القوات اللبنانية مسكونة بضيق عميق اسمه حزب الله. مشكلتها معه تبدأ من أيديولوجيا يتمسك بها المنضوون إليه وتعكس حالة الرفض للوجود الإسرائيلي كياناً ومشروعاً وصيغة، مروراً بفائض قوته العسكرية وتأثيرها على قرار الدولة واحتكارها للسلاح، ولا تنتهي بأدواره الإقليمية حيث يُشكّل لبنان بحسب رئيسها سمير جعجع: «مجرد محافظة صغيرة في أمة هذا الحزب الذي يؤمن بالخلافة على طريقته».
اختارت «القوات» في مواجهتها حزب الله تصوير تاريخه وحاضره تصويراً (فوق وطني)، وذلك حين تُظهره مرتبطاً بدولة دينية (إيران)، منذ لحظة التّماس التاريخي بانتصار الثورة الإسلامية عام 1979 والتي شكّلت منبع قيمه الثقافية وتوجهاته السياسية والعسكرية. وهذا ما رسّخ، بحسب القواتيين، النزعة المعارضة والمناهضة له في مواقف وضمائر اللبنانيين. فعندما يتبع حزب الله للولي الفقيه لا يعود الخلاف له علاقة بالتنافس المحلي بين الأحزاب أو بالمواقف والسياسات والتقديرات حول قضايا داخلية، بل في تجاوز حزب الله لتقاليد وشروط ومتطلبات السيادة اللبنانية! فالقواتيون يرون أنّ حزب الله هو امتداد للصيغة الثورية الإيرانية بكل ما تعنيه من ملامح وصفات، وأنّ تجربته واقعة تحت تأثير المركز وجاذبيته، ما يحمل كمّاً من السلبيات والمخاطر على مصالح لبنان وعلاقاته العربية والدولية، فضلاً عن الفجوة النفسية والسياسية التي خلقتها هذه التجربة بين القوى اللبنانية وأدّت إلى اتساع عوامل التنافر والعداء!
القواتيون يرون في حزب الله «غير» لهم ثقافياً وسياسياً، وهذه «الغيرية» تجعل الرؤية حول الهوية والمصالح الوطنية متصادمة على نحو مستدام. ثم إنّ انعدام التوازن في القوة يعتبر حائلاً من الوصول إلى شراكة وطنية متساوية ما قد يوثر على الأحزاب الصغيرة وقسم كبير من النخب وممثلي الرأي العام، فتنشأ بينهم وبينه علاقة تبعية تصبح مع الوقت كاملة يخضع فيها الضعيف لهيمنة واستئثار وتسلط القوي!
بطبيعة الحال في مواجهة أوضاع غير نظامية وغير اعتيادية لبنانياً وإقليمياً نمت مجموعة من الظواهر التي لا يمكن تلمّس واختبار معقوليتها إلا من خلال وضعها في سياقاتها التاريخية وفهم الدوافع الكامنة وراء نهضوها والبحث في مشروعيتها وصلاحيتها الزمنية والوطنية والأخلاقية. لكن مشكلة القواتيين، أنّ اعتراضاتهم على هذه الظواهر ومنها ظاهرة حزب الله وتوجهاته، تنمّ عن وعي ساذج ومجتزأ للتطورات والأحداث التي تعرّض لها لبنان ومرت بها المنطقة. يتحاشىون الخوض في الأسباب التي تشكّل فيها حزب الله وسيرورة حضوره التاريخي، ولا يجدون أنفسهم مضطرين للبحث في الإطار الأكثر شمولية من أجل فهم حركة الاستعمار في المنطقة ووجود «إسرائيل» ومشروع أميركا لترتيب المنطقة بما يحفظ لها سيطرة مطلقة على المصالح والسياسات والانفعالات داخلها. ويتغاضون، في الوقت الذي يدّعون غلواً فظيعاً حول مفهوم الدولة، الدخول في أي نقاش حول ما كانوا عليه، وكيف كانوا يفكرون وما زالوا، وماذا كانوا يفعلون وما زالوا لتسويق وهمهم المتضخم. لا يشعرون أنهم انتهكوا المحرمات وكانوا أسياد التخريب لفترة طويلة وكانوا دمية في يد متلاعبين كثر، وأنّ نزعة التبعية عندهم باتت أقرب إلى العادة المرضية!

«القوات» في اعتراضاتها
على حزب الله
تعتمد على الدوام
مقياساً خاطئاً

هناك كمٌّ هائل من الوقائع التي تُظهر فيها «القوات» تحيّزها للمشغّلين عرباً وغربيين وصهاينة، وبكونها أداة طيّعة لأسيادها دون حساب للنتائج الكارثية التي ترتبت على لبنان. «القوات» أرادت دائماً اغتنام الفرص عند نقطة التلاقي بين المصالح الهائلة لأميركا وإسرائيل والسعودية في لبنان، والكوارث العظمى التي تحل باللبنانيين. نظرية استغلال الأزمات والمآسي كانت حاضرة بقوة في أدبيات القوات منذ الحرب الأهلية ومخاطر الوجود الفلسطيني ثم السوري، إلى تصوير المسيحيين بحالة جلجليّة دائمة، ومعاناتهم المستمرة بفعل لعنة المحيط الإسلامي ومحاولات الطوائف الأخرى التغلّب عليهم ديمغرافياً وتغيير الموازين والمعادلات السياسية (الطائف نموذجاً)، إلى لحظة اغتيال الرئيس الحريري وخروج القوات السورية، إلى المحكمة الدولية والعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 ، مروراً بأزمات «الربيع العربي» ولا سيما الحرب في سورية وانعكاسها على مجمل الأوضاع في لبنان، وصولاً إلى أزمة الإقالة السعودية للرئيس سعد الحريري، والتي سعت القوات للاستفادة إلى أقصى حد من نتائجها لتحجز مقعداً لها في المعادلات الداخلية ولتظهر في مظهر التابع الأمين، المتماهي مع القوى الخارجية وأنساقها السياسية والثقافية.
على هذا الأساس لم تكن القوات تعتبر «إسرائيل» عدواً للبنان بل كانت دائماً تسير مع إجراءات عملية تحوّل النظام العربي من الصراع إلى التسوية، وتواكب الجهود الدولية لتهيئة الظروف والبيئة الإقليمية لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي. أما المقاومة فلم تكن عندها مشروعاً بديهياً بتاتاً، لم تكن حتى سؤالاً يتيح إجابات متعددة ونتائج مختلفة لحماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، بل على العكس كانت تبحث عن نقطة ارتكاز لها مع العدو والمزايا التي يمكن أن تحصل عليها عندما تتم صياغة المنطقة جغرافياً وسياسياً في إطار فكرة الشرق الأوسط الجديد وانتهاء الصراع بتسوية شاملة مع الأنظمة العربية!
ومع اندلاع الحرب في سورية ظهر جلياً التواطؤ المخزي مع الجماعات الإرهابية التكفيرية التي كانت تسميها «معارضة سورية» وما قامت به من مذابح مرعبة. كانت الحرب في سورية أعراض شيء أعمق بكثير من عملية ثأر من النظام السوري أو رغبة استبدال نظام بنظام آخر. كانت الظروف مثالية واستثنائية لتحويل سورية إلى منطقة نفوذ أميركي إسرائيلي، ورأس جسر لتطويق وضرب إيران والمقاومة في لبنان. ولا شك أنّ «القوات» بمواقفها إلى جانب هذه الجماعات وتماهيها مع التحالفات التي نشأت لضرب سورية كانت تنتظر عوائد مشروع يحقق لها أقصى درجة من المكاسب ولو اقتضى ذلك تقسيم المنطقة إلى كتل عرقية ومذهبية وجماعات متصارعة. ولا حاجة للقوات هنا للحديث عن السيادة اللبنانية، فالشعارات الطنانة والكلمات الكبيرة كانت كفيلة بخلق مناخ من المفاهيم والتصورات تحدد طبيعة المرحلة القادمة وتموضعها داخلها!
بهذا الفهم، قلل القواتيون من أهمية وجود الجماعات المسلحة في سورية، والخلفية الفكرية التكفيرية التي تحملها ومخاطرها حتى على وجود المسيحيين في لبنان والمنطقة، وركزوا بدلاً من ذلك على تجاوز حزب الله لسيادة الدولة وذهابه منفرداً إلى سورية. ورغم أنّ الأزمة في سورية من أخطر الأزمات التي يجب أن تُبحث وتُناقش بعمق ومسؤولية، وتتطلب اعتماد أفكار وإجراءات وسياسات لمواجهة تداعياتها على اللبنانيين لأنّ النتائج التي ستترتب من الخطورة إلى درجة تطال مصير كل اللبنانيين بدولتهم وسيادتهم وأمنهم، ولكن ما مارسه القواتيون يتجلى في تكريس ما تريده إسرائيل تحديداً، وهي بحسب الفرض الوطني اللبناني، عدو. بل كانوا على أتم الاستعداد لتقبل مجابهة سياسية وربما عسكرية جريئة ضد حزب الله من أجل تغيير الواقع اللبناني الذي تميل فيه موازين القوة لصالح حزب الله على اعتبار أنّ مخاض شرق أوسط جديد يحتاج إلى أحزاب وقوى داخل دول المنطقة العربية لديها الشجاعة لشل فاعلية تيارات المقاومة وإرباكها والتشويش على خياراتها. هذه الاندفاعة القواتية في الأزمة السورية مرّت حتماً في فكر القيادات المسؤولة بالحزب بنظرية الصدمة وإمكانية تحقيق الإصابات بمرمى الأعداء دفعة واحدة وبدون تأخر! ولكن حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر، أو كما يقول المثل الياباني: «من الغباء أن تتعامل مع غبي»!
وبشأن ارتباط حزب الله فكرياً بنظرية ولاية الفقيه فلا تملك «القوات» عن هذا الارتباط إلا تفسيراً ضيقاً مدقعاً، ولكنها تستخدمه في سياق حرب الشعارات لعزله لبنانياً، وتجريده من القوة المعنوية التي يبديها في مواجهة المعتدين على سيادة الوطن، وإبعاد اللبنانيين عن الدرس التاريخي الذي يُكتب بدماء مقاوميه وتضحياتهم التي تكسبه مصداقية وشعبية واسعة حتى داخل البيئة المسيحية التي باتت أكثر وعياً بالأحزاب التي تتخذ مواقف انتهازية استناداً إلى الفائدة والمصالح الشخصية، وتلك التي تتحمل التبعات الجسام لقاء حماية الوطن من الأخطار حتى لو لم تلقَ تعويضاً وتقديراً معنوياً كافياً لقاء جهودها وتضحياتها.
وبينما ترفع «القوات» شعارات سياديّة متشددة جداً تمارس تبعيّة مكشوفة، وتجاهر بتماهيها مع مشروعات قوى القهر والهيمنة من أميركا مروراً بـ«إسرائيل» والسعودية. تعمل مع هؤلاء على إحداث تغيير في طريقة تصور اللبنانيين لأوضاع المنطقة في المستقبل، وفي تطلعهم لقيام الدولة اللبنانية حيث يقف حزب الله «حجر عثرة» في دربها، وفي تأمين مستلزمات عالم ما بعد «الصراع العربي الإسرائيلي»! لذلك كان المطلوب أن تخلق «القوات» رأياً عاماً داخلياً بعدم الرضا الاجتماعي على سياسات حزب الله، وبما يشكله من عبء وطني، بعيداً عن سردية حزب الله التي تقول إنّ المقاومة جزء لا يتجزأ من المصالح العميقة للدولة اللبنانية، وأنّه لا يمكن الفصل بين تاريخ المنطقة وهوياتها وبين سلام لبنان وعافية مكوناته، وأنّ المقاومة مدخل ضروري لاستقرار لبنان وقوته وسيادته، وأنّ توظيف هذا العامل الاستراتيجي ودمجه في البنية السياسية الاقتصادية الاجتماعية سينعكس بمزيد من المنعة الداخلية تمنح لبنان قدرة ردعية لا مثيل لها في وجه الأعداء.
«القوات» في اعتراضاتها على حزب الله تعتمد على الدوام مقياساً خاطئاً، لأنّ الاتهامات الموجهة إليه تقوم على فرض أنّ الحزب بسلاحه ووجوده العسكري في مواجهة «إسرائيل» وقوى التكفير الإسلامي إنما يهدد كيان الدولة ويسلب من اللبنانيين نعمة الحرية والاستقلال والقرار الحر، ولكن النتائج على أرض الواقع تخالف هذا الفرض بالتمام. صحيح أنّ المقاومة صيغة تتغاير مع مفهوم الدولة لكنها لا تتعارض معها، وليس هناك من حل سحري للظرف الذي نعيشه كلبنانيين، باستثناء قدرتنا على اختيار ما نودّ أن نكونه للحفاظ على وطننا، وهذا ما لا تريد القوات أن تفهمه على الإطلاق.
* أستاذ جامعي