في روايته الجديدة «مَيْ، ليالي إيزيس كُوبيا» (دار الآداب)، يصوّر لنا واسيني الأعرج (1954) الحقبة المظلمة التي عاشتها الأديبة اللبنانية/ الفلسطينيّة مي زيادة (1886 ـــ 1941) في سنوات عمرها الأخيرة.منذ بداية الرواية، يعترف الكاتب الجزائري بفضوله العميق الذي دفعه إلى تحرّي حقيقة ما جرى مع مَي التي «ظلّت قصة حياتها القاسية عالقة في ذهني مثل الكثيرين من أبناء جيلي» (ص8). في سبيل القبض على الحقيقة، يضمّن عمله مخطوطة «ليالي العصفورية» التي خطتها مي، وبقي مصيرها مجهولاً، على مدى سبعين سنة، حتى تمكّن الكاتب وصديقته روز خليل من الحصول عليها. يضمنها رواية مي، ليضعنا وجهاً لوجه أمام معاناة إنسانية كاشفة على الصّعيدين النفسيّ والاجتماعي.
تحكي الرواية ببساطة عن العثور على المخطوطة التي كتبتها مي زيادة إبان المدة التي قضتها في عصفورية لبنان، والحوادث التي مهّدت لإدخالها القسريّ إليها، ما تعرضت له فيها من تعذيب، وما تلا ذلك من نكران مجتمعيّ وإنسانيّ.

بذلك، تستحضر الرواية تاريخاً (1936- 1941)، يتداخل بالحاضر (عملية البحث عن المخطوطة والعثور عليها استغرقت ثلاث سنوات وأنتجت هذه الرواية عام 2018). هذا تجذيرٌ زمنيّ، تضاعفه الإحالة على أسماء الشّخصيات الأدبيّة البارزة التي عاصرتها مَي: أمين الريحاني، جبران، عباس محمود العقاد، طه حسين، مصطفى الرافعي، لطفي السيّد... إضافة إلى التجذير المكانيّ للرواية، ولأحداثها التي أحالت على الناصرة، موطن ولادة مي، وعلى القاهرة (صالونها الأدبي- المعادي)، وعلى مناطق متعددة من لبنان (الجامعة الأميركية- العصفورية- شحتول- الفريكة...). وأهمية ذلك تبرز في الرسالة التي يريد الكاتب أن ينهيها إلى قراء روايته من خلال انتقائه المادة الروائية بامتداداتها الزمنية والمكانيّة.
تبسط الرواية أمام أعين القارئين واقعاً معقّداً عميقاً هو ناتج المنظور المنبثق من رؤية مي لمأساتها، ومن معاناتها النفسية والجسدية الهائلة التي عاشتها خلال سبعة أشهر في مستشفى العصفورية في بيروت، بتدبير من عائلتها لناحية أبيها، عائلة زيادة، وبإشراف مباشر من الطبيب جوزيف زيادة، أي من كان حبيب روحها، ومطمح آمالها طيلة مدة غير قليلة من حياتها.
يُنتج الأعرج بتضمينه هذا «لسيرة روائية» جريئة، استطاع من خلالها كشف الحقائق والوقائع القاسية التي تعرضت لها مي؛ فهي تعرّي ذاتها وتمارس الفعل عينه على كل من حولها، من أقرباء مارسوا عليها فعل الخديعة وسلب الأموال والأملاك ومحاولة سلبها عقلها، ومن أصدقاء، هم رفاق روحها ومسيرتها الأدبيّة والاجتماعية الطويلة التي عاشتها في مصر؛ تنكروا لها وأسقطوها في غياهب النسيان، متغافلين عنها غير عابئين بجراحها ولا بمحاولة تحرّي الحقيقة عما جرى ويجري معها.

يتضمن العمل مخطوطة «ليالي العصفورية» التي بقي مصيرها مجهولاً سبعين سنة

تتولى مي زيادة الحكي في مخطوطتها «أنا مي. ماري إلياس زيادة. ولدت في 1886، من خلطة دينية ومكانية غريبة، أم فلسطينية أرثوذكسية، نزهة معمّر، وأب ماروني لبناني إلياس زخوّر زيادة، من ضيعة شحتول» (ص 56). وهي ترتكز في سردها إلى حضور المرجعيّ الواقعي، الأحداث التي وقعت معها، مؤكدة حكيها بالتواريخ «ليلة 16 أيار 1936 وما تلاها- 1922- 1938» ص54، فيتداخل الواقعيّ بالنصي، ويكون بمثابة دليل أو شاهد على حقيقة المعرفة التي تقدّمها كشاهدة، وعلى بشاعة الإشكالية التي عذبتها وقهرت نفسها قبل جسدها... تلك الإشكالية التي تمثلّت في ازدواجية المثقف/ الرجل الشرقي، وفي هشاشة الحداثة التي تمظهر بها هذا المثقف: «من أين يأتون بكل هذه الازدواجية القاتلة لهم ولغيرهم؟ لقد تربّى المثقف في شرقنا الجريح، على كل وسائل النفاق التي تضمن استمراره. استطاع أن يوائم بين تقاليد الرعب الآتية من جوف الزمن الأسود، وقشور الدين الثقيلة بشكليات مرهقة، وحداثة وُلدت معطوبة من الأساس» (ص 286).
وهي تعتمد آلية الاستنساب والانتقاء والاجتزاء لصياغة التصوّرات والاسترجاعات التذكرية، مما يسبغ فنيّة واضحة على سردية مخطوطتها التي رمت، من خلالها، إلى توليد الحقيقة الشاهدة على ظلم مجتمع بأسره لها. ونحن نجد تمثيلاً دقيقاً على ما نذهب إليه حين تستذكر أصدقاءها الكتاب والشعراء الذين تنكروا للتاريخ الذي جمعهم وإياها: «هل كان العقّاد مجبراً أن يفبرك كذبة ضدي ليخفي بؤسه معي... أعتقد أنه حقد عليّ عندما أرادني في فراشه وتمنّعت» (ص 304- 305).
وهي تفعل الأمر عينه حين يهاتفها طه حسين بعد براءتها من تهمة الجنون: «أي ظفر وأي انتصار؟ كل ما أعرفه هو أنهم يوم حاكموك بسبب كتابك «في الشعر الجاهلي»، لم أتفلسف كثيراً، عقدنا ندوات في الصالون، ويوم طردوك من الجامعة لم أفكر.. لم أسأل قلت هذا أستاذنا، وله حقٌّ علينا» (ص 319).
من خلال اللعبة الفنية التي أنتجها، أي المزج بين التشويق الروائي الذي مارسه في القسم الأول من روايته، وفي القسم الأخير منها، وعبر تضمين السيرة الرّوائية لمي زيادة، يتيح الأعرج ــ بعد أكثر من ثلثي قرن ـــ لهذه الأديبة التي تحلّق حولها معظم أدباء وشعراء عصرها، أن تتكلم وأن تقول. يستحضرها، إلى زمننا، بعدما تنكّر لها زمنها وأهله، فقد وقف بأسره يعاديها، هي التي سفحت أجمل سنوات شبابها تدافع عن قضاياه الفكرية والثقافية والإنسانية. وهو إذ يفعل، يسمح لصوتها أن يعلو من بين صفحات الأوراق التي بللتها دموعها «الأمر ثقيلٌ جداً يا سيدي الكريم. عندما يعاديك المجتمع كله، حتى الذين ظننتهم أصدقاء أعزّاء؟ أين رجال الأدب في لبنان؟ أين رجال القانون؟ أين الجمعيات النسائية؟» (ص314.)
فهل أراد الأعرج بذلك أن يحقق التعاطف والتصالح مع تاريخٍ مضى، أم أنه أراد أن يشير إلى مجتمع هشّ الحداثة، ظاهريّ الثقافة، مستعدّ طوال الوقت أن يمارس أقصى قسوته لأي فرد تجرأ أو يتجرّأ على معاداته وعلى إطلاق صوتٍ مختلف مغايرٍ لسائر الأصوات؟!