من الأمور المهملة إعلامياً عند تغطية تطورات القضية الفلسطينية الحالية، أي ما يسمى زوراً عملية السلام، وهي عملية استسلام قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية غير المشروط لإملاءات الفاعلين الحقيقيين في تلك «العملية»، الجانب الاقتصادي لمختلف الاتفاقات الموقعة وأدوار الأطراف الثلاثة الفاعلة فيها وهي الدول المانحة أي واشنطن والاتحاد الأوروبي أولاً، والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ثانياً، وكيان العدو وسلطة رام الله ثالثاً («الثلاثية»). نعرض في المادة كتاباً لتوفيق حداد هو «فلسطين الشركة المحدودة - النيوليبرالية والوطنية في الأراضي المحتلة». وحداد، باحث متخصص له إصدارات عديدة وسبق له العمل في منظمات الأمم المتحدة في فلسطين المحتلة
هل الأوضاع الاجتماعية البائسة والمحزنة القائمة في مناطق الاستعمار الاستيطاني منذ عام 1967 (ما يسمى «الضفة الغربية»، أو «الأراضي الفلسطينية المحتلة»)، نتيجة الحصار الشامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي (إلخ) الذي يفرضه العدو الصهيوني، أم أنها نتاج الاتفاقيات التي وقعتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وانصياعها بحكم مصالح البطانة الفاسدة المحيطة بها من رأسماليين، جشعين بل ومتوحشين ــ بالضرورة مرتبطين بنظام عمّان ــ التي كرست بدورها سلطة الاحتلال. لقد جمعت قيادات «فتح» حولها بطانة رأسماليين طفيليين فاسدين ومفسدين، مديرة ظهرها للقوى الطبقية التي صعدت على أكتافها، وانسجاماً مع خيارها الاعتماد على «البترودولار» الفاسد والمفسد، بدلاً من الدعم الشعبي.
هنا، يؤكد الباحث توفيق حداد أن السبب هو الاتفاقات، لكن من دون إهمال دور «الثلاثية» في ذلك، والمنسجم تماماً مع سياسات العدو الصهيوني، ولنا عودة لهذا. بل إن الأطراف المانحة والمشاركة كافة تمارس دوراً مباشراً في منع صعود اقتصاد مستقل في مناطق الاحتلال الاستيطاني منذ عام 1967، وكل ما يجري في ما يسمى «عملية السلام»، هو ضمن إطار مشروع إيغال آلون وصيغته المعرّبة (المملكة العربية المتحدة) القائم على ضم أي أراض قد يجلي العدو عنها إلى كيان شرق الأردن، وهو ــ كما نعلم ــ الكيان المصطنع الذي أقيم لفصل فلسطين عن دولتي العراق وسوريا، والذي أثبت منذ تأسيسه عقب انتهاء معارك الحرب العالمية الأولى على يد دائرة المستعمرات البريطانية أنه الحليف الموثوق والأساس لكيان العدو.

فلسطين أضحت علاقة عمل مربحة لكافة المشاركين فيها


الكاتب يوضح أن موضوع مؤلفه ليس الخوض في نقاشات حول جدوى الاتفاقات وما يسمى زوراً «عملية السلام»، وإنما البحث في الحقائق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في «الضفة» الناتجة من الاتفاقات والسياسات النيوليبرالية التي صاغها «الثلاثي»، والتي قادت إلى كوارث لا حدود لها لحقت بسكان المناطق الفاعلة فيها ــ انظر البيانات المرفقة، المعربة عن الأصل في المؤلف.
الكاتب يقول إنه وجب إضافة الممارسات الغربية، المسماة الإنمائية، إلى المزيج العامل في «الضفة» منذ عام 1993، أي عام اتفاقيات أوسلو، مع أن اللاعبين الغربيين يدعون اقتصار تدخلهم على «بناء السلام» و«بناء الدولة»، دوماً بحسب كلمات الكاتب.
المقاربات النيوليبرالية تلك قادت في نهاية المطاف إلى ما أطلق عليه الكاتب «فلسطين المحدودة/ Palestine Limited»، و«شركة فلسطين المحدودة/ Palestine Ltd.».
الكاتب يوضح أن الصفة «فلسطين المحدودة» تشير إلى كيفية استحالة فلسطين إلى نسخة محدودة للغاية (delimited) من دويلة فلسطينية، ذات سلطات اقتصادية وسياسية مكبلة، تتميز بصفات اسمية للدولة، بل وقائمة في بعض مناطق سلطة رام الله المحدودة فحسب (ننصح القارئ العودة إلى مؤلف إيلان ببِ «أكبر سجن في العالم/ The Biggest Prison on Earth»، وعرضنا المنشور في صفحة ثقافة بتاريخ 02/12/2017).
في الحقيقة، إن قيادات منظمة التحرير، و«فتح» تحديداً ــ وبالتالي قيادات سلطة رام الله، تفهم الدولة على أنها نشيد وعضوية بعض المنظمات الدولية وحرس الشرف وعلم وبطاقات (VIP) لا أكثر، وهذا الكلام لنا، مع أن الكاتب يدين دوماً ممارسات قيادات فتح السياسية والاقتصادية.
أما «شركة فلسطين المحدودة»، فمرتبط، دوماً بحسب تعبيرات الكاتب، بالبنية المؤسساتية لهذا الفلسطين الشركة المحدودة للغاية كما تبنتها الأطراف الداعية لها. هذه «الفلسطين» الشركة المحدودة يمكن وصفها، على نحو عام، بأنها نهاية الشوط العملياتي للمانحين الغربيين المرتبط بالتطوير المزعوم و«بناء السلام» و«بناء الدولة»، حيث يمارس هذا الكيان دور شركة محدودة (Ltd.)، يشارك فيها مستثمرون عالميون أو إقليميون، ينتج لمالكي الأسهم فيها أرباح مالية مباشرة أو غير مباشرة، لتسهيل جنيها عائدات سياسية وإدارية وأمنية.
الكاتب بحث العوامل الثلاثة الفاعلة في السياسات النيوليبرالية وأوصلت الوضع الكارثي الحالي على النحو الآتي:
الجزء الأول خصصه الكاتب للحديث في الأرضية النظرية والتاريخية وبالتالي مساعدة القارئ في معرفة المقصود بالنيوليبرالية ومسائل «بناء الدولة» و«بناء السلام» وكذلك نقل المعلومات العامة التاريخية الاقتصادية والسياسية وأهداف المشاركين فيه.
الجزء الثاني خصصه الكاتب للحديث في مرحلة بناء السلام النيوليبرالي الممتد في ظنه من عام 1993 إلى عام 2000. ويوضح مخطط كيفية تطبيق المفاهيم النظرية التي وضعت في الجزء الأول في مناطق سيطرة سلطة رام الله.
الجزء الثالث يتفحص مرحلة بناء الدولة النيوليبرالية، وكيف أن نماذج السياسات المصاغة كافة تم تعديلها وإعادة صياغتها ورسمها في ظل ما يسمى بناء السلام.
ولنا عودة إلى هذه الأجزاء.

من الأمور النظرية التي يطرحها الكاتب معنى مفهوم «السلام الليبرالي»، والذي يؤدي، من منظور المتبنين له، والقائم على القناعة بأنه يضع الأسس السياسية والتنظيمية والاقتصادية الواجب معالجتها. فمن منظور الدول المشاركة في بناء السلام فإن السلام الاقتصادي سيؤدي إلى سلام وإنهاء الأزمات.
«بناء السلام»، في منظور الفاعلين، مرتبط ببناء الدولة، وهم يدعمون عملية تسعى إلى تطور الشروط والقيم والتصرفات التي تدعم السلام وتطور اقتصادي اجتماعي دائم. وبما أن البنك الدولي مشارك في هذه العمليات المزعومة، فإن بناء السلام مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببناء المؤسسات وفق النمط النيوليبرالي.
لكن تأثير النيوليبرالية في حركة التحرر الوطنية الفلسطينية يطابق ما يراه المرء في تطبيقه في أقاليم أخرى، لكنه أكثر تدميراً في المناطق الفلسطينية موضوع البحث بسبب خصوصياتها. النيوليبرالية تعني اللامركزية وشبه غياب للدولة، فكيف الحال إذن بأراض لم تعرف معنى الدولة أصلاً وخاضعة لاستعمار استيطاني!
الكاتب يتطرق، أيضاً، ضمن أمور عديدة مهمة، إلى دور الأردن وتغلغل الرأسمال من هناك في مناطق الاستعمار الاستيطاني منذ عام 1967، أو«الضفة الغربية». هذا التغلغل الذي بدأ بدعم نشيط من قيادات منظمة التحرير، أي من سلطة المقاطعة، يمهد الطريق أمام ما يسمى الحل الأردني.
الحقيقة هي أن مجرم الحرب اسحاق رابين، الذي وقع على اتفاقيات أوسلو، أعلن على نحو صريح غير قابل للتأويل بأن هدف هذه الاتفاقيات ربط الدولة العتيدة بنظام عمّان. بل إن المراقبين يرون أن اتفاق أوسلو شكل لأزمة مسبقة لاتفاقيات وادي عربة. وقد أوضح الجنرال رابين أن اتفاقيات أوسلو لم تشكل خيانة لنظام عمّان، بل إنها وضعت أسس حل الدولتين، أي كيان العدو والأردن، وأقل من دويلة فلسطينية محاصرة بينهما.
الكاتب يجزم بأن فلسطين أضحت تجارة أو علاقة عمل (business) مربحة للغاية لكافة المشاركين فيها. والمؤلف يوضح أن مسار الحلول المقترحة وضع كي تفشل، رغم ادعاء الأطراف الدولية المشاركة عكس ذلك؛ أي وفق مقولة «العملية نجحت لكن المريض توفي»!
مروحة المواضيع التي يطرحها المؤلف واسعة، وقد عملنا على تناول جوانب في المؤلف لم يتطرق إليها زملاء سبقونا إلى عرضه في منابر أخرى، لكن من المفيد لقارئي هذا العرض سرد محتوى المؤلف التفصيلي ذلك أن هدفنا هنا إثارة اهتمام القارئ به...
- المقاربة النيوليبرالية لحل النزاعات وبناء الدولة.
- الوصول إلى السلام: لمحة عن العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية المؤدية إلى عملية أوسلو للسلام.
- وضع تصميم حل.
- الرحلة: بناء السلام النيوليبرالي عملياً 1993-2000.
- المنفذون: محدِّدو بنية الاقتصاد السياسي الفلسطيني - الإسهام الإسرائيلي.
- التخمين الظني: محددو بنية الاقتصاد السياسي الفلسطيني - إسهام المساعدات الدولية.
- الفاعلون السياسيون الفلسطينيون يفاوضون بناء السلام النيوليبرالي.
- الإيجار والسعي للإيجار والتسوية السياسية لسنوات أوسلو.
- إعادة بناء الدولة.
- الفياضية.
- تحفيز التنمية المضادة.
الكاتب يخلص أخيراً إلى أن النتائج المعاشة ليست نتاج مؤامرات حيكت في الظلام، ذلك أنها اتفاقيات وتوافقات معلنة ومتوافرة لمن يريد الاطلاع عليها، لكن مع عدم نفي وجود تصميم على تمرير بعض الحقائق الناتجة في ما يسميه الأراضي المحتلة، والتي أدت إلى «الإبادة المجتمعية - sociocide».