يبدو أنّ لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ما يكفي من الأصدقاء لينجو من المنفى. بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبدعمٍ من الولايات المتحدة، نجح الحريري ليس بالإفلات من قبضة السعوديّة والعودة إلى لبنان عبر فرنسا وحسب، بل أيضًا بالتراجع عن استقالته الجبريّة حتّى إشعارٍ آخر. استقرار لبنان في هذه المرحلة كان، بالنسبة للأوروبيّين والأميركيين، أهمّ من أن تُترك قضيّة الحريري كـ«شأن داخلي» سعوديّ، سيّما أنّ لبنان يواجه طيفًا من التحدّيات تشمل تبعات الحرب السوريّة، ولا سيما منها أزمة اللاجئين.
وفي الوقت نفسه، اضطلعت الجهات الداخليّة بدورٍ أساسيّ في احتواء الأزمة. فقد أتاح رفض الرئيس ميشال عون لاستقالة الحريري في الرابع من تشرين الثاني للفاعلين المحليّين والدوليّين كسب ما يكفي من الوقت للردّ على الخطوة السعوديّة. واجتاز الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بكلِّ حذرٍ حقل الألغام السياسيّ الّذي زُرِعَ لحزبه من خلال الدعوة إلى عودة الحريري وعدم التصعيد. وبذلك مُهّد الطريق أمام الحريري ليستعيد زمام مهامه كرئيسٍ لمجلس الوزراء ويعاود دخول المعترك السياسي.
والواقع أنّ اصطفاف المصالح الإقليميّة والداخليّة هو تحديدًا ما حافظ على الاستقرار السياسيّ للبنان منذ 2005. فعلى رغم الشحن الداخليّ بين قوى 8 و14 أذار خلال هذه الفترة، كان للأحزاب السياسيّة الحاكمة الكثير على المحك من الناحيتين السياسيّة والاقتصاديّة، بحيث لم يكن يناسبها الإطاحة بهذا الاستقرار رغم اشتداد حدّة خلافاتها. وقد توزّعت السلطة بشكل أكثر تكافؤَا على المجموعات الطائفيّة الثلاث الأساسيّة خلال حقبة ما بعد الطائف. كما أنّ ثرواتها في القطاعين العقاريّ والمصرفيّ موزّعة أيضًا على نطاقٍ أوسع مقارنةً بسنوات ما قبل الحرب. وبالفعل، فإنّ ذلك يجعل من أيّ نزاعٍ محليّ بالغ الكلفة بالنسبة إلى جميع اللاعبين الأساسيّين.
إلّا أنّ الأمن والاستقرار النسبيّين اللذين تقوم عليهما هذه المصالح المتباينة لا يشكّلان إلّا وجهًا واحدًا من هذه العملة. ففي حين أنّ القيادة السياسيّة للبلاد بذلت قصارى جهدها لاحتواء النزاعات وتعاونت حتّى في مواجهة التحدّيات الخارجيّة المتمثّلة بالمجموعات المسلّحة (مثل ظاهرة الشيخ أحمد الأسير و«داعش») أو المجتمع المدني (مثل المبادرات الانتخابيّة المستقلّة أو رابطة الأساتذة) فإنّ هذه القيادة نفسها فشلت في تقديم الخدمات العامّة لمواطنيها.
ويُضاف إلى ذلك التفاهم الإقليميّ، لا سيّما بين إيران والسعوديّة، لدرء النزاعات الإقليميّة عن لبنان، كل منهما لأسبابه.
وتفسّر هذه العوامل لماذا اعُتبرت الاستقالة الجبريّة للحريري «انتهاكًا» لهذا التفاهم الضمنيّ وتهديدًا بتقويض استقرار البلاد. فالتغيّر غير المتوقّع في السياسة لدى القيادة السعوديّة الجديدة دقّ ناقوس الخطر في عددٍ من العواصم. ذلك أنّ الاطاحة بالحريري بشكلٍ كامل كانت لتؤدّي إلى مجموعة من الإجراءات الّتي من شأنها أن تأتي على حساب استقرار البلاد. وفي حين تمثّل هدف السعوديّين بسحب الغطاء عن حزب الله، رأت جهات أخرى ومنها فرنسا وألمانيا ومصر وحتّى وزارة الخارجيّة الأميركيّة في ذلك وصفةً لزعزعة الاستقرار. وعلى ضوء ذلك، نجحت فرنسا، بدعمٍ من مصر، في إعادة التفاهم السياسيّ إلى ما كان عليه وإن بشكلٍ مؤقّت.
وفي حين دحرت عودة الحريري أزمةً سياسيّةً وشيكة، إلا أنها لم تغيّر قواعد اللعبة بشكلٍ جذريّ. فسيادة لبنان لا زالت تحت سيطرة قوى خارجيّة. وقد سهّل القادة السياسيّون المحلّيون عودته، ولكنّ استقالته كما إعادته حدّدتهما بشكلٍ أساسيّ قوى أجنبيّة. ويبدو التلاقي بين حزب الله وعون بشأن الحريري جليًّا. ولكن لا يتضح كيف ستمضي البلاد قدمًا في ظلّ المطالب السعوديّة.
ويكمن السؤال الأساسيّ في مدى موافقة السعوديّين على تراجع الحريري عن استقالته. فالواضح أنّ الرياض بالغت في لعب ورقتها، ولكن لها أن تعتدّ بأنها زعزعت النظام لصالحها من منطلق أّنّها لو لم تدفع الحريري إلى الاستقالة لوقع لبنان بالكامل في أحضان إيران. فالحريري، في نهاية المطاف، جعل من اعتماد سياسة «النأي بالنفس» شرطًا مسبقًا لعودته. وقد يكون السعوديّون يخطّطون أيضًا لتصعيد الوضع مع التركيز على إمكانيّة اللجوء إلى التدابير السياسيّة أو الاقتصاديّة. وفي هذه الحالة، ستستتبع مثل هذه الخطوات نتائج وخيمة بالنسبة إلى لبنان ككلّ والمنطقة بأسرها، في حين أنّ احتمال الحاق الضرر بحزب الله هو الأقلّ نسبيًّا.
وبينما تستمرّ التهديدات بتوجيه ضربةٍ عسكريّةٍ لحزب الله من قبل اسرائيل، لا تُعتبر مثل هذه الخطوة مرجّحة لأنّ من شأنها أن تشعل نزاعًا يتخطّى الحدود اللبنانيّة. ومن المحتمل أن تجد سوريا نفسها أيضًا في أرض المعركة لأسبابٍ ليس أقلّها انتشار مقاتلي حزب الله في ساحة القتال إلى جانب الحشد الشعبي العراقي. ويمكن للحوثيّين أيضًا أن يصعّدوا من هجوماتهم على الحدود الجنوبيّة للسعوديّة، فيشعلون بالتالي حربًا إقليميّة. بعبارةٍ أخرى، يمكن لمثل هذا النزاع أن يمتدّ إلى ما يتجاوز حدود لبنان فيؤدّي إلى مشاركة جهات غير لبنانيّة في الأعمال العسكريّة بشكلٍ مباشر.
وتتمثّل إحدى بدائل العمل العسكريّ بالحرب الاقتصاديّة الّتي يمكن أن تستهدف لبنان. صحيح أنّ الاستثمارات والمنح والواردات والسياحة السعوديّة تراجعت على مدى السنوات الخمس المنصرمة، غير أنّ العقوبات الاقتصاديّة قد تسبّب ضررًا أكبر بكثير على الاقتصاد الوطنيّ، سيّما إنّ سارت بلدان مجلس التعاون الخليجيّ في هذا المنحى. ولا يؤدّي مثل هذا العمل العقابيّ إلى الحدّ من النمو الاقتصاديّ للبنان وحسب، بل يؤثّر أيضًا على ثقة المستثمرين بالبلد. ويمكن تفسير تصريح وزير الخارجيّة السعودي عادل الجبير، بأنّ «القطاع المصرفيّ في لبنان خاضع لسيطرة حزب الله»، كتهديدٍ مبطّنٍ للقطاع الماليّ والنقديّ للبلد. وبالفعل يمكن للإجراءات ضدّ المصارف اللبنانيّة أن تزيد من كلفة الاستدانة بالنسبة إلى الحكومة، فيصبح الإنفاق العام، المرتفع أصلًا، غير مستدام. إلى ذلك، وفي حال أدّى التهديد السعوديّ إلى تراجع في تحويلات المهاجرين الّتي تقدّر بما يراوح بين مليارين و2.5 مليار دولار، فقد تترتّب على ذلك آثار وخيمة على سلامة الاقتصاد الكلّيّ في البلاد بما يشمل العملة.
ولنكن واضحين. حتّى الآن تبقى المسائل المطروحة أعلاه تكهّنيّةً بطبيعتها. غير أنّ هذا التمرين الوجيز يبيّن أنّه في حال تطبيق مثل هذه السياسات فهي ستؤدّي إلى إلحاق الضرر باللبنانيّين من جميع المذاهب ولا سيّما منهم الفقراء. وفي حال تراجع سعر صرف العملة سيتأثّر جميع الّذين يتلقّون أجورهم ويحتفظون بادخاراتهم بالليرة اللبنانيّة، بما في ذلك موظفو القطاع العام والأجهزة الأمنية. وقد يؤدّي ذلك حتّى إلى تقويض الدولة وقدرة القطاع الأمنيّ على أداء واجبه.
ولسخرية القدر أنّ هذا السيناريو المأساويّ سيؤدّي على الأرجح إلى خروج حزب الله بأضرار تقل عن تلك الّتي تلحق بباقي الجهات اللبنانيّة، لأنّه أقلّ اعتمادًا على الدولة للحصول على الخدمات العامة أو على وظائف في القطاع العام. فمن شأن المنظّمات الّتي تقدّم الخدمات للقواعد الشعبيّة لحزب الله أنّ تتمكّن من الصمود أمام الضغط أكثر من غيرها، كما قد تتمكّن أيضًا من توسيع نفوذها من خلال تقديم الخدمات خارج إطار الدولة.
وقد أتت آخر المحاولات للضغط على حزب الله بنتائج عكسيّة. ويمكن لمحاولات ممارسة ضغط اقتصاديّ أنّ تعزّز المجموعة نفسها الّتي يصبّ السعوديّون جلّ جهودهم لإضعافها. فلن يعود الدفع بالبلاد إلى الهاوية بأيّ مكاسب، بل على العكس، من شأن ذلك أن يؤدي إلى فوضى أو حتّى إلى تعزيز النفوذ الإيرانيّ في بيروت.

*المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات
**باحثة اقتصادية في المركز اللبناني للدراسات