د. ديمة فاعور *يعتبر "الغليفوسات" عنصراً نشطاً في مبيد رونداب (اسم تجاري) ويعود اكتشافه الى عام 1970 من قبل كيميائيي شركة "مونسانتو" التي قامت في عام 1974 بتسويقه وبيعه للمزارعين على نطاق واسع بعدما تبين بأنه مفيد جداً للتخلص من الأعشاب الضارة التي تصيب المزروعات. ومنذ أواخر السبعينيات، زاد حجم مبيدات الأعشاب القائمة على الغليفوسات ما يقرب من 100 ضعف، الى أن أصبح واحداً من أكثر المبيدات استخداماً في جميع أنحاء العالم.

ومن المرجّح أن ترتفع معدلات استخدامه استجابة للانتشار الواسع للأعشاب المقاومة للغليفوسات، ومن هنا لا زالت "مونسانتو" (التي تعتبر من كبريات الشركات الاحتكارية في العالم) تواجه مطالبات قانونية متعددة في الولايات المتحدة من المدعين الذين يزعمون أن الغليفوسات قد تسبب لهم بالسرطان، أو لأعضاء من أسرهم.
وفي هذا السياق، خلصت الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية مؤخراً إلى أن الغليفوسات "ربما تكون مسرطنة للإنسان" هذا ما تضمنه تقرير لها صدر في آذار 2015. وهذا ما يعارض القرارات الحديثة ومنها تلك التي صدرت عن الوكالة الأميركية لحماية البيئة، والهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية!

الفوارق وأسبابها

ما نجح في مكافحة الأعشاب الضارة قد ينجح في قتلنا

قامت الوكالة الدولية للوقاية من السرطان (إيارك) التابعة لمنظمة الصحة العالمية، ومقرها ليون (فرنسا)، بتشكيل فريق عمل مكون من 16 خبيراً لتقييم ومراجعة جميع الأدلة العلمية التي بينتها الدراسات البشرية والحيوانية والمخبرية بشأن المخاطر المحتملة للغليفوسات في التسبب بالسرطان وذلك منذ ما يقرب من عام قبل إصدار تقريرها في آذار عام 2015. وكان الاستنتاج أن الغليفوسات "مادة مسرطنة محتملة". تصنيف هذه المادة كان قد تم استناداً إلى نتائج دراسات أجريت على الحيوانات ولم تكن لها صلة مباشرة بصحة الإنسان. الشق الأساسي في هذا الموضوع يتعلق بتثبيت إمكانية أن هذه المادة قد تسبب السرطان في بعض الظروف المحتملة، ولكن في غياب أدلة عن الخطر الفعلي أي عن تقييم احتمال التعرض الفعلي للإنسان لهذه المادة ولهذا المرض العضال. مثلاً من الممكن ان يكون للتعرض البشري الفعلي لمستويات منخفضة جداً من الغليفوسات آثار صحية ضارة ولكن للتأكد من ذلك يجب توفر معلومات علمية دقيقة تأخذ بالاعتبار عوامل مختلفة قد تكون لها تأثيرات على العلاقة السببية (بين الغليفوسات والسرطان) كالتدخين مثلاً والأمراض ونسبة التعرض للمادة المذكورة عند المزارعين إلخ.

تعديلات لمصلحة من؟

كانت مسودة وثيقة "ايارك" المتعلقة بتقييم غليفوسات قد خضعت لتغييرات كبيرة قبل وضع اللمسات الأخيرة على التقرير ونشره وذلك لتعزيز استنتاجات إيجابية. وبالتفاصيل، لقد تبين أن الوكالة كانت قد رفضت وعدلت النتائج في المسودة التي تتعارض مع استنتاجها النهائي بأن المادة الكيميائية ربما تسبب السرطان. تم تحديد تلك التعديلات في الفصل المكرس للدراسات الحيوانية من التقرير، والذي أصبح متاحاً كجزء من الدعاوى القضائية ضد مونسانتو. وفي مقارنة المسودة مع التقرير النهائي المنشور حيث تم تحديد 10 حالات مهمة فيها استنتاج سلبي حول الغليفوسات المؤدية إلى أورام وتلك إما تم حذفها أو استبدالها بمحايدة أو إيجابية. وتشير نتائج كيلاند وهو صحافي لرويترز إلى أن المسودة الأصلية وجدت القليل من الأدلة الحيوانية على أن الغليفوسات مادة مسرطنة وكان هذا الفصل مهماً في قرار "ايارك" الأخير. من الجدير بالذكر أن التقرير أعلاه قد دفع بنزاعات دولية ودعاوى قضائية بملايين الدولارات.

احتمالات لا يؤخذ بها

تناقضات التقارير العلمية حول الكيميائيات مخيفة ومكلفة

بناء على ذلك، قام العديد من الخبراء والباحثين بفحص تقرير "إيارك". وبعد إجراء التقييمات الخاصة به باستخدام أساليب معيارية معترف بها دولياً توصلت جميع السلطات المعنية بالتقييم في أوروبا كذلك أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى هذه البيانات الأصلية إلى استنتاج مفاده أنه لا ينبغي تصنيف الغليفوسات كمسرطن بناء على الداتا والبيانات العلمية الحالية. من المهم الإشارة الى أن تصنيف الغليفوسات كمادة مسرطنة للإنسان يعتمد اعتماداً كلياً على أدلة كافية وعلى الأدلة الوبائية التي لم تكن قوية أيضاً.
تقول الوكالة الأميركية لحماية البيئة، التي قامت بتقييم الغليفوسات لأول مرة في الثمانينيات، واستعرضتها مرات عدة منذ ذلك الحين، أن المشكلة التي نتحدث عنها ذات "خطر منخفض للإنسان" وأن التقييم النهائي لم يؤكد وجود أي مخاطر على صحة الإنسان عند استخدام المنتج. ومع ذلك، يشير تقييم المخاطر البيئية إلى أن هناك احتمالاً للتأثيرعلى الطيور، والثدييات، والنباتات البرية والمائية.
وخلال العامين الماضيين قدمت أيضاً الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية والوكالة الأوروبية للمواد الكيميائية التي تقدم المشورة إلى 28 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي تقييماً عن مادة الغليفوسات مرتكزة إلى الأدلة العلمية وتقرير "ايارك". وفي تقرير أعده المعهد الاتحادي الألماني لتقييم المخاطر (بفر) خلصت الهيئة إلى أن "الغليفوسات من غير المرجح أن يشكل خطراً مسرطناً على البشر، ولا تدعم الأدلة التصنيف في ما يتعلق بإمكاناته المسرطنة.

انحياز في الأبحاث

أما في ما يتعلق بالأدلة البشرية فقد أشارت الهيئة إلى أن هناك أدلة محدودة جداً على وجود ارتباط بين التركيبات القائمة على الغليفوسات والأورام السرطانية، وهي غير حاسمة بشكل عام لجهة وجود علاقة ارتباط سببية واضحة بين الغليفوسات والسرطان في الدراسات البشرية، كذلك فإن ملحق "بفر" حول تقرير الهيئة العامة للبيئة لم يؤكد وجود ارتباط إيجابي ثابت.
وبالعودة الى تقرير "ايراك" فالأدلة عن الإصابة بالسرطان في الدراسات البشرية كانت محدودة وهذا معناه أنه لم يلاحظ "وجود ارتباط إيجابي بين التعرض للمادة المذكورة وبين السرطان"، وهذا ما اعتبره الفريق العلمي تفسيراً سببياً موثوقاً به، ومع ذلك لم يكن بالإمكان استبعاد عدة عوامل أخرى قد تؤثر على موضوعية الأدلة كعامل الصدفة أو أنه "ليس هناك اتجاه ثابت لنتائج الأبحاث"، علاوة على احتمال حصول انحياز لاتجاه معين في الأبحاث. رغم أن مجموعة عمل "إيارك" استندت إلى دراسات عالية الجودة من حيث التطبيق والأسلوب مما يقلل من احتمال بعض التحيزات علماً بأن بعض من تلك الدراسات كانت قد صنفت من قبل هيئة سلامة الأغذية الأوروبية على أنها غير موثوق بها لعدم تقييمها عوامل مؤثرة أخرى تعتمد دراستها غالباً على الأبحاث المتعلقة بالأمراض الوبائية كالتدخين والأمراض السابقة وبالمعلومات عن نسب التعرض للغليفوسات وغيرها.
أما في ما يخص أدلة الدراسات الحيوانية فقد خلص استعراض الباحثين من الاتحاد الأوروبي إلى أنه لم يلحظ زيادة كبيرة في الأورام على أي من المجموعات المعالجة من الحيوانات وذلك في تسع دراسات على الفئران أجريت على المدى الطويل. من ناحية أخرى، أخذت "ايارك" دراستين تظهران آثاراً مسرطنة كبيرة على الفئران وهذا ما اعتبره أقرانهم في الاتحاد الأوروبي بمثابة تغيير ضئيل إحصائياً.

مناهج مختلفة وغياب الشفافية

خلاصة القول هو أننا أمام واقعين: الأول أن إيارك والاتحاد الأوروبي يتخذان نهجين مختلفين في تصنيف المواد الكيميائية. فالأول ينظر الى الغليفوسات كمادة اساسية نشطة والى المبيدات القائمة على تلك المادة كمجموعة واحدة بصرف النظر عن تكويناتها، بينما ينظر الاتحاد الأوروبي الى المادة نفسها باعتبارها مادة كيميائية مركبة من عناصر مختلفة والى هذه العناصر كل على حدة. وهذا أمر مهم لأنه على الرغم من أن بعض الدراسات تشير الى أن بعض التركيبات القائمة على الغليفوسات سامة للجينات (أي تضر بالحمض النووي)، فالبعض الآخر الذي يركز فقط على المادة الفعالة الغليفوسات لا يظهر هذا التأثير. ومن المرجح، بالتالي، أن الآثار السامة على الجينات كانت قد لوحظت في بعض الصيغ القائمة على الغليفوسات وأن أسبابها تعود الى مكونات أخرى أو مشتركة.
والثاني هو أن المجريات الأخيرة المتعلقة بتقرير "ايارك" والفوارق بينه وبين الهيئة الأوروبية يعتبرانتهاكاً للشفافية المطلقة في تناول هكذا قضية من أجل الحفاظ على الصحة العامة. لست بصدد التعمق في مجريات هذا الموضوع وعرض الفوارق العلمية الأخرى في هذه العجالة، ولكن ما أريد قوله هو أن ما تم تداوله أخيراً للدفاع أو لتبرير هذه المجريات في قضية ذات طابع عام إنساني بامتياز ولا يمكن اعتبارها مجرد قضية محلية أو حتى إقليمية، انما يعكس مدى حساسية هذه المسألة وبالتالي مدى أهمية وجود تلك المنظمات الموكَلة اليها مسؤولية كبيرة تتعلق بالصحة العامة للانسان أينما كان وقدرتها على التجرد من المصالح الخاصة أو من تضارب مصالح فيما بينها. ولذلك فعندما نقرأ ما نشر حول هذا الموضوع لا بد أن يصيبنا بعض من الشكوك والخوف.

* باحثة وأخصائية في سلامة الأغذية، هانوفر - ألمانيا




المحتمل يعني مؤشراً خطيراً

على مدى العامين الماضيين حاول الاتحاد الأوروبي إعادة تفويض استعمال الغليفوسات ولكنه جوبه بمعارضة من قبل السياسيين في الدول الأعضاء الذين تأثروا بالحملة الشرسة ضد هذه المادة. من الناحية الأخرى، من شأن قرار حظر استخدام الغليفوسات أو التخلص التدريجي منه أن يضرّ بالمزارعين والمستهلكين على حد سواء عن طريق خفض غلة المحاصيل وزيادة تكاليف الإنتاج وهذا قد يدفعهم للعودة الى مبيدات الأعشاب التي تشكل مخاطر صحية أكبر.
وبانتظار صدور القرار النهائي للهيئة الأوروبية، لا بد أن نشير أخيراً الى رأي مجموعة من الباحثين في جامعات أوروبية مختلفة توصلوا من خلال دراساتهم الأخيرة التي قاموا بها مقارنة بتقرير الهيئة الأوروبية وايارك الى أن التقييم الأنسب والقائم على أسس علمية للأمراض السرطانية عند البشر والحيوانات المختبرية وكذلك على أسس البيانات الإحصائية الداعمة هو أن الغليفوسات مادة مسرطنة بشرية محتملة. واستناداً إلى هذا الاستنتاج وفي غياب أي دليل يناقضه من المعقول القول بأن تركيبات الغليفوسات ينبغي أيضا اعتبارها مسرطنة محتملة للإنسان الى أن تكتمل جميع المثبتات عكس ذلك.





تمديد أوروبي لاستخدام مبيد مسرطن!

قبل نهاية العام الماضي بقليل صوتت 18 دولة من الأعضاء في الاتحاد الاوروبي، خلال جلسة خاصة عقدت في بروكسل، على تمديد استعمال "الغليفوسات"، بينما صوتت 9 ضده، بما في ذلك بلجيكا التي كانت اكثر المتحمسين لمنع استخدام هذا المبيد. وقد عبر وزير الزراعة البلجيكي دونيس دو كارم عن أسفه لقرار الدول الأوروبية تمديد استعمال مبيد الأعشاب الضارة (الغليفوسات) لمدة خمس سنوات قادمة. وأشار الوزير البلجيكي إلى أن القرار جاء مخيباً للآمال، "خاصة أنه لم يتضمن أي حديث عن استراتيجية خروج من الغليفوسات، ولم يخصص أي موازنة للبحث عن بدائل له"، حسب كلامه. وأعرب عن مخاوفه من أن يتم تمديد المدة لفترة إضافية بعد خمس سنوات، الأمر الذي يشكل خطراً مستداماً على الصحة العامة.
وطالب الوزير السلطات الفيدرالية في البلاد البحث عن طرق من أجل تقنين وتخفيض استخدام الغليفوسات في البلاد من أجل استبداله تدريجياً بمستحضرات أقل خطراً على النباتات والانسان.
وكانت العديد من التقارير العلمية قد أكدت أن استعمال الغليفوسات يتسبب في إصابات بالسرطان لدى المزارعين الذين يستخدمونه وأيضاً لدى المستهلكين بسبب وجود جزئيات منه في الخضراوات والفواكه.