لم تنته تداعيات إعلان رئاسة الحكومة أن عدد الفلسطينيين يبلغ في لبنان 174 ألفاً و422 لاجئاً، مع انتهاء السنة، وكذلك مفاعيل إعلان مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان انخفاض عدد النازحين السوريين الى 997.905 أشخاص. ولأن الأرقام حساسة ودقيقة، سواء كانت متعلقة بإحصاءات لبنانية بحت أو بكل من هو غير لبناني، يمكن فهم خلفيات التساؤلات عن مغزى الإعلان في غضون أيام قليلة عن خفض عدد الفلسطينيين والسوريين النازحين في لبنان وتوقيته، بعدما كشفت الأجهزة الأمنية الرسمية اللبنانية أن نصف سكان لبنان الحاليين غير لبنانيين.
وبدا أن الحملة الإعلامية التي رافقت الإعلانين، ولا سيما عبر الصحافة الغربية، للتسويق لفكرة أن الفلسطينيين باتوا أقل بكثير من العدد المعلن رسمياً، لبنانياً وأممياً، (أي من خلال الرقم الذي كانت تعتمده المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين التابعة لوزارة الداخلية وإحصاءات وكالة أونروا)، حملة مدروسة بأهداف لا تزال مبهمة.
ففي مواكبة هذين الإعلانين، طرحت جملة تساؤلات، بعضها يتعلق بالإطارين السياسي والشكلي.
سياسياً، جرت العادة أن تتعامل الجهات الأمنية والسياسية الرسمية مع الأعداد التي تعطيها الجهات الدولية عن موضوعي النازحين السوريين وقبلهم اللاجئين الفلسطينيين، بحذر شديد ومن دون الاعتراف بها رسمياً. وقد لفت غياب أي ردة فعل سياسية، وخصوصاً من جانب وزراء معنيين في الحكومة تجاه الكلام عن خفض عدد السوريين في لبنان، في حين أن لبنان يقدم رسمياً الى المؤتمرات الدولية أعداداً مغايرة تماماً.

أسئلة عن التوقيت وحقيقة الأرقام وما إذا كانت جزءاً من تسوية للقضية الفلسطينية



في الملف الفلسطيني، كان التوطين العنوان الرئيسي الذي ترك لسنوات طويلة مخاوف حقيقية من تحوله إلى أمر واقع، وخصوصاً حين انفجرت قضية مخيم القريعة عام 1994 بكامل فصوله السياسية، ودور الرئيس الراحل رفيق الحريري فيه. كانت النزعة حينها الى الإعلان دولياً عن رقم منخفض للاجئين الفلسطينيين، مع كل تحريك للمفاوضات العربية ــــ الإسرائيلية، بما يقلل من مخاطر تحويل إقامة هؤلاء الى دائمة في لبنان كأمر واقع من دون ردود فعل رافضة. الأمر نفسه تكرر مع النازحين السوريين، إذ إن الأعداد التي كانت تتحدث عنها المنظمات الدولية التي تعنى بهم، كانت دائماً أقل بكثير من تلك التي تعتمدها الجهات الرسمية اللبنانية، الأمنية والسياسية، ولا سيما تلك التي كانت منذ البدء رافضة لإقامتهم في لبنان وتدعو الى إعادتهم الى بلادهم.
لكن المفاجأة اليوم أتت من الجهات الرسمية اللبنانية وليس من الجهات الدولية، بعدما أعلن رئيس الحكومة سعد الحريري عن هذا العدد بانتهاء أعمال التعداد الذي أجرته لجنة الحوار اللبناني ــــ الفلسطيني التابعة لمجلس الوزراء بالتعاون مع مديرية الإحصاء المركزي، الأمر الذي طرح أسئلة عن التوقيت وعن حقيقة هذه الأرقام وحقيقة المسح وأي تجمعات شمَل، والهدف السياسي منها، وعما إذا كانت جزءاً من تسوية سياسية محلية وإقليمية ودولية تتعلق بالقضية الفلسطينية ومستقبلها، ودور لبنان في هذه التسوية. والمفاجأة الثانية هي أن حجم الاعتراض على هذه الأعداد لم يكن قوياً كما كان متوقعاً، وخصوصاً من جانب الكتل المسيحية التي عادة ما تقف في طليعة المعترضين في موضوعي تعداد الفلسطينيين والسوريين، وقد يكون أحد أسبابها التهدئة السياسية والتسوية الثانية بعد الأزمة الحكومية.
رغم ذلك، ظلت دوائر سياسية وأمنية مشغولة بهذا الملف، وطرحت جملة أسئلة؛ منها: يفترض أن تكون المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين، بعدما ضمت مديرية شؤون اللاجئين التي أنشئت عام 1959 هي الجهة الرسمية المخولة رعاية هذا الملف، ولا سيما أن من مهماتها التنسيق مع وكالة «أونروا» في كل ما يتعلق باللاجئين، والنظر في أحوالهم الشخصية وإعطاء الرخص للزواج، وتحديداً «النظر في طلبات تصحيح الأخطاء الإحصائية الواردة في البيانات والبطاقات».
أما لجنة الحوار اللبناني ــــ الفلسطيني التي تولت المسح مع دائرة الإحصاء المركزي فهي هيئة وزارية استشارية مهمتها، بحسب قرار إنشائها عام 2005، تنحصر «في معالجة المسائل الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية داخل المخيمات وللفلسطينيين في لبنان بالتعاون مع الأونروا ووضع آلية إنهاء الوجود المسلح خارج المخيمات». لكن المفارقة أن إعلان المسح الذي جرى في أول شباط عام 2017، تم بموافقة جميع القوى السياسية وحضورها، وممثلين عن مختلف الوزارات المعنية السياسية والأمنية، من دون أن يعترض أي من الأفرقاء السياسيين على هذا الإحصاء الذي كان يفترض أن ينتهي خلال خمسة عشر شهراً، لكنه أنجز في عشرة أشهر!
ثانياً، إن وكالة «أونروا» لا تزال تعطي رقماً مغايراً لذلك الذي أعطته لجنة الحوار أي 449957 لاجئاً فلسطينياً، في حين نسبت لجنة الحوار في تقديمها لمشروع التعداد وأهدافه التفاوت بين الأرقام، الى أن «الرقم الإجمالي للاجئين المسجلين لدى مديرية الشؤون السياسية حتى نهاية عام 2015 بلغ 592711 لاجئاً، أي بفارق كبير عن الأونروا بلغ 142754 لاجئاً». والمفارقة أيضاً أن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني الذي تشارك مع لجنة الحوار في تنظيم هذا التعداد، كان قد اعتمد رقم 493.134 كعدد للفلسطينيين المسجلين في لبنان حتى نهاية عام 2015.
اللافت أيضاً أن النروج التي سبق أن وقعت اتفاقاً مع لبنان لدعم مشروع التعداد، هي نفسها التي ترعى مشاريع منظمة «FAFO» النروجية التي تعمل في إحصاء ومسح أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وسبق أن قدرت عام 2005 عدد الفلسطينيين في لبنان بـ 200 ألف مقيم في لبنان، مخالفة بذلك الأرقام التي أوردتها هي نفسها عن السلطات اللبنانية لعام 2001 بتقدير عدد الفلسطينيين حينها بـ 400 ألف فلسطيني، مقابل تحديد «أونروا» عددهم بـ 383 ألفاً، يقيم منهم 214 ألفاً داخل المخيمات.
هذه الأرقام المخفضة كانت دائماً تثير الاستغراب، وخصوصاً أن أي جهة رسمية لبنانية لم تجرِ إحصاءً دقيقاً للفلسطينيين، ولا سيما في البقع الجغرافية التي يعيشون فيها خارج التجمعات التقليدية والتاريخية لهم، في حين أن هذه المنظمات ــــ كالنروجية مثلاً ــــ تعطي إحصاءات مخفوضة مستندة الى تقديراتها وتقديرات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع التعداد الرسمي الذي نشر أخيراً، علماً بأن أجهزة رسمية كانت تتحدث حتى وقت قريب عن عوامل عدة ساهمت في هجرة فلسطينيين من لبنان متحدثة عن أرقام المقيمين في لبنان، غير المسجلين رسمياً في قيود السلطات اللبنانية و«أونروا»، لكنها حصرت العدد بما لا يقل عن 300 ألف فلسطيني.
جهات أمنية رسمية أبدت خشيتها من سلبيات عدة نتجت من التعداد المذكور الذي شكل «صدمة»، وخصوصاً أن الأجهزة الأمنية على اختلافها تملك إحصاءات ومعلومات عن الوجود الفلسطيني، كذلك عن الوجود السوري، بما يخالف الإحصاءات المنشورة أممياً. وستكون الأرقام المعلنة محل متابعة أمنية مكثفة، نظراً الى ما يترتب عليها من مضاعفات. أما أولى الخلاصات العامة فهي «تأثيرات التعداد الأخير على موضوع عمل اللاجئ الفلسطيني والدعوات الى تغيير قوانين العمل التي تمنع جملة أعمال على الفلسطينيين وتسهيل انخراطهم في سوق العمل والمجتمع اللبناني باعتبارهم صاروا أقل من الأعداد السابقة ولا يشكلون خطراً عمالياً واجتماعياً. ثانياً، التقرير يحتاج الى دراسة أمنية متطورة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية حول التغيير الديموغرافي في مخيمات البداوي وبرج البراجنة وشاتيلا». أما النقطة الأبرز، فهي أن المقارنة بين عدد اللاجئين الذين كانوا (عام 1948) 117 ألفاً، أصبحوا اليوم 170 ألفاً فقط، ما يجعل من السهل عدم التمسك بحق العودة، ويعطي الدول المانحة حجة إضافية لتقليل التقديمات لهم، والضغط على الحكومة لتقديم المساعدات الاجتماعية بدلاً منها لهم».