حين خالطت تلاميذ كلية ادارة الأعمال في أيام الجامعة، اكتشفت الفارق بين الناس الذين قد يصبحون أثرياء في حياتهم وأولئك الذين سيظلّون خارج المنافسة. المسألة لا علاقة لها بالرغبة والأحلام، كلّنا نحبّ أن نكون أثرياء، السّؤال هو في أن تكون قادراً على فعل ما يستلزمه الأمر حتى تصبح ثرياً.
هناك صفات خاصّة مميّزة، يتمتّع بها هؤلاء وانت لا تملكها، تطبع سلوكهم وتفكيرهم وتجعل جمع المال الهدف الأساس في حياتهم: هذه الرّغبة الجّامحة، هذا الشغف المتوقّد للوصول الى القمّة، العقل المبرمج لحساب الرّبح والأسعار ومعدّل الفائدة، وسلوك من اكتشف باكراً مصدر سعادته وطموحه الوحيد في الحياة، وقد كرّس نفسه من دون تردّد لهذا الهدف. بالطّبع، أكثر الأثرياء في العالم ــ بعيداً عن خرافات الرأسمالية ــ هم ببساطة أناسٌ ورثوا مالهم، أو جاؤوا من عائلات ميسورة رسمت لهم الطّريق (حتّى أناس مثل بيل غايتس وجيف بيزوس، أصبحوا رموزاً لـ«باني الثروة» العصامي، لا يحيدون عن هذا النموذج: درسوا في جامعات نخبوية، وعلاقات أهلهم فتحت لهم الأبواب وأمّنت لهم أماناً مادياً يسمح بـ«المخاطرة». حين ترك بيزوس شركته في «وول ستريت» وأسّس «أمازون»، كان أصلاً ثريّاً قادراً على التقاعد في الثلاثينيات، وبيل غايتس ترك الدراسة في هارفرد حتى يبني شركته لا لأنه لا يكترث للمخاطر، بل لأنه يعرف أن حياته ستكون آمنة مرفّهة مهما جرى ـــ ولو كان تلميذاً فقيراً يدرس في هارفرد بفضل منحة، لما فكّر بفعلٍ «مجنونٍ» كهذا).
نحن هنا نتكلّم على التّنافس بين أبناء الطّبقة الوسطى، أي من يملك نصف فرصةٍ للارتقاء والانضمام الى تلك الفئة «العليا»، وتصبح قصّة نجاحه دليلاً على «عدالة» الرأسمالية وانفتاح السوق. حجّتي هنا هي أنّ صفات الذكاء والتعليم والاجتهاد لوحدها ـــ من دون المزايا المذكورة أعلاه، والتي تجعلك ترفع سقف طموحك، وتخاطر بالقليل الذي تملكه من أجل الكثير ـــ لن تجعلك ثريّاً في السوق الرأسمالي، بل هي ستضعك في فئة «المديرين التنفيذيين»، الموظّف ذي الرتبة العالية، الطبيب أو المحامي؛ ستصبح ميسوراً ولكنّك لن تنضمّ الى نادي الأثرياء. وهذه، في عرفي، المقايضة الأسوأ، فانت ستعمل وتكدح وتُذلّ تماما كالبروليتاري، ولكن من دون أن تحصل على اليخت والقصر والطائرة الخاصة، والحرية والسلطة والقدرة التي تأتي مع المال الكثير (على الهامش، الطريف هنا هو أنّ الاقتصاد، كلّما كان «رأسماليا أكثر» ومنتظماً، كما في اميركا، تقلّ امكانيات الصعود الطبقي وتنحصر الثروة وتتوالد؛ فيما تبرز حالة «الفقير الطموح» الذي يصبح مليونيراً في الاقتصادات التي ينهار فيها السّوق، كحالة روسيا، أو تشهد اعادة تشكيلٍ بنيوي، كمصر في أيام الانفتاح، أو تمرّ في حروبٍ أهلية).
منذ أيّام، حين كنت أناقش موضوع عملة «بيتكوين» الالكترونية وصعود أسعارها، ذكّرني صديقٌ بأنّنا نعرف بالـ«بيتكوين» منذ عام 2010 على الأقلّ، ونتكلّم عنه ونتنبّأ بنجاحه ونبشّر به منذ تلك الأيّام ولم نفكّر، رغم ذلك كلّه، بوضع دولارٍ واحدٍ من مالنا للرّهان على ما نقول ونؤمن، أو حتّى «نركب الموجة» ونستفيد. المسألة هي أنّني لو وضعت مئة دولار في «بيتكوين» في بداياته، لا أكثر، لكنت الآن أكتب هذا المقال من بيت تقاعدي الساحلي في تايلاند أو فييتنام (ولكنت أملك الصحيفة)، بل أنّني حين كتبت في هذه الصفحات عن «بيتكوين» منذ أشهر قليلة، كانت قيمته قد بلغت ألفي دولار، وهي قد ازدادت من حينه أكثر من ثمانية أضعاف ــــ ولم نستثمر. ورغم كلّ ما مرّ والفرص الضائعة فنحن نعلم اليوم أنّنا، لو اشترينا في «بيتكوين» الآن، فنحن نملك فرصةً جيّدة لمضاعفة مالنا خلال سنةٍ مثلاً، ولكنّنا لن نفعل (وذلك، ببساطة، لأننا لم نولد من أجل الثّراء والحياة الجيّدة).

بيتكوين يتمدّد

كما كان ستالين يقول، فإنّ «الكميّة هي في ذاتها نوعيّة»، وهذا ما يحصل اليوم مع سوق العملات الافتراضيّة. حين يصل سعر البيتكوين الواحد الى 17 ألف دولار، وتشارف القيمة الاجمالية للبيتكوينات الموجودة في العالم على ما يقرب الـ300 مليار دولار، لا يعود في الإمكان تجاهل الظاهرة وتنشأ ديناميات جديدة من حولها وتتغذى منها. أصبحت «غوغل» تعامل بيتكوين كعملة، تعطيك مباشرة سعر التحويل مقارنة بغيرها من الفئات النقدية. ويفترض أن تبدأ غرف التجارة هذا الشهر (في شيكاغو ونيويورك) ببيع «عقود مستقبلية» للبيتكوين، وهي أداة ماليّة تسمح لك بالمراهنة على ارتفاع سعر العملة الالكترونية. انت، في هذه العقود، تقوم تقنياً بشراء كمية من البيتكوين «في المستقبل» بسعر اليوم، أي أنّ السّعر لو ارتفع حينها، فأنت ستشتري بيتكوينات بسعرٍ أقلّ وتكسب الفارق (وحتى تراهن على انخفاض السلعة ــــ shorting ــــ فأنت تفعل العكس، أي تتعاقد على «بيع» بيتكوينات في المستقبل بسعر اليوم، فلو انخفضت قيمتها، فأنت ستشتريها بالسعر المنخفض حينها وتبيعها الى الطرف الثاني على أساس 17,000 دولار للبيتكوين الواحد ــــ في الكثير من هذه الصفقات، لا يتمّ تبادل مال وبيتكوينات، بل يقوم المصرف أو الوكالة ببساطة بحساب الفارق، ربحاً أو خسارة، ويدفعه لك حين يستحقّ العقد). في الوقت ذاته، ستقوم صناديق المال في «وول ستريت» قريباً ببيع سندات مسعّرة بالـ«بيتكوين»، وهي وسيلة تسمح لك بالاستثمار في السّلعة الالكترونية بسهولة وعبر حسابك الاعتيادي ومن دون تعقيدات التحويل والاحتفاظ ببيتكوينات، فالسندات تشتريها بالدولار وقيمتها ترتفع وتنخفض بحسب سعر البيتكوين، فتربح وتخسر بالتوازي مع حركة السلعة (وهذه هي الأداة التي «يشتري» عبرها الكثير من المستثمرين والصناديق اليوم الذّهب وباقي المعادن).
شركة أميركية تعنى بخدمات «البيتكوين» والوساطة في بيعه وتحويله، «كوينبايز»، أصبحت مؤسسة ضخمة وتتوسّع باستمرار بفضل انفجار بيتكوين وباقي العملات الافتراضية. نشرت «نيويورك تايمز» تحقيقاً عن «كوينبايز» ذكر أن عدد من فتحوا حسابات لديها ارتفع في الأشهر الماضية الى أكثر من 13 مليون أميركي (من السهل للغاية أن تنشئ «محفظة الكترونية» وتربطها بحسابك المصرفي، خلال دقائق، وتبدأ فوراً ببيع وشراء البيتكوين وغيره عبر شركةٍ كهذه)، والشركات المالية التقليدية، حين تجد أمامها سوقاً بهذا الحجم، فهي تريد حصّة منه، وأن لا تتركه لـ«كوينبايز» وأمثالها. للسبب ذاته، لم يعد في وسع الصحافة الماليّة أن تتجاهل ظاهرة بيتكوين، أو أن تسخفّها وتحكم بأنها صرعةٌ ستنتهي قريباً ولن يكون لها تأثير. التقارير من الوكالات الكبرى حول بيتكوين (من «بلومبرغ» الى «وول ستريت جورنال» الى غيرها) كانت سلبيّة بإصرار طوال مسيرة صعود العملة، وهي تعتمد خطاباً مزدوجاً: أنّ بيتكوين «فقاعة» وسيندثر قريباً ويخسر كلّ من راهن عليه أمواله (وهي مقولة تكرّرت مع كسر بيتكوين لكلّ حاجزٍ سعري: ألف دولار ثم الفين ثم خمسة فعشرة الخ)، وأنّ بيتكوين ــــ في الآن نفسه ــــ «خطير» ويهدّد سلامة النظام المالي ويشجّع على التهرب من الضريبة والجرائم والدكتاتورية، بل ويهدّد البيئة ويساهم في الانحباس الحراري (بسبب عملية «استخراج» بيتكوين التي تمارسها حالياً ملايين الأجهزة وتستهلك قدراً هائلاً من الكهرباء). هذا الخطاب، بالطبع، يعكس مخاوف المصارف المركزية ونظرتها الى هذه العملات المتفلّتة من رقابتها ـــ ونحن نقرأ «ايكونوميست» أو «بلومبرغ»، يجب أن نعرف المصالح والايديولوجيا التي ترشح من صفحاتها ـــ ولكن الواضح هو أنّنا لا نعرف الى اليوم حدود هذه الظاهرة و«خطرها».

بيتكوين كأداة تحرّر

بصرف النّظر عن مصير عملة بيتكوين بالتحديد، وارتفاع أو انهيار سعرها، فإنّ ما يخيف المصارف المركزيّة بالفعل هو أمرٌ من مستوىً مختلف، وقد لا يكون بالإمكان ردّه بعد اليوم. بعد أن أصبحت العملات الالكترونية أمراً «جدياً»، ودخلت في النظام المالي وحظيت بقبول الجمهور، فما هي الّا مسألة وقت حتّى يكتشف العامل المهاجر، مثلاً، أنّه من الأفضل له بكثير أن يحوّل المال الى أهله عبر عملة الكترونية يرسلها الى «محفظة» أهله مباشرة، وليس عبر تحويلٍ مصرفيّ أو «ويستيرن يونيون». سيفهم أنّه قادرٌ على ارسال بيتكوين الى عائلته، بدلاً من المال، من دون أن يدفع رسم تحويلٍ كبير أو ينتظر أيّاماً أو يخاطر بتجميد الحوالة أو رفضها. وهذا ينطبق على أيّ بلدٍ وبسهولةٍ ومجّاناً (لو شاء الانتظار بضع ساعات)، أو يدفع رسماً صغيراً يعطيه أولويّة في «بلوكتشاين» مقابل أن ينجز تحويلاً ضخماً ــــ بملايين الدولارات مثلاً ـــ خلال دقائق. ومن الفوائد الجانبية هنا أنّ التصريح عن هذا المال ودفع الضرائب قد يصبح مسألة «اختيارية».
انت ملياردير روسي يريد تهريب أمواله الى الخارج؟ لا مشكلة؛ اشترِ بيتكوين بروبلات داخل روسيا ثمّ حوّلها الى محفظة الكترونية في أيّ بلدٍ واصرف هذه البيتكوينات بالدولار عبر «شركة صرافة» مثل «كوينبايز» او غيرها، ولن يعرف أحد بهويتك (اقرأوا عن فضيحة «دويتشه بانك» وكمّ المتاعب الذي تكبّده مبيّضو الأموال حتى يحوّلوا روبلاتهم الى دولار ويخرجوها من روسيا ــــ عبر شراء أسهم في موسكو بالروبل وبيع مقابلٍ لها في لندن ــــ وقد تمّ تعقّب صفقاتهم في نهاية الأمر وكشفها). انت دولةٌ مثل كوريا الشمالية أو ايران، تمنعك اميركا من استخدام النظام المصرفي وتحتاج الى دولارات للاستيراد؟ لا مشكلة؛ اشترٍ بيتكوينات بعملتك المحليّة، أو بأيّ عملةٍ تملكها، وحوّلها فوراً الى دولارات (عبر مئات الحسابات، لو شئت التمويه، وآلاف الصفقات الصغيرة)، وقد صار حجم سوق البيتكوين اليوم قابلاً لإخفاء استيراد دولةٍ كاملة (بحسب موقعٍ يتابع أسعار العملات الافتراضية، بلغت قيمة صفقات بيتكوين في أربع وعشرين ساعة، أول من امس، أكثر من 13.6 مليار دولار). بل هناك حلٌّ أفضل من ذلك، لماذا لا تدفع لمورّديك مباشرة عبر بيتكوين، من دون الحاجة حتى الى المرور بالنّظام المصرفي ورقابة البيروقراطي الأميركي؟ أمّا لو كنت ثرياً غربياً أو شركةً تريد التهرّب من الضرائب وإخفاء ثروة، فإن الإمكانات هنا لا متناهية ــــ قالت ادارة الضرائب الأميركية، وهي تطالب «كوينبايز» بكشف أسماء عملائها، بأنّ أقل من 800 اميركي قد صرّحوا عن أرباحٍ مصدرها بيتكوين في السنوات الماضية، مع أن قيمة العملة ازدادت مئات المرات.
هذه الوظائف، وكثير غيرها، من الممكن أن تؤدّيها بيتكوين أو أي عملةٍ تخلفها، المسألة الأساس هي في التكنولوجيا التي ما زالت تثبت صلابتها، وفي اتفاق الناس على إعطاء هذه العملات قيمة. بل إنّ الارتفاع السريع، كما يحصل في حالة بيتكوين، لا يشجّع على التبادل (فأنت لن تدفع بيتكويناً ثمن طاولةٍ وانت تعرف أن قيمة هذا البيتكوين سترتفع في المستقبل القريب، بل ستحتفظ به) وهذا ما يجعل بيتكوين حالياً «عملة استثمار». بل إنّ خبيراً في مجلّة «اتلانتيك مونثلي» تنبّأ بمستقبلٍ تكون فيه أكثر من عملة الكترونيّة، كلّ منها يؤدّي دوراً مختلفاً (عملة ثابتة القيمة ومستقرّة ولكنها لا تستخدم الّا للصفقات الكبيرة وتخزين القيمة، عملة أخرى للتبادلات اليومية، عملة يتغيّر سعرها باستمرار للمضاربة والرهان، الخ)، ولكنّ المشترك بينها جميعاً أنّها ستكون أكثر فاعليّة وسهولة وسلاسة من الدّولار الأميركي اليوم، وهنا بيت القصيد.
لو أنّ اميركا لم تستغلّ الدّولار لأسباب سياسيّة، وأبقته «عملة احتياط» حياديّة واستفادت اقتصادياً من هذه الوضعية واكتفت، لما كان للبيتكوين وباقي العملات الالكترونية المعنى ذاته اليوم (الا في ما يتعلّق بفارق رسوم التحويل)، ولكنّ استخدام الدّولار والنظام المالي العالمي كسلاحٍ وأداةٍ للرقابة والعقاب والتحكّم في الأسواق، ووسيلة ضغط لتوحيد الممارسات المالية والأنظمة المصرفيّة حول العالم كما تريد واشنطن، هو ما يجعل الكثيرين في العالم يلهثون خلف أيّ بديل. على طول التّاريخ، كانت «عملة الاحتياط» العالميّة حياديّة وخارج نطاق السياسة، من الذهب الخالص الى الدنانير الرومانيّة الى الجنيه الاسترليني، فأن تتحكّم بالعالم عملةٌ «اسميّة» (كالدولار اليوم) غير موجودة الا على شاشات الكمبيوتر، ولكنّها تضعنا جميعاً تحت الرقابة والتحكّم الدقيق، فهي حالةٌ من الهيمنة لم يسبق لها نظير. لهذا السّبب ايضاً، من الصّعب أن يسمح النّظام العالمي لبيتكوين وأمثالها بالتمدّد والانتشار، وتهديد مكانتها واستبدالها، من دون معركة. أمّا من يشتري لكي يضارب، ومن يراهن على الارتفاع المستمرّ لقيمة بيتكوين، فإنّ هذا لا يحصل لأيّ سلعة، وسيكون هنا ــــ كما في كلّ حالة «فقاعة» في الماضي ــــ رابحون وخاسرون. في هذا الإطار، ينفع اقتباسٌ نقلته مجلّة «ايكونوميست» عن ناثان روتشيلد، حين سئل عن سرّ ثروته الكبيرة وربحه المستمرّ فأجاب: «كنت دائماً أبيع أبكر مما يجب».