مَن نهب مستودع الآثار في مدينة جبيل قبل نحو 37 عاماً؟ كلّ ما عدا هذا السؤال، في هذا الملف، لا يُعوّل عليه. مَن الناهب؟ ثلاث قطع أعيدت أخيراً، مِن الولايات المتّحدة الأميركيّة، وفي هذه المناسبة ستحتفل السلطات اللبنانيّة المختصة بهذا الحدث في شباط المُقبل. الذاكرة تفيد بأن أكثر مِن 600 قطعة نُهبت، مِن جبيل حصراً، ولبنان يومذاك في حرب أهليّة. امتلأت بذلك جيوب كثيرة ولا تزال، إلى اليوم، تنعم بملايين الدولارات.
أيّ ميليشيا كانت تُسيطر على جبيل عام 1981؟ هذا ليس سرّاً. أكثر الميليشيات التي تحاربت كانت تموّل نفسها، مِن بين مصادر تمويل كثيرة، ببيع كنوز وآثار الوطن الغالي والفريد والحبيب (طبعاً). هكذا، عاد «رأس الثور» الفينيقي أخيراً إلى موطنه. كان قد عُثر عليه في ستينيات القرن الماضي في صيدا، في معبد أشمون تحديداً، إلى جانب قطع أثريّة كثيرة. نُقلت، مع بداية الحرب الأهليّة، إلى جبيل حيث اعتقد البعض أنّها أكثر أمناً. تلك القطع لا تزال ضائعة في العالم. ثلاث مِنها أعيدت أخيراً، عن طريق الصدفة، حيث لا تزال «السوق السوداء» نشطة. الإعلام الأميركي كان سبّاقاً إلى إثارة الموضوع في العام الماضي، عندما عُثِر على «رأس الثور» معروضاً في متحف «الميتروبوليتان» في نيويورك، على نحو الإعارة. ملكيّته الأخيرة كانت تعود لجامع التحف مايكل ستينهاردت، الذي أعاره للمتحف المذكور للعرض، بعدما كان قد اشتراه مِن ليندا وويليام بيروالتس (هاويا جمع تحف أثريّة). الأخيران، بحسب «نيويورك تايمز» الأميركيّة، اشترياه عام 1996 بأكثر مِن مليون دولار. تناقلته أيدٍ كثيرة، لكن لا أحد يعود أبعد مِن ليندا وويليام، وكأنّهما اشترياه مِن شبح! العودة إلى الوراء أكثر تعني فتح ملف مليء بالفضائح، أو بالأحرى الجرائم، التي شهدتها الحرب الأهليّة، علماً بأنّ قضايا مِن هذا النوع تُعدّ جرائم متمادية، لا تسقط بمرور الزمن، أقلّه أخلاقيّاً، إذ تتعلق بثروة وطنيّة لا مكان معها لأيّ نوع مِن العفو. هنا أهميّة معرفة الناهب الأوّل، والتحقيق بالأسماء، لمعرفة أين ولِمَن بيعت سائر القطع، وبالتالي العمل على استعادتها (هذا أقلّه، بعيداً عن العقوبات). هذا ملف أمن قومي ثقافي، أليس كذلك؟ قطعة أخرى عُثر عليها مع ليندا وويليام، هي عبارة عن تمثال، مِن الحقبة نفسها، جرى تحصيله مِنهما. حاولا اللجوء إلى قضاء بلادهما، إلى أنّهمما تراجعا عن ذلك، بعد تبيّن لهما أن الصفقة خاسرة وأن القطع ستعود حتماً إلى لبنان. القطعة الثالثة وجدت داخل منزل كزينة حائط.
قبل نحو 23 عاماً، نُشِر مقال في جريدة «الحياة» يتحدّث عن سجال بين قوى لبنانيّة حصل على خلفيّة اتهامات بسرقة آثار كثيرة زمن الحرب الأهليّة (كانت الحرب انتهت). وفق المقال، فإنّ وليد جنبلاط، أيّام كان وزيراً للسياحة في الثمانينيات، اتُّهِم بسرقة عشرات القطع الأثريّة مِن بعلبك (رأس جوبيتر ونواويس وتيجان أعمدة) ونقلها إلى منطقة الشوف. جنبلاط آنذاك لم يُنكر الأمر بالكليّة، إنّما تحدّث عن عدد أقل، وأنّه نقلها لـ«حمايتها»... بعدما وردته معلومات عن سرقة أكثر مِن 200 قطعة مِن معابد بعلبك! يُشير المقال أيضاً إلى أحداث عام 1981 المذكورة في جبيل، فيورد أنّ «أحد مسؤولي الميليشيات في إقليم جبيل حقق أرباحاً طائلة من جراء بيع وتهريب حلى ونقود فضيّة وذهبيّة، واضطر حزبه إلى تغطية ما جرى بتسليم رئيس مصلحة الحفريّات والمتاحف الدكتور إبراهيم كوكباني مجموعة من النقود الفضيّة الفينيقيّة». ما مِن منطقة لبنانية، مِن الشمال إلى الجنوب، إلا وشهدت في تلك الحقبة نهباً لآثار وكنوز وطنيّة، على أيدي «وطنيين» مرّة، وأخرى على يد الإسرائيلي الذي نقل الكثير مِن القطع، بُعيد الاجتياح، إلى الأراضي المحتلة. هذا أحد الملفات المسكوت عنها. لعلّها الأكثر صمتاً. ليس «كنز نيويورك» إلا أحد الكنوز المنهوبة الذي وجد طريقه إلى الإعلام قديماً. بحسب ما يُقال، فإنّه كان يضم 14 قطعة، ويُعدّ مِن أنفس الكنوز عالميّاً، فاشتراه لورد بريطاني مِن شخص في سويسرا. شاع خبره في منتصف الثمانينيات، وقيل إن حكومة الرئيس سليم الحص تقدّمت بدعوى أمام القضاء الأميركي لوقف بيع الكنز. كثيرة هي القضايا اللبنانيّة التي لا يُعرف إلى ما انتهت. كثيرون هم الذين يعيشون بيننا اليوم، وأولادهم الآن أيضاً، نراهم مرفّهين مترفين، أصبحوا «عائلات ثريّة»... فيما هم ليسوا أكثر مِن ناهبي كنوز وطنيّة.