«فليأخذ الأردن الضفة الغربية، فلتأخذ مصر غزّة. فليتعاملوا هم مع المسألة. أو فليغرقوا وهم يحاولون. السعوديون والمصريون وصلوا الى حدّ الانهيار. هم يخافون لدرجة الموت من فارس... هناك سوريا وليبيا واليمن... هذا الوضع سيئ… لهذا السبب روسيا مفتاح… هل روسيا حقّاً سيئة لهذه الدرجة؟ هم أناسٌ شريرون، ولكن العالم مليء بالأشرار» ــــ ستيف بانون
«الوضع اسوأ مما يمكن أن تتخيّله. أبلهٌ محاطٌ بالمهرجين. ترامب يرفض أن يقرأ أي شيء ــــ ولا حتى المذكرات المكوّنة من صفحة واحدة، ولا حتى أوراق السياسة المختصرة، لا شيء. انّه ينهض وينصرف في وسط الاجتماعات مع قادة العالم لأنّه شعر بالملل. وطاقمه ليس أفضل منه. كوشنر ولدٌ مدلل لا يعرف شيئاً. بانون نذلٌ مغرور يعتقد أنّه أذكى مما هو عليه. ترامب ليس انساناً، بل هو مجموعة من الصفات السيئة. لا أحد سيكمل السّنة الأولى باستثناء عائلته» ــــ من رسالة الكترونية لغاري كوهين، المستشار الاقتصادي لترامب، يصف فيها البيت الأبيض.

«هو ليس مجنوناً فحسب، انّه غبيّ ايضاً» ــــ توم باراك عن صديقه ترامب

«(خلال قمّة الرّياض)
عبد الفتاح السيسي لترامب: أنت شخصية فريدة قادرة على صنع المستحيل.
دونالد ترامب للسيسي: أعجبني حذاؤك كثيراً. يا رجل! يا له من حذاء!»


كتاب مايكل وولف الجديد عن السّنة الأولى لادارة ترامب، «نار ونقمة»، من الكتب التي يمكن انهاؤها في جلسةٍ واحدة وذلك لسببين. أوّلاً، السّرد ممتعٌ و«قصصي» لأنّ الكاتب يختزل السياسة الى أدنى درجاتها: الأفراد ورغباتهم وخلافاتهم وتصرفاتهم غير المتوقّعة. لن تجد في الكتاب شرحاً استراتيجياً أو كلاماً عن قضايا كبرى، بل هي كلّها «خلفية» أمام «المسرحية» التي يصفها وولف، ويلعب على خشبتها أبطاله. من جهةٍ أخرى، فإنّ شخصيّات هذه الإدارة، على نحوٍ خاص، من النّوع الروائي الذي يكفي وجوده في البيت الأبيض حتّى ينتج أحداثاً مثيرة: من ترامب نفسه الى ستيف بانون، الايديولوجي المهووس الذي يبتدع دوماً، لتوصيف الوضع، تشابيه تاريخية أو ملحمية (فترامب يريده بانون أن يكون مثل اندرو جاكسون، كأنّ ترامب يعرف من هو جاكسون، وهو يتخيّل دوره تجاه الرئيس كدور توماس كرومويل تجاه هنري الثامن؛ وحين ساءت الأوضاع في البيت الأبيض شبّهها بانون ببلاط أسرة تودر في بريطانيا)، الى ايفانكا وجارد كوشنر، وصولاً الى شخصيات جانبية كاريكاتورية مثل أنتوني ساراموتشي («ذا موتش»)، الذي كان يسرّب الفضائح ضدّ خصومه حتّى قبل أن يتسلّم منصبه في الادارة. يقول وولف إنّ ما يجعل ادارة ترامب مميّزة هي أنّ من يصل عادةً الى منصب الرئيس في المؤسسة الأميركية يكون قد خطّط وعمل نحو ذلك الهدف طوال عمره، فيعيش حياةً «نظيفة»، مملّة، تناسب وقار المنصب (أو يحرص على اخفاء آثاره حين يتجاوز)، وتظلّ عائلته في الظلّ تلعب دورها المتوقّع. المسألة، بحسب وولف، هي ليست أنّ ترامب ــــ وأكثر الفريق الذي أحضره الى البيت الأبيض ــــ لم يمارس السياسة في حياته، بل إنّ دونالد ترامب، حتّى خلال الحملة التي أدّت الى انتخابه، لم يكن يتوقّع الفوز أو يسعى اليه حتّى. ومن هنا تبدأ القصّة.
احدى الحجج الأساسيّة التي يقدّمها وولف هي أنّ دونالد ترامب وفريقه كانوا متصالحين مع فكرة الهزيمة. في الأيام التي سبقت الاقتراع، يروي الكاتب، كانت كيلي آن كونواي، مديرة الحملة، «في مزاج جيّد» لأنّها أُفهمت بأنّ الخسارة أمام هيلاري ستكون في حدود ست نقاط مئوية لا أكثر، وهو ما يشكّل نتيجة «جيّدة». وكونواي كانت تتحضّر لإطلاق مهنتها في مجال التعليق التلفزيوني والإخباري بعد «الهزيمة». ايفانكا وجاريد كوشنر كانا يطمحان، بالمثل، الى بناء نجوميتهما واستغلالها بعد الحملة. حين قيل لمايكل فلين إنّه من غير المستحسن له أن يتلقّى أموالاً روسيّة مقابل الخطابة وأن يحلّ ضيفاً في موسكو كان يجيب «هذا لن يشكّل مشكلة الّا لو فزنا». بل إنّ ترامب نفسه قال لأحد المقرّبين، قبيل الاقتراع، بأنّ «الهزيمة هي فوزٌ»، وكان يتهيّأ لاستغلال نجوميته السياسية وإطلاق محطّة تلفزيونية مع روجير ايلس (المدير السابق لـ«فوكس نيوز») وآخرين. وحين أخبرته زوجته ميلانيا بأنّها لن تتمكّن من احتمال حياة السياسة والأضواء، وعدها ترامب بأنّ الأمر كلّه سينتهي في نوفمبر حين يجري التصويت (ويخسر الانتخابات). في يوم إعلان النتائج، حين فهم ترامب أنّه سيفوز، لم تكن ردّة فعله فرحاً أو ابتهاجاً أو نشوةً بل شحب وجهه «كأنّه رأى شبحاً»، أمّا ميلانيا، فقد أجهشت بالبكاء. الوحيد من حول ترامب الذي كان متيقّناً من الفوز في المعركة الانتخابية، بحسب وولف وسرديته، كان ستيف بانون، الذي تشكّل علاقته مع ترامب، وصعوده وسقوطه داخل البيت الأبيض، أهمّ محاور هذا الكتاب.

لعبة الكراسي

تسبّب وصول فريقٍ لم يتحضّر للحكم الى البيت الأبيض بأكثر من نتيجة، لم تكن كلّها نعمةً على «الفريق الفائز». بول مانافورت، أحد مديري حملة ترامب، سيدخل السّجن وتصادر أمواله ويخسر كلّ شيء لأنّه وقع بين المطرقة والسندان في المواجهة بين ترامب و«الدولة العميقة». مانافورت كان رجلاً فاسداً في حياته العمليّة، يبيع «الخدمات السياسية» لأثرياء روس وأوكرانيين ويكدّس عشرات ملايين الدولارات ويغسلها ويهرّبها الى اميركا من دون التصريح عنها. وهو فعل ذلك لعشرات السنين قبل أن تضعه وزارة العدل نصب عينيها حين فتحت تحقيقها حول حملة ترامب وتوقع به أشدّ العقوبات. مانافورت ساعد ترامب في حملته بهدف نيل المزيد من العلاقات والصفقات، ولو كان يعلم بأنّه سيصبح جزءاً من بلاط رئيسٍ يعادي السلطة القضائية ويحاربها، وأن حياته وأعماله ستوضع ــــ على حدّ قول وولف ــــ تحت المجهر، لما وافق على استلام المهمّة. هذا تحديداً ما فعله توم باراك (وهو ملياردير صديقٌ لترامب، ومن أصل لبناني) حين عرض عليه الرئيس أن يصبح مدير مكتبه، فأجابه بما معناه «أنا أكثر ثراءً من أفعل هذا». حالة «عدم الاكتراث»» هذه قد تكون ما دفع بابن دونالد ترامب، مع كوشنير ومانافورت، الى قبول الاجتماع\ الفضيحة مع شخصيات روسية (بينهم عملاء للحكومة) في «برج ترامب» في حزيران 2016، بعد أن وعدوهم بمعلوماتٍ قد تؤذي هيلاري كلينتون. كانت الحملة في اسوأ أيامها، ولا توجد فيها قيادة، والعائلة كانت مستعدّة لفعل أيّ شيء بلا تحسّب للنتائج؛ فكان الاجتماع التاريخي الذي قد يودي الى ملاحقة كوشنير وربّما سجنه، أو حتّى انهاء رئاسة ترامب بأسرها (استغلّ بانون الحادثة في ما بعد، ضمن صراع الأجنحة في الادارة، للتدليل على طيش كوشنير وانعدام كفاءته: ««قادة الحملة الثلاثة اعتبروا أنها فكرة جيّدة أن تلتقي بحكومة أجنبية داخل برج ترامب، في قاعة الاجتماعات في الطابق الخامس والعشرين، ومن دون محامين … حتى لو كنت بلا أخلاق، وتريد الحصول على تلك المعلومات، فأنت تفعل ذلك في «هوليداي ان« ناءٍ في مانشستر، نيوهامبشاير، ومعك المحامون...»).
في العادة، يقوم المرشّح بعمل تحقيقٍ عن نفسه وماضيه، ليعرف مسبقاً ما قد يثار ضدّه إن أصبح رئيساً، ولكنّ ترامب اعتبر الإجراء غير ضروريّ؛ بل إنّ حملته لم تقم ــــ ولو من اجل المظاهر ــــ بالتحضير للانتقال في حالة الفوز (توزّع الحكومة أموالاً فيديرالية على الحملتين المتنافستين للتحضّر للانتقال، ومقابلة مرشّحين واختيارهم مسبقاً). بعد الفوز بأيّام، اتّصل بترامب صديقه كريس كريستي (الذي عيّنه، على الورق، مديراً لشؤون «الانتقال») في ذعرٍ ليخبره أنّهم لم يفعلوا شيئاً بعد، وأنّ الأموال المرصودة يجب صرفها ولا يمكن توجيهها لاستعمال آخر. هنا الجزء الثاني من قصّة مايكل وولف، وهو تحوّل دونالد ترامب من نجمٍ تلفزيونيّ لا علاقة له بالسياسة الى رجلٍ اقتنع بأنّه، طالما قد وصل الى المنصب، فهو قد ولد لأجل هذا القدر. فيما بانون، الذي يعتبر نفسه ابو «الترامبية» وصاحب الفضل في الفوز، يريد استخدام البيت الأبيض لاستكمال ثورته؛ بينما يخطّط ايفانكا وجاريد كوشنر لبناء مسيرةٍ سياسيّة على طريقة آل كلينتون، مع فارق أن الاتّفاق بينهما، على ما يبدو، هو أن تترشّح ايفانكا أوّلاً وتكون هي أوّل «رئيسة» في أميركا. هذا هو المزيج المشتعل الذي صنع السنة الأولى من ادارة ترامب، وصراع الأجنحة ولعبة الكراسي التي لم تبقِ، بعد رحيل فلين وبرايبوس وسبايسر وبانون، والخروج الوشيك لتيلرسون وكيلي (يجزم وولف في كتابه بأن الجنرال كيلي، مدير مكتب ترامب وآخر «المحترفين» الذين يضبطون الادارة، هو في أيّامه الأخيرة)، سوى ترامب وابنائه في البيت الأبيض، وحولهم يحوم التحقيق القضائي ــــ بل إنّ الكاتب يلفت الى أن شباباً يافعين مثل هوب هيكس وستيفن ميلر، كانا بمثابة «متدرّبين» في الحملة الانتخابية (interns)، قد يصبحان قريباً المسؤولين ذوي الاقدمية في الادارة الرئاسية.

رئاسة في خطر

من وجهة نظر مايكل وولف، فإنّنا يجب أن نتحرّر من أيّ أوهام حول مواهب ترامب ومهاراته، وما إن كان يخفي ــــ خلف مظهرٍ مخادع ــــ ذكاءً فطرياً أو اهتماماً بالسياسة. الخبراء اختبروه بعد فوزه بالانتخابات، ينقل وولف، وهم قد ذعروا حين اكتشفوا أنّه لا يعرف شيئاً عن أي موضوع، دولي أو محلي أو اقتصادي، ولا يهمّه أن يتعلّم (كما قال بانون حين اشتكى اليه الطاقم الرئاسي «هذا من نوع الرجال الذين كانوا يكرهون المدرسة جدّاً، وهو لن يحبّها الآن»). هذا من الأسباب التي سمحت له بالترنّح صوب من يؤثّر به في اللحظة، فيجعله بانون شعبويّاً في خطابه الافتتاحي، ثمّ يتحوّل وسطياً تحت تأثير جاريد وايفانكا (مواقف جاريد كوشنير، فعلياً، تشابه موقف الديمقراطيّين). ترامب لا يمتلك قناعات ايديولوجية محدّدة، وهو يؤمن بسياساتٍ مجتزأة ومتعارضة ــــ الأمثلة الوحيدة التي يعبّر فيها ترامب عن تفكيرٍ وتأمّل هي في النظريّات التي يسكّها من صنف «كلّما زاد الفارق العمري بين الشريكين كلما قلّت حساسية المرأة لخيانة الرّجل». حتّى «كتابه» الشهير، «فنّ الصّفقة»، يؤكّد الكاتب الذي خطّه بأنّ ترامب لم يساهم فيه بجملةٍ واحدة، وهو على الأرجح لم يقرأه. ولكن قد تكون هنا، تحديداً، سقطة ترامب وعائلته: انعدام الانضباط، وهو ما اشتكى منه بانون طويلاً وأكّد على ضرورته في وجه تحقيقٍ قضائي لـ«الدولة العميقة»، يرمي الى الغاء الرئاسة وتسقّط الأخطاء.
استراتيجية أعداء ترامب في البيروقراطية، كما يؤكّد وولف، ليست في إثبات نظرية «التآمر الروسي» كما تروّج لها وسائل الإعلام المعارضة، فهذه خياليّة على الأرجح؛ هدف التحقيق هو إرباك الرئيس ومعاونيه، وجعله يرتكب الأخطاء أو يكذب أو يخفي معلومات، فتتمّ ملاحقته من هنا. ما كاد أن يدخل مايكل فلين الى السّجن ليس التخابر مع السفير الروسي ــــ فهذا ليس ضدّ القانون ــــ بل الكذب حين سأله الـ«اف بي اي» عن الموضوع (وهو لم يكن يعلم أن الاتصال واقعٌ تحت التنصت الحكومي). الأمر ذاته ينطبق على لقاء «برج ترامب» بين الرّوس وصهر ترامب وابنه (بالمناسبة، تجايلت ــــ بالصّدفة ــــ مع ايريك ترامب خلال الدّراسة في جورجتاون، وكنت أراه في الحرم الجامعي الصّغير ولكنّني، على عادتي في اجتناب الفرص، لم أحاول التعرّف اليه). من هنا، فإنّ الكتاب ايضاً هو تأريخٌ لمحاولة سلسلةٍ من الأفراد (من روجير ايلس وروبيرت ميردوخ الى الجنرالات وهيئة الحزب الجمهوري)، عبثاً، حماية ترامب من نفسه. على سبيل المثال، منذ اليوم الأوّل لانتخاب ترامب، حاول روجير ايلس أن ينبّهه الى ضرورة بناء فريقٍ يقدر على مواجهة القادم من الأيّام: «سوف تحتاج الى ابن عاهرةٍ ليكون مدير مكتبك. وستحتاج الى ابن عاهرةٍ يعرف واشنطن. المفضّل أن تكون انت ابن العاهرة الخاصّ بنفسك، ولكنّك لا تعرف واشنطن» ــــ فلم يأخذ ترامب بالنصيحة وعيّن رينس برايبوس الضعيف، بعد أن حاول وضع أقاربه في المنصب وقيل له إنّ ذلك سيكون فضائحياً وغير مقبول.
فيما ترامب يكاد يجد نفسه وحيداً في البيت الأبيض، و«العاقل» الوحيد من حوله هو الجنرال ماتيس الذي ــــ بحسب وصف وولف ــــ يحاول عابساً احتواء نزوات سيّده وهفواته، بينما ترامب يستمتع باذلاله وعصيان توجيهاته، يقول ستيف بانون (الذي يتكلّم عن نفسه بعد خروجه من البيت الأبيض بصفته الرئيس القادم لأميركا، والزعيم الحقيقي للحركة «الترامبية») للمؤلّف بأنّ هناك ثلاثة احتمالات متساوية أمام ترامب: امّا أن يصل نصل التحقيق الى رقبته وينهي رئاسته على طريقة نيكسون، أو أن يعزله الكونغرس بسبب الجنون وانعدام الكفاءة، أو أن «يعرج» حتّى انتهاء ولايته الأولى. تبدو هذه القصص طريفة حين تستغرق في دقائقها حتّى تتنبّه، فجأةً، الى أنّ هؤلاء الأفراد الذين تقرأ عنهم هم من يحكم الكوكب اليوم.