إنّهم حفنة من الشعراء. حرّاس المدينة التي كان إسمها بيروت. صنعوا نهضتها، واحتضنت تجاربهم وأفكارهم وأحلامهم بتغيير العالم: من خلال الابداع، وأيضاً عبر النضال الفعلي. اليوم صاروا أيتام بيروت، آخر الشهود على عزّها الضائع، آخر الباحثين عن زمنها المفقود. عصام العبدالله كان أحد هؤلاء الفرسان المطاردين.
يقفل مقهى، فيهاجرون إلى آخر... حتى انطفأت المصابيح، واقفلت المقاهي والصحف والمسارح، فلم يعد لهم إلا وطن من الذكريات. هؤلاء الفرسان، من شعراء وكتاب ومبدعين ومثقفين، أسسوا وجودهم على مقاسات المقهى، وفصّلوا على أساسه حياتهم وانتاجهم ونقاشاتهم وقصص الصداقة والحب، والسياسة وخناقاتها. كتبوا تاريخ المدينة. كان المقهى جمهوريتهم الفاضلة، وشرفتهم المطلة على العالم، الأغورا وفضاء الإلفة والخصام، والتفاعل والتضامن. ثمّ أخذ يضيق العالم، فأين عساهم يذهبون الآن؟ من «الهورس شو» إلى «الإكسبرس»، ومن «المودكا» و«الويمبي» إلى «الكافيه دو باري»... لم يبقَ أثر. شارع الحمرا يبدّل جلده، والشعراء يغادرون. أين ذهبت كل هذه الأحاديث والثرثرات، النقاشات الخالدة، والهذيانات الزائلة؟ الحمرا باتت شارع الأطياف، نقطة ارتكاز العالم المنهار. كان لا بدّ من الهجرة إلى البحر، حيث بدت «الروضة» ملاذاً أخيراً.
عصام العبدالله تحدّث مراراً عن المقهى، فضاء الحريّة والوحي، والأحداث العاديّة أيضاً. في أيّامه الأخيرة كان يجلس في مقهى مستحدث في الحمرا، قرب «مسرح المدينة»، لست متأكّداً من إسمه. من غير المجدي بعد اليوم أن نحفظ الأسماء. من غير المناسب أن نعترف بشرعية الأماكن الطارئة، أن نعطيها إسماً فنخاطر بمحو الأسماء القديمة. كان يجلس أحياناً إلى آخر طاولة قبل الرصيف. وهناك تلتقيه غالباً، أنت العابر وهو المقيم. يقف بقامته المديدة، يستقبلك بالحرارة والحيويّة المعهودتين، يطلب إليك أن تكون «أكثر هدوءاً» في «معاركك». تبتسم بحرج وتمضي، بعدما تواعدتما على جلسة قريبة هنا. الموعد سيبقى معلّقاً الآن، لقد تأخّرت. صار عصام شبحاً من أشباح بيروت.
«ما في مدينة اسمها بيروت/ بيروت عنقود الضيع». وفي هذه المدينة نسج خيوط حكايته، في منطقة وسطى بين مكان الولادة في انطلياس بحكم وظيفة الوالد، ومنبت الجذور في بلدة الخيام الجنوبيّة التي يعود إلى سهلها اليوم ليستريح. في «ثانويّة رمل الظريف»، حيث كان عصام مشاكساً ومحرّكاً للحشود، سيلتقط «السوسة» بفضل أستاذ اللغة الفرنسية وآدابها. هذا الأستاذ لم يكن سوى نزيه خاطر الذي عرّف تلميذه على مجلّة «شعر»، وشجّعه على ارتياد المسارح وصالات العرض، وكانت تزخر بها بيروت. مرّت السنوات على التلميذ ومعلّمه الناقد المعروف، ليصبحا صديقين، وزميلين في صناعة الحياة الثقافيّة للمدينة. بالنسبة إليه كانت بيروت خياراً. مكان الولادة الفعليّة: في السياسة قبل أن يبتعد عنها، وفي الشعر العمودي الفصيح قبل أن يعتزل الكتابة عشرين عاماً، وأخيراً في القصيدة «العامية الفصيحة» التي جاءها منحدراً من ميشال طراد، ثم طلال حيدر. وتغذّى لخوضها من المدرسة الرحبانيّة، كما غرف من الأدب العربي، وآداب العالم عبر اللغة الفرنسيّة.
كل «شعراء الجنوب» ـــ إذا جازت التسمية الاختزاليّة التي تحاول أن تحصر في قمقمها بعض أهمّ شعراء السبعينيات في لبنان ـــ كان الجنوب مخزونهم الروحي، وموضوعهم ربّما، فيما كانت بيروت مختبرهم الوجودي والثقافي، وغالباً مكان العيش والكتابة الذي بلور تجاربهم ومنحهم الشرعيّة والتكريس. «بيروت بيت بقوضتين/ وتتخيتة وقبو/ وولاد مهما يلعبوا ما بيتعبوا/ أربع خمس درجات بالنازل/ في بير/ قاعد متل ختيار/ وقِع الوقت ع شواربو…». عصام وحده منح نفسه للشعر العامي (مع محمد العبدالله في جزء من شعره)، إنّه «المديني» الذي لم يقطع مع براءته الريفيّة. «الفصحى هي ابنة الملك، المحكية هي ابنة البواب»، كان يردّد، ويضيف أنّه اصطحب ابنة البوّاب إلى الحفلة وكانت الأكثر تألّقاً. «الرجل - الحصان» كما كان يلقبه الأصدقاء، بسبب طاقته وزخمه وجموحه، يشبه بيروت، في تعددها وفوضاها، في صخبها وهدوئها. إنها حلم الحداثة الذي راود جيله، وكل ما بقي من تركتهم هو هذا المشروع غير المنجز. القرى تراجعت، أو ذابت الآن في أدغال مدينة عشوائيّة التهمت نفسها عمرانيّاً واجتماعيّاً… مدينة أحكمت الخناق على «دائرة الشعراء المفقودين»، ولم تعد تحمل لهم إلا الغربة. لم يبقَ للشاعر المعروف بسخريته وفكاهته، إلا أن يستأذن من بيروت الآن. دعوه يعود إلى المكان الأصلي الذي بقي ينتظر، دعوه ينسحب إلى أحضان قصيدته في «جبل عامل».
اليوم «باب الحكي مقفول… من برا»، كما كتب الراحل في قصيدة عن الحرب. مضى عصام وترك للباقين أن يخبروا القصّة. لقد كتب كثيراً على «الرمل»، حتى امحت سطور «النمل»، و«صار الحكي تلميح». رحل وترك دواوينه الثلاثة التي كان يردد متندراً أن حجمها الإجمالي لا يتجاوز الألف كلمة. ألف كلمة مقطّرة، مصفّاة، منحوتة، قادرة على تكثيف الملحمة. من قال أساساً إن الشعر بعدد الكلمات؟ الشعر بعدد الأوهام والآهات، ولحظات النشوة، ونوبات الغضب، وجولات الصراع مع الوجع الخبيث. الشعر بعدد الندوب التي توازي السنوات الضائعة. مضى عصام تاركاً صوته الجهوري، القوي، الدافئ، الجامح، التراجيدي، الذي يختصر كل الحكاية. مع كل ديوان، كان يصرّ على تسجيل قصائده بصوته (مع بيانو زياد الرحباني، وسكسوفون توفيق فرّوخ…)، كي يَهدينا إلى المعنى. إنّه الشاعر ـــ الصوت، كان يكفي أن يتكلّم، كي يصل المعنى. الآن، بعد الموت بقليل، بالإذن من صديقه محمد العبدالله الذي ذهب ليشرب معه الأنخاب، سيصمت عصام العبدالله، فيصلنا الصدى.