مدينة لا معقولة يأخذنا إليها المخرج جوليان بطرس في مسرحيته الجديدة «المدينة» (نص للكاتب الإنكليزي مارتن كريمب) على خشبة مسرح «دوار الشمس». مدينة لا نراها. لكنها تحضر في الحوارات وهواجس الممثلين، مشكّلةً مناخات مدينية معاصرة تحيط بالمنزل الذي تجري فيه الأحداث.
الزوجان كلير (مريم الرامي) وكريس (عبده النوار) لا يكادان يلمسان بعضهما. يتحدثان عن العمل وضرورته، عن الكتابة والترجمة بما يشبه الهذيان، ويفشلان في تبادل قبلة طوال مدّة العرض. نعرف أن الحوار المتعذّر بينهما، تعرقله أحاديثهما المتباعدة وأحداث خارجية وأكثر عمومية ستطرأ على حياتهم من دون سياق واضح.
المسرحية التي كتبها كريمب عام 2008، تتعمّد هذا التباعد والانفصال بين الشخصيات، كاستعارة عن العلاقات البشرية. كما أنها تنحو إلى سوريالية عبر الكتابة وتقنياتها التي تترك مساحة واسعة للمتفرّج لربط الأحداث ببعضها، مثيرة إشكاليات حول العنف الذي تكتنزه الحروب والصراع الطبقي ودورة العمل والمؤسسة الزوجية. إنهم ثلاث شخصيات. كلير الغارقة في الترجمة التي تنجذب إلى الكاتب محمد، وزوجها الذي يؤرقه هم الشغل والبحث عن عمل. تخلق الحوارات والمونولوغات مشاهد بصرية قوية في ذهن المتفرّج، كما مشهد الموظف الذي يقف خلف براد اللحمة في السوبرماركت، وفق ما يخبرنا الزوج. لكن الأداء التمثيلي لم يأت دائماً على مستوى هذه المشاهد. جارتهما الممرضة جيني (هبة نجم)، ستدخل إلى حياتهما فجأة بمونولوغ لعله الأقوى في العرض.

الحروب والصراع الطبقي ودورة
العمل والمؤسسة الزوجية
تأتي في البداية لتشكو الأطفال الذين يزعجونها بأصواتهم. رغم أنهم غارقون في اللعب داخل غرفة مغلقة، إلا أننا لا نتأكّد من وجودهم فعلاً، وما اذا كانت هذه الغرفة كافية لحمايتهم مما يجري في الخارج. تنتهي الممرضة بالحديث عن زوجها الطبيب الذي يشارك في الحرب بسلاح أيضاً، وعن خطر المتمسكين بالحياة. ببساطة وسخرية أحياناً، تحكي طرق فظيعة ودموية لقتل الأطفال بالسكين. رؤى وجمل كهذه تكسر سياق الحوارات ولو غير المترابط (المقصود) بين الممثلين الثلاثة. الخيار الإخراجي الذي يتخذه بطرس، يصرّ على تظهير هذه العلاقة بين الممثلين. يحصرهم في فضاء واحد كأنما ليدلّنا إلى تباعدهم فعلياً. كلما تقدّم العرض، تظهر شيئاً فشيئاً الفقاعات الكبيرة التي تحيط بكل فرد وتفصله عن الآخر. هناك سرير زوجي، وتعليقة ثياب تشبه شجرة ميلاد، وحديقة فيها كنبة ومقعد (سينوغرافيا جوليان بطرس). يوظّف بطرس العنصر السينوغرافي، لتعزيز العنف المتواري طوال العرض. سترمي الممرضة حجارة الكنبة على الأرض، فيما تدفع كلير حجارة السرير أيضاً، فلا يعود سريراً صالحاً لا للنوم ولا للجلوس. تحدث هذه الطرقات وقعها بين الحوارات الآمنة في الظاهر. تخرج العنف الكامن إلى الخارج وتعطيه جسداً. أفعال تجد مرادفها في سياق النص نفسه (تعريب مالك أبي نادر)، تحديداً في الدم الذي يتعمّد الكاتب تظهيره مرات كثيرة بشكل غير متوقّع. هذا ما يضفي غرائبية على العرض بأكمله، ويخلق شكاً بمدى نجاة الأفراد مما يحدث في الخارج ويحاصرهم. إخراجياً، يظهر هذا الخارج عبر فيديو مديني سريع (فيديو حسن شحوري) ينعكس على الشاشة في المسرح وعلى جسد كلير. لكن هل كنا نحتاج إليه لنعرف ذلك، خصوصاً أن المدينة ترمي بثقلها على أفعال الممثلين، ولو كانت متوهمة أو مختلقة؟ إنها في المفكرة السرية التي تكتب كلير فيها شخوصها المتخيّلة، بمن فيهم الابنة (هبة سلامة).

«المدينة» لجوليان بطرس: حتى يوم غد الأحد ـ «دوار الشمس» (الطيونة ــ بيروت) ـ للاستعلام: 01/381290