«حين أكون في الرقّة، هناك مكانان إنْ لم أزرهما يومياً، لا أعتبر أنّني عشت يوماً طبيعياً: هما مكتبة بورسعيد وجسر الرقّة القديم». هذا ما قاله الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي. رحل العجيلي (2006)، وأحرق مسلحو «داعش» مكتبة «بور سعيد» (2014)، ودمّرت الطائرات الأميركية «الجسر القديم» قبل أن تُدمر المدينة بالكامل (2017).
سيطر مسلحو «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» على الرقة ربيع عام (2013)، وبقي العم أحمد الخابور (80 عاماً) بهدوئه المُعتاد في مكتبته (بورسعيد) المجاورة لـ«متحف الرقة الوطني» وكأنها جزء منه. كان يراقب بصمت تسارع الأحداث في المدينة التي صارت الثقافة آخر اهتمامات أهلها في ظل الصراع المسلح الذي شهدته بعد خروجها عن سيطرة الحكومة السورية.
سيطر «داعش» على الرقة في شتاء (2014)، وأعلن لاحقاً قيام «دولة الإسلام»، فيما استمرت المكتبة في عملها المعتاد لكن من دون صحف أو مجلات. ولم يسمح أبو زهرة (كما يكنيه مثقفو الرقة) للقهوة العربية المرّة بأن تبرد في دلتها، كانت ساخنة دائماً في انتظار الأصدقاء من المثقفين الذين صاروا يتبادلون الكتب سراً، ويتداولون الأخبار والأحاديث في الشؤون الثقافية والسياسية بأصوات خافتة بين رفوف الكتب.
يقول المهند الخابور نجل صاحب المكتبة في حديثه إلى «الأخبار»: «كانت الأمور مضطربة، وبدأ تنظيم (داعش) يبحث عن قرابين يبطش بها ليدب الخوف والرعب بنفوس المدنيين، وحاولنا مراراً ثني الوالد عن فتح المكتبة إلا أنه كان يرفض مجرد الحديث بالأمر، لأنها باختصار كل حياته». اشتد التضييق على الناس فأخفى العم أحمد كل الكتب المعروضة في واجهة المكتبة بقلبها وحجب أغلفتها، ونقل كتب الفلسفة والعلوم ودواوين الشعر إلى المستودع الذي يضم آلاف الكتب. لم يرق استمرار نشاط المكتبة مسلحي التنظيم وقيادته، فأصدروا قرارهم بإغلاقها وإحراق جميع محتوياتها.

كان يرى في
مغادرة المدينة «خيانة» لا تُغتفر


يضيف الخابور: «تتلخص حياة والدي في المكتبة، فقد نشأ شاباً بين آلاف الكتب. فالمكتبة التي أسسها في عام 1957 سمّاها (بورسعيد) لأنها تأسست إبان العدوان الثلاثي على مصر، وصارت منذ افتتاحها قبلة لكل رواد الأدب والثقافة في الرقة، أذكر منهم الدكتور العجيلي والشاعر الدكتور إبراهيم الجرادي والقاصّين خليل ومحمد جاسم الحميدي والشاعر عبد اللطيف خطاب والأديب إبراهيم الخليل، والدكتور يوسف البوزو الذي كتب رواية (التغريبة الرقاوية) وسرد فيها سيرة أحمد الخابور وأجواء المكتبة ووثّق مأساة الرقة».
يُعَدّ الخابور الأب من اليساريين القدامى، إلا أنه لم يمارس السياسة وفضّل عليها الفكر والثقافة، فصقل شخصيته التي صارت مركز جذب للرقيين. وكان يرى في الكتب ملاذه الآمن وفسحة سماوية جاب من خلالها أصقاع العالم دون أن يغادر كرسيه الخشبي. وبقيت المكتبة مقهى مصغراً للمثقفين والأدباء وملتقى لشيوخ العشائر ووجهائها يرتاده القاصي والداني.
دهم مسلحو «داعش» المكتبة في وضح النهار، وأمروا بإخراج جميع محتوياتها من كتب ومجلات إلى الساحة الصغيرة أمام متحف الرقة، ثم دهموا المستودع وأفرغوا كل محتوياته، وطلبوا منه أن يحرقها بنفسه، احتشد الناس وبعض الأصدقاء، لكنّ أحداً لم يستطع إيقاف تلك الجريمة. يقول المهند: «رفض والدي أن يشعل النار بالكتب، لكنهم أصروا على ذلك، وقد خشيت عليه حينها وتقدمت منهم قائلاً: أنا أحرقها، وفعلت».
لم يكن بوسع أحد فعل شيء، كان الخوف الذي زرعه التنظيم في قلوب أهل الرقة أكبر من أي شعور آخر، كان الشاعر والصحفي نجم الدرويش حاضراً تلك اللحظة، وقال لـ«الأخبار»: «كنت أقف في المكتبة مع العم أحمد عندما جاء أحد المسلحين وطلب أن توضع جميع الكتب أمام المكتبة، ومن ثم طلب منه فتح باب المستودع وكان يعرف مكانه جيداً، ونُقلَت الكتب إلى جدار المتحف الغربي، ثم أُشعِلَت النار بالكتب فتسللت وأخذت بعض الكتب وخبأتها حينها كان المسلح مشغولاً، وهو يحدث الحضور عن الفسق الذي تحتوي عليه هذه الكتب، علماً أنه لم يطلع على العناوين». ويضيف الدرويش: «بكيت من قلبي حين رأيت المكتبة التي كنت أرتادها منذ أن كنت شاباً، ومحبتنا للعم أحمد شدتنا إليها أكثر، فمن منا لا يحب القاعدة الأساس للثقافة في الرقة. مكتبة (بورسعيد) كانت المنبر الثقافي الأول، ورغم مساحتها الصغيرة كانت الملتقى الصباحي للعديد من المهتمين بالشأن الثقافي».
رفض أبو زهرة الخروج من الرقة، وطالت لحيته البيضاء خوفاً من بطش مسلحي «داعش»، حاله حال كل المدنيين. كان يرى في مغادرة المدينة «خيانة» لا تُغتفر، واستمر في فتح المكتبة الخالية من الكتب، لكنها بقيت مكاناً للقاء الأصدقاء والمثقفين. غادر نجله مهند مهاجراً إلى ألمانيا حاملاً معه دلة القهوة العربية وفنجانين، هما كل ما بقي من إرث ستة عقود. بات يصنع القهوة ويقدمها لضيوفه في منزله ويتابع الأحداث المتسارعة في الرقة بشكل متواصل وينشط في توثيق الضحايا، فيما نزح العم أحمد إلى ريف الرقة مع اشتداد المعارك، واستقر في إحدى القرى القريبة من المدينة، ثم عاد إليها قبل أيام، ليجد أن الطائرات الأميركية قد دمّرتها بالكامل، وصار بيته أطلالاً فمضى نحو نهر الفرات وانتحب وحيداً.