تحياتي واحترامي،لولا وقوفكم منذ عقود في طليعة المدافعين عن قضايانا الوطنية الكبرى، ولولا الإعراب في أكثر من مناسبة عن عزمكم على مكافحة الفساد الذي أصبح يفتك بشتى أوجه حياة المواطن اليومية، لما فكرت لحظة بشرف التوجه إليكم بهذه الرسالة لألفت انتباهكم الكريم إلى الانحرافات البالغة الخطورة التي تنطوي عليها السياسة المتبعة لاستثمار ثروة البترول والغاز الموعودة.

انحرافات أكثر من مقلقة سبق أن أشرت إليها بإسهاب خلال السنوات الثلاث الماضية، في كتابين وفي العديد من المحاضرات والمقالات، بما في ذلك تساؤلات حول نقاط جوهرية، طرحتها في شباط 2017 في كتاب مفتوح لوزير الطاقة مع نخبة لا تقل عن ثلاثين من الوزراء السابقين وأساتذة الجامعات والاقتصاديين والاعلاميين. تساؤلات ما زالت من دون أي جواب أو تفسير، رغم بلوغنا مرحلة الحديث عن اقتراب موعد توقيع اتفاق للتنقيب عن البترول والغاز وإنتاجهما تجاه الشواطئ اللبنانية مع مجموعة تضم «توتال» (مشغل، 40%)، و«ايني» (40%) و«نوفاتيك» (20%). انحرافات وهواجس يمكن إيجازها في النقاط التالية:
(1) التشويه الصارخ لجوهر القانون البترولي 132/2010، عبر المرسوم التطبيقي 43/2017 الخاص بنموذج «اتفاقية الاستكشاف والإنتاج للأنشطة البترولية». وقد بدأ التشويه عندما تجاهل المسؤولون عن صياغة هذا المرسوم نظام «تقاسم الإنتاج» الذي نص عليه القانون صراحة، ليستعيضوا عنه بنظام «تقاسم الأرباح» الذي يشكل عملياً عودة مقنّعة لنظام الامتيازات التعيسة الذكر التي عفا عليها الزمن، والتي كانت أصلاً تسمى في مرحلتها الأولى «تقاسم الأرباح». الفارق الجوهري بين النظامين يكمن في كون نظام تقاسم الإنتاج يرتكز على: أولاً مشاركة الدولة الفعلية، عبر شركة وطنية، في الأنشطة البترولية بنسبة لا تقل عن 40% وتناهز 60% في معظم الحالات، وثانياً حصر ملكية كل ما يتم اكتشافه من الهيدروكربونات بالدولة، على أن تنتقل إلى الشريك الأجنبي ملكية حصته عند تحميلها على الناقلات.
(2) النتيجة المباشرة لتشويه القانون ولما نص عليه حول نظام تقاسم الإنتاج، كان إقصاء الدولة كلياً عن المشاركة الفعلية في الأنشطة البترولية، كما تنص على ذلك حرفياً المادة 5 من المرسوم المذكور، بالتأكيد على أنه «من دون الإخلال بأحكام المادة 36 (2)(هـ)، ليس للدولة نسبة مشاركة في دورة التراخيص الأولى»! هكذا، وفي ثماني كلمات، قرر بعض مجهولي الهوية طرد الدولة برمّتها من المشاركة الفعلية في صناعة البترول والغاز، ومن دورها المحوري في استثمار ثروتها الموعودة.
ولا يقل عن هذا غرابة ما توضحه المادة 36 التي تنص على إمكانية دخول الدولة كشريك فقط في حال حدث تعطيل أو خلل أو تنازل جبري من قبل واحد من أصحاب الحقوق الثلاثة المعنيين. في هذه الحالة فقط يتم الاستنجاد بالدولة كي تحل محل الشريك الأجنبي المخل. مما يعني بتعبير آخر قيام الدولة بدور «إطار عجلة احتياطي» عندما تدعو الحاجة!. باستثناء حالة الطوارئ هذه، لم يترك المرسوم المذكور للدولة وممثليها سوى المهمات البيروقراطية، إلى جانب الدور المهين الذي يقتصر على «حق طلب تعيين ممثلين للحضور كمراقبين» في بعض اجتماعات لجان إدارة الشركات العاملة ورفع التقارير للجهات المعنية (المادة 16).
هذا الفراغ الذي أحدثه التعطيل المذهل لدور الدولة، علاوة على التلكؤ في إنشاء شركة نفط وطنية، فتحا الباب لدخول عدد كبير من الشركات المارقة الملاحقة قضائياً في بعض البلدان المجاورة، بالإضافة الى شركات لا وجود لها إلا على الورق تم تسجيلها على عجل برساميل رمزية لا تتجاوز أحياناً 1300 دولار، مما لم يمنع هيئة البترول من تأهيلها المسبق والتأهيل بها للحصول على حقوق استكشاف وإنتاج...
الهدف غير المعلن من تأهيل هذه الشركات، علاوة على بعض الشركات الأخرى «غير المشغلة»، أي غير القادرة على القيام بما هو مطلوب، هو استعمالها كغطاء لبعض المصالح الخاصة، وفرضها كشركاء مع الشركات الكبرى التي تتولى دور المشغل (Operator)، وذلك في إطار «شراكة تجارية غير مندمجة»، لا يقل عدد أعضائها عن الثلاثة (المادة 6 من دفتر الشروط). وهكذا تكتمل عملية احتيال تكاد تكون صبيانية لنقل ملكية جزء من البترول أو الغاز المكتشف، قد تبلغ قيمته المليارات أو عشرات المليارات من الدولارات، من الدولة إلى مصالح خاصة. هذه «الهندسة» الفريدة من نوعها للاستيلاء المباشر على جزء من الثروة النفطية ليس لها سابقة، حتى في بلدان العالم الأكثر فساداً. هذا بالإضافة، في حال استمرار عدم وجود شركة وطنية، لتوسيع صلاحيات وزير الطاقة إلى التدخل مباشرة في تقاضي الإتاوة وبترول وغاز الربح عينا وتسويقها! هل هذه هي أفضل وأضمن وسيلة للتصرف بمبالغ بهذا الحجم من المال العام؟
(3) بغية التوصل على جناح السرعة إلى اتفاقيات مع شركات أجنبية، لم يبخل المسؤولون المعنيون بشتى الإغراءات الباهظة الثمن، أهمها دمج مراحل الاستكشاف والتنقيب والإنتاج في اتفاق واحد يوقع سلفاً لمدة تناهز 40 عاماً، وصرف النظر كلياً عن كل أنواع العلاوات (Bonus)، وتحديد كل المكوّنات المالية لحصة الدولة من دون الحد الأدنى المعروف في العالم، واللجوء لآلية المزايدة (Bidding) لتحديد سقف استرداد النفقات الرأسمالية (Capex)، أو حتى نصيب الدولة من الأرباح انطلاقاً مما تقترحه الشركات (المادتان 23 و24). وهي آلية ترفضها البلدان الأخرى لأنها تتم وراء الباب، خلافاً لمقتضيات الشفافية.
هذا كله يؤدي الى تقليص حصة الدولة من الأرباح إلى حوالي 47% لا غير خلال سنوات الإنتاج الأولى، مقابل 65 ــــ 85% تؤمنها عقود تقاسم الإنتاج الحقيقية المطبقة في أكثر من 70 بلداً. بعد هذه الفترة، من المفترض أن تزداد حصة الدولة عند وضع عامل الدخل (Revenue Factor) موضع التنفيذ، وبوتيرة ليس بإمكان أحد معرفتهما حالياً، خاصة وأنهما خاضعان للمزايدة السرية بين الشركات والمسؤولين المعنيين. يضاف إلى ذلك أن إقصاء الدولة عن الأنشطة البترولية يجعل منها كـ«الأطرش في الزفة»، العاجز عن معرفة ومراقبة المعطيات والأرقام الحقيقية للنفقات والإيرادات والأرباح. هذه السرية التي ما فتئت تلف مسيرة البترول والغاز، والتي قال عنها رئيس اللجنة النيابية للأشغال والنقل والطاقة، تحت قبة البرلمان، أنها «معيبة ومخجلة».

خلاصة واقتراحات

وحدكم يا فخامة الرئيس يمكنكم إعطاء التعليمات الصارمة والفعالة لتصحيح هذا المنحى المؤلم الذي اتخذته سياسة البترول والغاز، وذلك بالعودة بكل بساطة الى القانون البترولي 132/2010 والتقيّد بأحكامه، خاصة من حيث دخول الدولة كشريك، عبر شركة نفط وطنية، وبحصة لا تقل عن 40%، أي الحد الأدنى المقبول في مئات اتفاقيات تقاسم الإنتاج المطبقة في العالم. وهذا لا يكلف لبنان دولاراً واحداً في حال عدم حصول أي اكتشاف، إذ إن هذا النظام يقتضي بطبيعته أن يتحمل الشريك الأجنبي وحده مخاطر التنقيب وأعباءه، في حين أن الدولة المضيفة تحتفظ بحق الدخول كشريك في مرحلة الإنتاج، وتسدد للطرف الأجنبي تدريجياً ما يترتب عليها من نفقات التنقيب عبر ما يسمى "Carriedinterest"، ثم نفقات الإنتاج. وسيكون هذا بمنتهى السهولة، إذ إن حصة 40% للدولة تعني حصة مماثلة لكل ما يتم اكتشافه من الهيدروكربونات، مما يقاس بالمليارات من الدولارات.
ومن البديهي أن تثبيت حق الدولة في الدخول كشريك لا بد أن يتم في صلب الاتفاق، ولا يمكن أن يحصل بعد التوقيع عليه، إذ إن الشريك الأجنبي يريد طبعاً ويحتاج مسبقاً لمعرفة حقوقه والتزاماته. كما أنه من حسن الحظ أن تبدي شركة «توتال» استعدادها لتولي مسؤولية دور المشغل، بحصة 40% أو حتى أكثر، جنباً إلى جنب مع أية شركة كبرى أخرى، شرط دخول الطرف الوطني كشريك، وبشروط تؤمن تكافؤ مصالح الأطراف المعنية.
وفي حال كان لديكم، يا فخامة الرئيس، أي شك حول هذه النقطة أو تلك، فأناشدكم تخصيص القليل من وقتكم الثمين لتبادل الرأي مع ممثلين عن صندوق النقد الدولي، أو منظمة «اوبك»، أو منظمة OECD أو غيرها من المنظمات الدولية المهتمة بحوكمة الصناعة البترولية ومكافحة الفساد فيها، أو ممثلين عن واحدة من أكثر من 70 دولة تمارس نظام تقاسم الإنتاج منذ عقود من الزمن، أو أية جهة أخرى مستقلة تحظى بثقتكم الغالية. كما يبدو من الضروري التحقق من سفيرة النروج في بيروت عن صحة اقتداء لبنان بالنموذج النروجي وغير ذلك من وسائل التضليل.
ذلك لأنه أصبح من الضرورات الملحة تجنب خطأ ربط لبنان بالتزامات كارثية من شبه المستحيل التراجع عنها، وتهدد بجعل ما حصل عندنا في هذا المجال مضحكة للعالم. كما تهدد، لا سمح الله، بانفجار لا مناص منه لما أصبح يشبه قنبلة موقوتة، تردد دويها وسائل الإعلام العالمية، وتفقدنا مصداقية نحن بأمس الحاجة اليها.
وجودكم يا فخامة الرئيس على قمة هرم السلطة هو أفضل ضمانة لإنقاذ الثروة النفطية من المخاطر التي تهددها، ولتأمين حقوق وآمال وكرامة اللبنانيين. إنها أمانة لهم بين أيديكم، وماضيكم لا يترك مجالاً للشك أن هذه الأمانة في محلها، وأن تدارك تداعيات ما حصل من أخطاء وانحرافات سيكون إنجازاً مصيرياً يشكركم عليه الجميع، ويدخلكم في تاريخ مكافحة الفساد في لبنان من بابه العريض.
أرجو لكم من الصميم كامل التوفيق في تحمل مسؤولياتكم الجسام في خدمة لبنان وكل اللبنانيين، مع التفضل بقبول فائق التقدير والاحترام.
بيروت في 2 كانون الثاني 2018