تُرى، هل يصحُّ للمعارضين البحرينيين إظهار العتب أمام الإدارة العراقية، إزاء محدودية النصرة التي يبديها الجهاز الرسمي العراقي تجاه التعديات المستمرة على قطاعات واسعة من شعب البحرين؟ أم على المعارضين تقدير جهد بغداد المتاح، وتفهّم الظروف غير الاعتيادية التي تنوء بها الحالة العراقية، والتي تحول ــ كما يظهر ــ من دون أن تبرز حكومات بغداد المتعاقبة، منذ ٢٠٠٣، موقفاً أكثر جسارة مضاداً للخيار الرسمي البحريني العنيف تجاه المعارضين وبيئتهم الحاضنة، ويعلي من التأكيد العملي في حاجة حكومة المنامة لكفّ أذاها عن الأغلبية من مواطنيها، والبحث عن تسوية سياسية متوازنة للبلاد.

لكن الأمر لا يقتصر على البحرين، ذلك أن الأسئلة بشأن السياسة العراقية الخارجية ما لبثت أن تصاعدت مع وضع العراق لبنة جديدة في طريقه الوعر نحو إعادة الاعتبار لأحد أهم بلدان المنطقة والعالم، حضارة وإمكانيات، وكذا في مسعاه نحو رسم صورة أكثر إيجابية لنخبته السياسية، بقيادة حزب الدعوة، التي وصلت إلى الحكم في ظروف قاهرة، وقابلة للاستثمار سلبياً من خصوم بغداد الإقليميين، ومنافسي المنطقة الخضراء المحليين.

عتب الشركاء

يقول بعض المعارضين البحرينيين المعاتبين إن الكثير من الساسة العراقيين نسوا ــ أو انشغلوا عن ــ قضية البحرين وشركاءهم في النضال ضد الديكتاتورية بمجرد بلوغهم قصور المنطقة الخضراء.
لا ينكر هؤلاء أن حكومات بغداد المتتالية واجهت تحدياً وجودياً، ممنهجاً، ممتداً، ومتعدداً، استنزف اهتمامها وقدراتها. كما لا ينفون، بل يقدرون، حصولهم على قدر من التعاطف والدعم الإعلامي الحزبي العراقي، بيد أن عدم الالتفات والرعاية والاحتضان بالقدر الكافي والمنشود للجذور المشتركة، والمصلحة المشتركة في اتساع رقعة الحريات والسلام والديموقراطية في المنطقة، والخصوصية البحرينية ــ العراقية، لا بد من أن يطرح التساؤل إن كان التواري العراقي عن شؤون اللعبة الإقليمية له ما يبرره، في وقت تبدو فيه السياسات الخارجية والأمن الإقليمي جزءاً لا ينفصل عن السلام الداخلي. (وهو ما نناقشه لاحقاً)
ولخلفيات وغايات وطنية وقومية ودينية وليست طائفية، ناضل كثير من البحرينيين جنباً إلى جنب مع نظرائهم العراقيين ضد نظام «البعث»، إبان سنوات الجمر، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حين كان معارضو حكم «البعث» منبوذين على المستويات كافة: لا يجدون موطئ قدم في دول العرب وإعلامها، ولا يحظون باستقبال حتى من أصغر مسؤول في وزارة خارجية، ولا يحوزون التعاطف الغربي ومراكز القوى فيه، قبل أن يتحول المزاج الأميركي والأوروبي والخليجي نحو احتضان المعارضة العراقية، برموزها الشيعية والكردية والسنية، الإسلامية واليسارية، بعدما اقترف صدام حسين خطأه التاريخي باحتلال دولة الكويت، في صيف ١٩٩٠.
وتظهر محطات عديدة أن الحركة السياسية البحرينية دفعت ثمناً غالياً لتعاطفها مع مطلب التغيير الديموقراطي في بغداد، ولتناغمها الأيديولوجي مع النموذج الدعوي العراقي، وخصوصاً في أعقاب تخرّج عدد من رجال الدين والأفندية من حوزة النجف وجامعات العراق منتصف الستينيات من القرن الماضي، والذي مهد لنقل التجربة الدعوية للبحرين.
وفي وقت انعدام النصير، أبرزَ دعاة البحرين وجمهورهم موقفاً احتجاجياً جلياً على خلفية إعدام السلطات العراقية، في كانون الأول/ ديسمبر ١٩٧٤، عدداً من أبرز أعضاء حزب الدعوة (عارف البصري، حسين جلوخان، عماد الطباطبائي، عز الدين القبنجي ونوري طعمة) حين نشرت مجلة المواقف البحرينية إدانة لا لبس فيها لعملية الإعدام التي تمت في ما يبدو على نحو غير متوقع، وبشكل شبه سري.

يقول معارضون بحرينيون
إن الكثير من الساسة
العراقيين انشغلوا عن
قضية البحرين

كانت ضربة موجعة للغاية لحزب لدعوة الأم، وينظر إليها على أنها محطة فارقة في تاريخ العلاقة بين المؤسسة البعثية والحركيين الشيعة بقيادة الإمام الصدر.
وانطوى قرار التعاطي الإعلامي مع عملية الإعدام على مجازفة، بيد أن التغاضي عن كشف عمليات القتل الممنهج لم يكن خياراً صائباً من وجهة أصحاب القرار الدعوي حينها.
وعبر نشر خبر الإعدام، خاطرت الجماعة الدعوية البحرينية بكشف رؤى وتوجهات حزبية وسياسية كان يراد لها أن تظل مستورة أو راكدة، وتعتمل تحت السطح، لولا تطورات دراماتيكية وغير محمودة العواقب في الجوار العراقي، وتضييق إعلامي وأمني وسياسي في بغداد والنجف وكربلاء، وعموم المناطق العراقية، بل ومختلف البلاد العربية، إلا ما ندر، يترافق مع بطش بعثي غير معهود ضد من ينظر إليهم كأبرز خصوم الحزب «القائد» في العراق.
الراحل عبدالله المدني (١٩٣٩ – ١٩٧٦) كان رئيساً لتحرير المواقف، التي نشرت خبر الإدانة. ويعد الرجل من بين أقدم أعضاء حزب الدعوة البحريني، وعضواً في برلمان ١٩٧٣ المنحل، وقد اغتيل بعد نحو عامين من نشر الخبر، مع أن دوافع الاغتيال لا صلة لها بذلك، كما تقول التحقيقات الرسمية.
في تلك الفترة، بُعيد الاستقلال، والبدء في مسيرة بناء المؤسسات الدستورية، برزت الكتلة الدينية الشيعية، وأذرعها المختلفة، رقماً فاعلاً في المعادلة الوطنية، وفي انتخابات ١٩٧٣، ومداولات المجلس التأسيسي ــ الذي كلف صياغة دستور دولة البحرين ــ والمجلس الوطني (البرلمان)، الذي حله أمير البلاد، في آب/ أغسطس ١٩٧٥، بعد نحو عام ونيف على تدشينه.
تزامناً، كان الناشطون البحرينيون جنباً إلى جنب مع أشقائهم العراقيين، يوزعون النسخة ذاتها من خبر مجلة المواقف، في العاصمة البريطانية لندن، لتعريف الساسة الإنكليز بحجم التعديات على حقوق الإنسان في عراق «البعث»، وافتقاره إلى المؤسسات الدستورية المنتخبة، في وقت كانت فيه البحرين تعيش مرحلة إيجابية بالترافق مع شيوع قدر من الحريات الإعلامية والمدنية، وإصدار دستور متوافق عليه، يمنح المؤسسة التشريعية صلاحيات لا لَبس في قدرتها على خلق نوع من التوازن في نظام الحكم بين العائلة الحاكمة والقوى السياسية.
ما يعني، أن المواقف المنددة بالممارسات البعثية، حينها (١٩٧٤)، ارتفعت في بحرين الاستقلال والدستور والارتخاء الأمني، أملاً بعراق أكثر انفتاحاً، وإيماناً بأن سيادة القانون في الجوار، أمر حيوي لاستدامته في البحرين.
وحتى في وقت الشدة الوطنية، وسطوة قانون أمن الدولة الصادر بعد تعليق الدستور (١٩٧٥)، سجل البحرينيون إدانة صاخبة لإعدام الشهيد الصدر، في ١٩٨٠.
وينظر إلى جميل العلي (١٩٥٧ – ١٩٨٠)، باعتباره في طليعة شهداء بحرين ما بعد الاستقلال، من الإسلاميين، في قضية مرتبطة بحدث خارجي (عراقي).
ولقي العلي حتفه، في السجن، تحت وطأة التعذيب، في مايو ١٩٨٠، بعد بضعة أيام من اعتقاله، بتهمة مشاركته في تظاهرة صاخبة نظمت في العاصمة المنامة، بغرض التنديد بقرار حكومة صدام حسين تنفيذ عقوبة الإعدام ضد آية الله الشهيد محمد باقر الصدر، مؤسس حزب الدعوة.
وكما تم التنكيل بأعضاء حزب الدعوة في العراق، كان عصر الثمانينيات قاسياً على الإسلاميين الحركيين البحرينيين من مختلف التوجهات، وشمل القمع والسجن والتهجير أعضاء الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، وأعضاء حزب الدعوة البحريني المنحل، فيما كان نصيب اليسار البحريني جللاً، تعذيباً وتهجيراً، وخصوصاً قبل الاستقلال، أما تضحيات الإسلاميين الشيعة فقد سجلت علامة فارقة في النضال الوطني في العقود الثلاثة الأخيرة، في حلقة جديدة وممتدة من الكفاح نحو المساواة والحريات والعدالة، الذي أسهمت فيه مختلف ألوان الطيف البحريني.
وإثر اندلاع «الانتفاضة الشعبانية» (١٩٩١) وشمولها مساحات واسعة من العراق، مستثمرة تقهقر جيش صدام من الكويت على وقع القصف الجوي الأطلسي والعربي، أعدمت السلطات العراقية عشرة بحرينيين كانوا يدرسون العلوم الدينية والدنيوية في حوزة النجف وجامعة بغداد، كجزء من ردة الفعل الباطشة من قبل حكومة البعث ضد المدن المنتفضة.
وعاشت الأسر البحرينية كحال العوائل العراقية، القلق والألم والفراق، أكثر من عقد من الزمن، في ترقب مرير لمعرفة مصير أحبائهم. ثم فوضت أمرها إلى السماء، حين تأكد للرأي العام، في آب/ أغسطس ٢٠٠٣، ان أبناء البحرين فارقوا الحياة، إعداماً على يد أجهزة صدام، وفق ما أظهرت التحقيقات الرسمية العراقية.
وقد شارك بحرينيون إلى جانب إخوتهم العراقيين في صد العمليات العسكرية التي شنتها قوات صدام ضد المنتفضين في منطقة الأهوار، الواصلة بين إيران والعراق.
لكن يجدر التنبه هنا الى أن تضحيات العراقيين، سابقاً وراهناً، ضد صدام حسين أو في سبيل بناء الدولة ومؤسساتها، أو ضد الإرهاب القاعدي والداعشي، تصغر أمامها السند والتعاطف من أي جهة أتيا.

الجذور والآمال المشتركة

الجذر الأيديولوجي الواحد (الإسلام السياسي الحركي)، والانتماء الحزبي الواحد (حزب الدعوة) والقيادة الدينية الواحدة (مرجعية الإمام الصدر)، والآمال المتماثلة في بلد يحيا فيه الجميع تحت مظلة القانون، والهموم المشتركة، حيث الاستبداد والطائفية وانعدام الحريات وتأميم الحياة العامة وتهميش وتهشيم الإسلام السياسي وباقي الفصائل الوطنية وصعوبة العمل الحزبي والسياسي في العراق والبحرين، بسبب رعونة القبضة الأمنية، سجلت تقارباً تلقائياً، ثم منظماً، بين الناشطين في العراق والبحرين.
بيد أنها المشاغل نفسها التي تحشد الحُكمين غير المتناغمين في بغداد والمنامة، إلا ضد الخصوم الداخليين، وخصوصاً الإسلاميين الشيعة، في وقت هزت فيه الثورة الإسلامية في إيران أركان المنطقة، وزادت من الضغوط على الحركيين في البلدين العربيين.
ولعل هذا ما يفسر وضع أسس اجتثاث حزب الدعوة في القطرين، في الفترة ذاتها تقريباً. وبطبيعة الحال، كانت بغداد أسبق وأشرس، ليس فقط لكونها المركز الرئيسي لحزب الدعوة، لكن أيضاً بحكم القوة العسكرية والأمنية التي كان يتمتع بها عراق «البعث»، ونفوذه الهائل إقليمياً، وعلاقته الممتدة دولياً. وبينما اغتيل الشهيد الصدر في ١٩٨٠، لم يطل الأمر حتى تم اعتقال أبرز قياديي حزب الدعوة في البحرين في ١٩٨٣.
ورداً على الضربات الأمنية في بغداد والمنامة، تحرك في لندن وعواصم عربية وأجنبية أخرى، ناشطو حزب الدعوة لملء الفراغ الحاصل. وبين أعوام ١٩٧٨ و١٩٨٥ كان أحد البحرينيين، هو د. سعيد الشهابي، أحد أعضاء قيادة حزب الدعوة في أوروبا وأميركا، وضمت تلك القيادة أيضاً ــ إضافة إلى الشهابي ــ كلاً من الوزير العراقي السابق د. عبد الفلاح السوداني، ومستشار الأمن الوطني العراقي السابق د. موفق الربيعي، والمتحدث السابق باسم الحكومة العراقية د. ليث كبة، والدبلوماسي العراقي السابق د. جاسم حسين، وتولى قيادة فرع حزب الدعوة في أوروبا وأميركا - حينها - رئيس الوزراء العراقي الحالي د. حيدر العبادي.
وقد نشطت حركة أحرار البحرين، رسمياً بعد ١٩٨٣، في العاصمة البريطانية لندن، في أعقاب الضربة الأمنية لحزب الدعوة في البحرين، وتضاعف نشاطها في مرحلة التسعينيات، وتحولت إلى مركز قرار فاعل، يصعب تجاوزه، قبل أن تتآكل بعض الشيء مع انتقال القوة الحزبية إلى «الوفاق» بعد ٢٠٠٢.
معلوم أن الأمانة العامة للنسخة البحرينية من حزب الدعوة تشكلت في ١٩٦٨ بقيادة الشيخ سليمان المدني، أول بحريني ينضم إلى حزب الدعوة.
ويعدّ آية الله الشيخ عيسى قاسم، الزعيم الديني والسياسي في البلاد، أحد المنضوين السابقين لحزب الدعوة البحريني، ومرجعاً دينياً تربطه علاقات متينة مع المرجعية العليا في النجف.
ويتعرض هذا القائد ــ راهناً ــ لمحنة غير مسبوقة، وانتهاك فض لأبسط حقوقه كإنسان، تذكّر بمحنة الإمام الصدر، وكبار المراجع في النجف إبان حكم صدام، فقد تم سحب جنسيته (يونيو ٢٠١٦)، وقتل المدنيين في باحة منزله (مايو ٢٠١٧)، ويخضع للإقامة الجبرية منذ صيف ٢٠١٦.
أما تنظيم «الوفاق»، الوريث الأبرز لحزب الدعوة البحريني، فقد تم حله، في يوليو ٢٠١٦، ومصادرة أمواله وممتلكاته، ويقضي زعيمه الأبرز الشيخ علي سلمان حكماً بالسجن لمدة أربع سنوات، إثر اعتقاله بدعوى التحريض ضد الحكومة في ديسمبر ٢٠١٤.
ويُخشى أنه يواجه حكم الإعدام أو الحكم المؤبد وسحب جنسيته بسبب اتهامه، زوراً، بالتخابر مع دولة قطر، في محاولة متكررة من قبل السلطات للزج بالإشكالات الخارجية في الحدث المحلي.
وبنظر المعاتبين من المعارضين البحرينيين، فإن العلاقة وطيدة بين البلدين، تاريخياً وعائلياً، تجارياً وسياسياً، ثقافياً ودينياً، ومصالح متبادلة.
وبالنظر إلى الهجوم الرسمي البحريني الغاشم ضد الناشطين؛ وتطبيق حكومة آل خليفة مفردات «الحرب الشاملة»، اقتصادياً وديموغرافياً؛ واتباعها سياسات تجفيف الينابيع ضد البيئة الحاضنة للمعارضة، وكل ما له صلة بالأغلبية الشيعية في البلاد وثقافتها وهويتها.
وبالنظر إلى أن الإشكال البحريني لم يعد محلياً، في ضوء تورط الإقليم، وخصوصاً السعودية والإمارات، مناصرة للعنف والإقصاء.
ولما كانت المصلحة العراقية تقتضي استقرار البحرين والجوار؛ ولكون البحرين تعدّ بمثابة مختبر مصغر لما يمكن أن تمارسه حكومة العراق من أدوار إيجابية في محيطها العربي، وتبشر عبر ذلك بنموذجها التعددي، وتظهر قدراتها الدبلوماسية وقوتها الناعمة؛ كل ذلك يستوجب احتضاناً وتفاعلاً أكبر مع الحدث البحريني من قبل نخبة العراق الحاكمة، التي عاشت التاريخ المشترك، بنزفه وتعقيداته، وتعرف أكثر من غيرها وعن قرب معاناة البحرينيين.
كما تدرك هذه النخبة غربة المعارضة البحرينية ووحدتها، والتي سبق أن اكتوى بنارها الناشطون العراقيون ويعرفون معناها وقسوتها، لكن الأهم أن لدى العراق مصالح في بحرين مستقرة، تستدعي منه تحركاً أكثر تأثيراً.
(للحديث صلة، بما في ذلك المصالح المشتركة بين العراق والبحرين، وتحديات السياسة الخارجية العراقية الداخلية وتلك الإقليمية، وطبيعة العلاقات العراقية البحرينية ــ الرسمية والشعبية ــ خلال العقد ونصف العقد الماضي، موقف بغداد من الحدث البحريني، وفرص أن يؤدي العراق دوراً بارزاً في الشأن البحريني).
* كاتب وصحافي بحريني