بين ليلةٍ وضحاها، أصبحت عهد التميمي أيقونة. والأيقونة هي عندما تُحوّل صورة أو مجموعة دلالات إنساناً إلى مفهوم، فلا يعود يمثّل نفسه بل يصبح وسيطاً لمعنىً يتجاوز إنسانيته ومحدوديتها الأيقونة هي تكثيفٌ للمعنى. إن وقوف عهد أمام الجندي الإسرائيلي، وصراخها في وجهه، ثم صفعه، أشياء تمثل تعريفاً مشهدياً للمقاومة. حين تكون صغيراً هزيل البنية وأعزل مقابل جندي بضعف حجمك، يرتدي كامل بزته ويحمل سلاحه، من دون أن تعبأ بإمكانية قتلك في تلك اللحظة، فأنت تشكل لحظة أيقونية، إذا نجحت الكاميرا في تجميدها تستطيع أن تحفظها كمرجعية لتعريف المقاومة في ما بعد. هي لحظة تشبه صوراً أيقونية حفظها العالم تاريخياً مثل صورة الفتاة التي تحمل وردة مقابل جنود أميركيين في احتجاجات ضد الحرب على فييتام، أو مثل صورة الرجل الذي يقف بمفرده أمام مجموعة من الدبابات في ساحة تيانانمن الصينية.

«جيشٌ مخصيّ»

في مقالٍ نشرته مجلة "ذي نايشن" الأميركية، ورد أن "الرأي العام والساسة في إسرائيل استخدموا كلمات مخصي وعاجز، لوصف ما شعروا به حين نظروا إلى الجندي بالخوذة والدرع والسلاح، في مقابل طفلة ترتدي قميصاً زهرياً وسترة زرقاء تشتم الجندي وتصفعه". استطاعت عهد أن تهزّ صورة الجيش الإسرائيلي. وصف "المخصي" في هذا المجال، هو للدلالة على تكسير صورة هذا الجيش، بما تحويه من ذكورة وقوة وهيمنة، كما أن "الخصي" في التحليل النفسي هو دليل على إدراك الإنسان ضعفه ومحدودية قوته، وأن مصيره في نهاية المطاف، الزوال.
تلاحق عهد الجندي وتصفعه، كأنها تصفع كل ما يمثل. لعلّ الجندي عندما نظر إلى وجه عهد، رأى فيه شبح "ليليت"، بطلة الأسطورة التلمودية التي تشكل إحدى أشهر قصص الميثولوجيا اليهودية. ليليت، المرأة الأولى التي خُلقت من تراب مثل آدم تماماً، قبل أن تتمرّد عليه وتترك الجنّة، فيخلق الله، من ضلع آدم هذه المرة، حواء، المرأة التابعة. تلك المرأة الأسطورية أصبحت رمزاً للشرّ والظلام لأنها تمردت فقط. في هذا السياق، يأتي تعليقا مسؤولين إسرائيليين، لتعزيز شيطنة عهد. يتوعد وزير دفاع الدولة التي تقول إنها تملك الجيش الأكثر تقدماً في العالم، أن عهد وأهلها "سينالون ما يستحقون"، أما وزير التربية فيدعو إلى حبس عهد "مدى الحياة". لم يكن "جرم" عهد كبيراً، لكنه كان كافياً ليجلب العار لصورة الجيش الإسرائيلي أمام نفسه، ممثلاً بالجندي المصفوع، الأمر الذي استدعى كل هذا العقاب.

كأن الإعلام الغربي يقول:
إذا كان لا بد من مقاومة فلتكن بالقبضة العارية


أيقونة لمن؟

قد تكون صورة الشهيد محمد الدرة آخر صورة فلسطينية ذات رمزية عالمية عالقة في أذهاننا. هناك صور ومشاهد كثيرة تلتها، من حرق عائلة الدوابشة، واستشهاد الأطفال على شاطئ غزة عام 2014، وأخيراً الطفل فوزي الجندي معصوب العينين ومحاطاً بمجموعة من الجنود الإسرائيليين. لكنّ أياً من هذه الصور لم تصل إلى المكانة التي وصلت إليها صورة عهد.
انتشرت صور الفتاة في الصحف العالمية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. شاهدنا رسومات عدة لها، من بينها ما جعلها تركب حصاناً مع عنوانٍ مرافق يصفها بكونها «صلاح الدين» معاصراً.
في دراسات الإعلام، يلعب مفهوم "النظرة" (the gaze) بالمعنى اللاكاني دوراً أساسياً. في نظريته في التحليل النفسي، يضع لاكان "النظرة" كنتيجة لمرحلة المرآة، وهي حين يصبح الطفل واعياً لكونه مرئياً، بعد أن يشاهد نفسه للمرة الأولى في المرآة. عند هذه اللحظة، تخسر "الذات" درجة من استقلالها إثر إدراكها أنها موضوع مرئي، أي أن هناك رائياً، وبالتالي تصبح الذات قابلة للتشييء، مثلها مثل الطاولة أو الكرسي، تخسر فكرتها عن نفسها أنها ذات بالمطلق. بالنسبة إلى لاكان، عند لقاء "النظرة" بالوجه فقط نصبح موجودين بالنسبة إلى الآخر.
هذا المفهوم، يجعلنا نسأل أسئلة عدة في قضية عهد. عهد أيقونة لمن؟ "لنا" أم "للآخر"؟ لفلسطين أم لنظرة الغرب إلى فلسطين؟ أي لولا المعايير الغربية التي لا تعترف بالمقاومة المسلحة، هل كانت لتحتل عهد الجزء الذي احتلّته في الأسبوع الماضي؟ وهل الاحتفاء الفلسطيني والعربي بها كرمز، هو احتفاء قائم بذاته أو مرتبط عضوياً بمخاطبة الغرب؟
الإعلام الغربي انقسم قسمين: قسم متبَنٍ للرواية الصهيونية عن عهد، مشككاً في نياتها ونيات عائلتها (مثل صحيفة "واشنطن بوست")، وقسم آخر يسبغ المديح على الطفلة وعلى مقاومتها، وهذا القسم نفسه هو من اعتبر عهد "أيقونة" و"رمزاً" للمقاومة الفلسطينية (مثل "نيوزويك" وغيرها). في الحالة الثانية، جرى التركيز كثيراً على فكرة المقاومة اللاعنفية، فكان لا يمر مديح لعهد إلا مع ذكر أن جميع أفعالها كانت "سلمية"، حتى جدعون ليفي أسبغ المديح على عهد في مقالٍ طويل في "هآرتس" العبرية، جعل من الفتاة "بطلةً فلسطينية لم تحمل مقصّاً حتى"، مشيراً فيه إلى أن ما سماه "انتفاضة الصفعات" قد تنجح حيث فشلت أشكال أخرى من المقاومة، سلمية أو لا سلمية".
هذا النوع من التغطية يضع الهدف منها موضع تساؤل، فهل هو مجرد تضامن مع طفلة فلسطينية، أم هو ترويج لمقاومة سلمية، وبالتالي إقصاء الأشكال الأخرى من المقاومة. وكأن هذه التغطية تريد أن تقول لنا: "إذا كان لا بدّ من مقاومة، فلتكن بالقبضة العارية، فهذا هو نموذجنا المفضل، احذوا حذوه". وكأنها تريد بهذا الشكل أن تتطهّر من الآثام اللاحقة بالإعلام لتواطؤه في معظم الأحيان مع الجانب الإسرائيلي، فتظهر داعمةً لنموذج معيّن للمقاومة، تبقى آثاره، على أهميتها، رمزية أكثر منها عملانية كما هي حال المقاومة المسلحة. هذا يشبه البورجوازي الذي يقدّم صدقةً للفقير، فيحرر ضميره من الشعور بالذنب، من دون أن يكون قد قدّم للفقير ما يجعله يشكل خطراً حقيقياً عليه.
مع العلم بأن عهد قالت في أكثر من مقابلة إنها مع المقاومة المسلحة ومع كل أشكال المقاومة ضد الاحتلال.
حتى وإن كانت الحماسة العربية لقضية عهد أكثر من معتقلين آخرين، سببها مخاطبة الغرب، أو التعامل مع الذات بمرآة الغرب، هل يمكننا أن ننكر حاجتنا إلى مخاطبة العالم، ولا سيما الآن، في زمن إعلان القدس من واشنطن، عاصمة إسرائيل؟ في زمن النهايات، أما من حاجة الى تذكير ببديهيات باتت تبدو بعيدة في ظل الجنون الأميركي، مثل أن هناك محتلاً واحتلالاً؟ مثل أن هناك بيتاً وقرية وأهلاً فلسطينيين، مقابل جندي صهيوني معتدٍ؟
القول بأن فلسطين ليست بحاجة إلى عهد، إلى صورة قبضتها الهزيلة في وجه الجندي المرتبك، هو عنادٌ طفولي، ومزايدة شعبوية تغذّيها مواقع التواصل الاجتماعي التي وصفها قبل سنتين الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو بأنها منصة لـ«اجتياح الأغبياء». هذا من دون التطرّق إلى الحديث المثار منذ اعتقال عهد والمرتبط بـ"ملامحها الأوروبية" وبدور ذلك في التضامن معها أو في رفض هذا التضامن، مع كل ما ينطوي عليه هذا الحديث من تمييز جنسي وميزوجينية مستترين!
عهد طفلة فلسطينية، تواجه مع عائلتها وقريتها اعتداءات الجنود الإسرائيليين منذ زمن. هؤلاء قتلوا خالها وعمتها، اعتقلوا أمها وأخاها أكثر من مرة، فيما يصارع ابن عمها الموت بعدما استقرت رصاصة إسرائيلية في جمجمته قبل أيام. التضامن الغربي الذي يهدف بعض منه إلى حصر المقاومة بشكلٍ معيّن، لا يعني التبخيس بما قامت به عهد. عهد بطلة، لأن الإسرائيليين لا يريدون لأطفالنا أن يعيشوا طفولتهم، فلا يتركون خياراً أمامهم سوى البطولة بكل أشكالها.