تونس | انقضى الأسبوع، وانتهت معه دورة جديدة من الاحتجاجات العنيفة التي شملت جلّ مناطق البلاد. شهدت تونس بعد الانتفاضة مواجهات كثيرة بين المحتجين والأمن، داخل الأحياء الشعبيّة ومناطق «الهامش»، لكن أحداث الأيام السابقة مختلفة. يُمكن تلخيص الحكاية في كلمتين مفتاحيّتين: فشل ومؤامرة.
لم يحدث، منذ الانتفاضة التونسية، أن بلغ عدد الموقوفين في حدث احتجاجيّ ما بلغه هذه المرة. حصدت الحملة الأمنيّة ما يقارب 800 موقوف، وُجّهت إليهم تهم، وسُجّلت لهم قضايا على عجل. كتب الناشط اليساريّ أحمد ساسي، الذي أوقف من أمام منزله في أحد أحياء العاصمة قبل أن يطلق القضاء سراحه مؤقتاً، شهادته حول ما رآه في مركز الإيقاف على امتداد يومين. المخربون الذين تحدث عنهم الناطق باسم وزارة الداخليّة، في مداخلاته التلفزيونية، شملوا، في شهادة أحمد، أساتذة وتلاميذاً وعمالاً. لكن حسب رواية الحكومة والمقربين منها، كان الموقوفون جزءاً من مؤامرة مزدوجة قادتها «الجبهة الشعبيّة»، والمهربون ورجال الأعمال الموقوفون على ذمة قضايا فساد.

طيف المؤامرة

صرّح رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، في زيارة ميدانيّة لمركز أمن أحرقه محتجون، بأن «الجبهة الشعبيّة» تتحمل جزءاً من مسؤوليّة التخريب الحاصل. مسؤوليّة الجبهة، التجمّع اليساري المعارض الأكبر في البلاد، تتمثّل بالنسبة إلى الشاهد في تشجيعها غير المسؤول على الاحتجاجات، وتجنّبها إدانة أعمال الشغب الليليّة.
لم تبتعد الأوساط، الإسلاميّة والليبراليّة، المساندة للحكومة، عن هذا التوجّه. حُمّل اليسار المسؤوليّة السياسيّة. وحتى تكتمل تفاصيل «المؤامرة»، أقحم العدو العموميّ الأوّل في المشهد. وُجهت أصابع الاتهام إلى المهربين ورجال الأعمال الموقوفين في قضايا فساد. عُدَّ الطرفان مستفيدين مما يحصل: يريد اليسار الأقليّ الاستقواء على الأغلبيّة باستخدام الشارع، ويريد المهربون والفاسدون إحلال الفوضى وإسقاط الحكومة لحماية أعمالهم وتخليص أنفسهم.
لم يكتفِ الإعلام المقرَّب من «حركة النهضة» بذلك، أضاف عنصراً آخر زاد الأمر تشويقاً. قاد انشغال الإسلاميّين بموقف الإمارات تجاههم إلى دمجها في سرديّة المؤامرة. تعزّز الأمر بإيقاف موظف دولة واتهامه بتوزيع أموال على المتظاهرين، وانتشار إشاعة تقول إنّه ليس الوحيد (قدّم الرجل روايته حول الموضوع وهي أكثر تماسكاً من الرواية المروَّجة إعلاميّاً، كذلك إنّ هذا النوع من الشائعات سبق أن استخدمه الرئيس الهارب زين العابدين بن علي آخر أيامه، من دون إثباتها).

مرّت ذكرى «الثورة التونسية» أمس على غرار سابقاتها


المثير أن اليسار نفسه رَكن إلى التفسير المؤامراتيّ. في سياق ردّها على اتهامات الحكومة، قالت النائبة مباركة البراهمي، إن الحكومة تعرف الجماعات التي تقوم بأعمال التخريب خلال الليل «لأنّهم يرسلون دائماً جماعات تخرّب بالليل لتشويه المناضلين الذين يتحركون في النهار». يبدو أن لا أحد يريد أن يقبل بحقيقة أن المخربين شبّان يعيشون على تخوم النموذج الاستهلاكيّ، وأنهم، على غرار نظرائهم العالميّين، يقتحمون عنوة عالم الاستهلاك متى سمحت لهم الفرصة. ذلك ما حصل مثلاً في لندن عام 2011، وفي نيو أورلينز عقب إعصار كاترينا.
أما رئيس الجمهوريّة، الذي يُفترض أن يتعالى عن الصراعات ويكون عنصر توحيد، فلم يشذّ هو نفسه عن بقية الفاعلين السياسيّين. فقد اعتبر في لقائه مع الأحزاب والمنظمات الموقعة على «وثيقة قرطاج» التي تمثّل الأرضيّة السياسيّة للعمل الحكوميّ، أنّ «الحساسيّة الوطنيّة نقصت لدى البعض» وأنّ الإعلام الأجنبيّ «شوهنا أكثر مما يلزم... بدفع من بعض التونسيّين». وعلى عكس هجائه هذا، مدح الرئيس الإعلام المحليّ الذي اعتبره «معتدلاً وعادلاً» في تغطية الأحداث. ذلك طبعاً رأي السلطة. الواقع أنّ التعامل الإعلاميّ المحليّ طغت عليه المبالغة في تضخيم أعمال الشغب والسرقة (وهو ما نسبه قائد السبسي إلى الإعلام الأجنبيّ)، على حساب القضيّة الأصليّة، ما جاء في قانون الماليّة من ترفيع للضرائب على كلّ شيء تقريباً.

فشل لا يستثني أحداً

فشل الائتلاف الحاكم في تطبيق برنامجه. تواصل تدهور قيمة العملة وغياب الاستثمار وخلق الثروة. لكن قادح هذه الأحداث، على وجه التخصيص، هو فشل الحكومة في إقناع الناس بموازنتها التي تهدف إلى خفض التداين وسد العجز بترفيع الضرائب. يظهر ذلك مثلاً في محاولة تدارك الأمر بالترفيع في منح العائلات المعوزة والمعاشات الضعيفة، وهو إجراء لحق الأزمة، بل كان نتيجة لها، إذ سبق أن رفضه البرلمان نهاية العام الماضي.
رغم مسؤوليّة الحكومة الرئيسيّة، تتحمّل المعارضة أيضاً نصيباً من الفشل. تأسست في الأسبوع الأوّل من هذا العام حملة «فاش نستناو؟» (ماذا ننتظر؟)، وهي على غرار الحملات السابقة، تتكون من شباب يساريّين في أغلبهم، جزء مهمّ منهم ناشط في أحزاب «الجبهة الشعبيّة» والمعارضة البرلمانيّة. اختارت الجبهة أن تركّز نشاطها على المستويين الإعلاميّ والبرلمانيّ بنحو شبه حصريّ، بينما تركت أمر الشارع للحملة.
يشير هذا الخيار إلى ضعف الجبهة، وبقيّة أحزاب المعارضة، على حشد المتظاهرين ميدانيّاً. وهو عجز يمتد أيضاً إلى الأحزاب الحاكمة. أُنهك الشارع على امتداد السنوات الماضية، ولم تبقَ غير الحملات الشبابيّة الجامعة تحرّك الشارع. أما «الاتحاد العام التونسيّ للشغل»، القادر هو الآخر على الحشد، فقد بقي بعيداً عن مركز الأحداث. أبدى الاتحاد تحفظات من الموازنة، لكنه لم يسعَ إلى التصعيد. تبدو المنظمة النقابيّة الأكبر في البلاد متمسّكة بما جاء في «وثيقة قرطاج»، مع الحفاظ على مساندتها النقديّة للحكومة.
ورغم أن ذكرى الثورة يوم يُفترض أن يوحّد المؤمنين بها، إلا أنّه مرّ على غرار سابقيه. نزل المتظاهرون أمس في 14 جانفي/ كانون الثاني في مجموعات منفصلة. تظاهرت «الجبهة الشعبيّة» والأحزاب والمنظمات القريبة منها، وحملة «مانيش مسامح» (لن أسامح) وعائلات شهداء وجرحى الثورة، معبّرين عن رفضهم للميزانيّة والتوجهات الحكوميّة الحاليّة. أما النهضة والنداء وأحزاب السلطة، فكانت تظاهراتها احتفاليّة. استغلّ رئيس الجمهوريّة اليوم أيضاً لمحاولة تهدئة الأوضاع. توجّه إلى حيّ التضامن الذي شهد احتجاجات عنيفة في الأيام الماضية، للقاء الشباب والتواصل معهم.
بصفة عامة، يبدو الشارع غارقاً في الاستياء، وقابلاً للانفجار في موجات عنف واحتجاج جديدة. ومن جهتها تحاول الأحزاب استثمار الغضب أو احتواءه، تحضيراً للانتخابات البلديّة المبرمجة منتصف هذا العام، التي قد تكون فرصة لإعادة تشكيل خريطة التوازنات، ورسم سياسات تنمويّة محليّة أكثر نجاعة.