات اللبنانية، وبالتالي بالاقتصاد اللبناني».