عاشت إيران، خلال الأيام القليلة الماضية، موجة اضطرابات هي الأعنف، منذ الاحتجاجات التي شهدتها البلاد عام 2009 عقب إعادة انتخاب الرئيس (السابق) محمود أحمدي نجاد. الموجة الجديدة التي بدا، أمس، أنها دخلت مرحلة خفوت بعد بلوغها ذروتها ليل الاثنين - الثلاثاء، أثارت تكهنات متباينة بشأن خلفياتها ومآلاتها المحتملة.وعلى الرغم من استئناس الكثير من التحليلات بتشبيه الاحتجاجات الراهنة، لناحية أهميتها وإمكانية احتوائها، بتظاهرات «الحركة الخضراء»، بل واعتبارها متقدمة على الأخيرة، إلا أن المؤشرات الميدانية والسياسية تفيد، إلى الآن، بأن الخطر الماثل اليوم أمام «الجمهورية الإسلامية» قابل للتحجيم بأسرع مما يدور الحديث عنه، خصوصاً أن السلطات تجهد في تفادي أي استفزاز أو تصعيد يمكن أن يؤدي إلى انفلات الأوضاع.

مبررات ذلك التقدير تتركز في ثلاث نقاط: أُولاها أن التظاهرات التي انطلقت الخميس من مدينة مشهد، والتي أدت إلى مقتل 22 شخصاً، لا تتكئ على حامل سياسي واضح المعالم، مثلما كان الحال عام 2009 عندما قادت شخصيات سياسية معارِضة المحتجين على منح نجاد ولاية ثانية. افتقار يرى فيه البعض عامل إقلاق للسلطات؛ لكونه يصعّب عليها مهمة «ضعضعة الحراك» إن كانت تفكّر في اللجوء إليها، لكنه في حقيقته يسبغ طابعاً فوضوياً على التحركات الراهنة، ويجعلها سهلة الاختراق من قبل «أعداء إيران»، الذي يستخدمون «أدوات مختلفة منها المال والسلاح والسياسة وأجهزة المخابرات، لإثارة مشاكل للجمهورية الإسلامية» على حد تعبير المرشد الأعلى علي خامنئي.

ارتفاع معدل البطالة خلال العام المالي الحالي إلى 12.4%

وها هنا تكمن النقطة الثانية، إذ سرعان ما انجرت الاحتجاجات التي شملت مدناً عدة من بينها العاصمة طهران، إلى شعارات مناوئة لـ«النظام الإسلامي» وسياساته الخارجية، بل ومنطوية على حنين إلى «زمن الشاه»، من قبيل: «رضا شاه طيب الله ثراك»، «الموت لروحاني والموت للديكتاتور»، «انسحبوا من سوريا وفكروا بنا»، و«لا للبنان ولا لغزة... نعم لإيران». والأخطر أن تلك الشعارات استحالت اعتداءات في غير منطقة على مراكز الشرطة والبنوك والمساجد، وترافقت مع اعتداءات من قبل «عناصر مجهولين» على المحتجين ورجال الشرطة، مثلما حدث في مدينة دورود، حيث أطلق مسلحون كانوا يستقلون دراجة نارية الرصاص على تجمع للمتظاهرين، ما أدى إلى مصرع اثنين منهم.
هذه التطورات، مترافقة مع تصريحات خارجية تحرّض الإيرانيين على الخروج ضد النظام كما في تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أدّت إلى تولد نوع من الإجماع على رفض تحويل «المطالب المعيشية» إلى لافتات عداء لـ«النظام الإسلامي»، وأعلت صوت التحذير من الاستثمار الأجنبي في الاحتجاجات على الأصوات الداعية إلى المعالجات الاقتصادية (حتى الرئيس حسن روحاني الذي حاول، في كلمته الأحد، امتصاص غضب المحتجين، توعّد الاثنين بـ«الرد على إثارة الاضطرابات ومخالفة القانون»). تحوّلٌ يرسم لتحركات اليوم، وتلك هي النقطة الثالثة، مصيراً مشابهاً لما آلت إليه «الحركة الخضراء»، وينزع عنها «مشروعية» كان يمكن أن تعتاش عليها لأشهر، ولا سيما أن السلطات تسعى في حرمان المحتجين و«الجهات الأجنبية» المسانِدة - إعلامياً - لتحركاتهم أي ذريعة يمكن أن تُتّخذ مبرراً للتصعيد، من مثل «القمع العنيف» و«الاستخدام المفرط للقوة»، أو من أي واقعة رمزية قد تستحيل، بفضل الإعلام الغربي، «أيقونة» مُحرِّضة على المضي في الاحتجاج، كما حدث عام 2009 عندما أدى انتشار مشهد احتضار لإحدى المتظاهرات إلى إحالة الأخيرة رمزاً لـ«الحركة الخضراء».
في خلاصة تلك المعطيات، يمكن القول إن الأطراف الخارجية، وفي مقدمها الولايات المتحدة والسعودية، التي حاولت الاستثمار إعلامياً - وربما مخابراتياً - في مطالب شرائح شعبية إيرانية، قد أحرقت أدواتها بسرعة فائقة، واستعجلت تحقيق نتائج بصورة حرمت المتظاهرين فرصة استقطاب التأييد الشعبي، وحوّلتهم خلال أقل مما بين ليلة وضحاها إلى مجموعة من «مثيري الشغب» المطلوب وضع حد لهم من التيارات جميعها، بما فيها «التيار المعتدل» الذي يمسك اليوم بزمام السلطة. ولعلّ ذلك هو ما أراد روحاني الإلماح إليه في قوله، يوم الاثنين، «إن المسؤولين والشعب الإيراني سيردون على من قال إنه سينقل المشاكل إلى داخل إيران»، وما صرّح به أيضاً أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، في اعتباره أن «الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وراء أعمال الشغب التي تشهدها إيران»، وتهديده بأن «السعوديين سيتلقون رداً غير متوقع من إيران، وهم يعلمون كيف يمكن أن يكون خطيراً».
بيد أن الحديث عن «بصمات خارجية» في الاحتجاجات الراهنة لا يلغي حقيقة أن للأخيرة جذوراً في الأوضاع الاقتصادية التي لم يؤدّ الاتفاق النووي، خلافاً لما كان مأمولاً، إلى إنعاشها على نحو سريع. على الرغم من انخفاض معدل التضخم إلى أقل من 10% للمرة الأولى منذ نحو ربع قرن، وارتفاع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 12.5%، إلا أن الأرقام تفيد كذلك بارتفاع معدل البطالة خلال العام المالي الحالي إلى 12.4%، بزيادة تبلغ 1.4% عما كان عليه في العام السابق، بحسب ما أعلن المركز الإحصائي الإيراني، في وقت تُسجِّل فيه الأسعار ارتفاعاً ملحوظاً، ويُلوِّح فيه الرئيس الأميركي بإعادة فرض العقوبات على إيران. واقعٌ لا ينكره المسؤولون الإيرانيون على اختلاف تياراتهم، مُجمِعين على ضرورة معالجة أسبابه والالتفات إلى «صوت الشعب» بشأنه، وهو ما يضع سلطات الرئيس، الذي لم تمرّ سنة على إعادة انتخابه لولاية ثانية في التصويت الرئاسي الذي شهدته البلاد في آذار/ مارس 2017، أمام تحدّي إيجاد حلول عملية وسريعة لـ«تسوية مشكلات المواطنين» كما قال روحاني نفسه في كلمته.
لم ينكر روحاني وجود معضلات في سوق العمل والموازنات الحكومية والمؤسسات المالية، إلا أنه تحاشى الإلقاء بثقلها على حكومته وحدها، داعياً إلى التعاون بين البرلمان والحكومة، مشدداً على ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية؛ لكون «المسألة باتت اليوم تمسّ النظام والثورة والمصالح الوطنية والأمن القومي واستقرار إيران والمنطقة». دعوة ليس عسيراً الجزم في أنها ستلقى آذاناً صاغية، على الرغم من أن للتيار المحافظ مصلحة راهناً في التقليل من أهمية ما أنجزه روحاني خلال سنوات حكمه. إلا أنه، وبالنظر إلى ما يمتلكه نظام «الجمهورية الإسلامية» من أدوات ضبط داخلية، تتصدرها كلمة تقال عندما «يحين الأوان» على حد تعبير المرشد الأعلى، يمكن الافتراض أن إيران ستتجاوز القطوع الحالي، مثلما تجاوزت ما سبقه «بسهولة» وفق وصف روحاني. لكن يبقى السؤال: كيف ستتمكن «الجمهورية الإسلامية» من «حل المشاكل (الاقتصادية) برفقة الشعب»، من دون السماح للذين «يقفون قلباً وقالباً ضد الأمة الإيرانية» - بحسب تعبير روحاني - بالنفاذ إلى تلك الساحة بالغة الحساسية؟