يتكبّد إيلي ورد الكثير لإطعام البزاق في مزرعته في سهل البقاع. يشتري كميات الخضر والثمر من مزارعين يسقونها بمياه عذبة. يحرص على ألا تكون المزروعات التي يشتريها قد زرعت في حقول قريبة من مجرى نهر الليطاني الذي يقطع السهل. ولكن ماذا عنه وعائلته؟. «لا أعرف» يجيب. ويستطرد: «مرض السرطان المتفشي في المنطقة، لا سيما في المسالك البولية والرئتين والمعدة، يؤكد أن المزروعات التي نأكلها تُسقى بمياه الليطاني القاتلة».
شكوك ورد تتأكد في عيادة الطبيب النائب عاصم عراجي في ساحة شتورة. هو وجاره المتخصص في العلوم المخبرية رياض القرعاوي يجزمان بأن الليطاني بات جاراً خطيراً. يقولان إن إصابة جديدة بالسرطان تُسجل «بشكل شبه أسبوعي» بين أبناء البقاع. الموت في بر الياس، جارة المجرى في البقاع الأوسط، بات عادياً. يستذكر عراجي عائلة الهندي التي يقع منزلها على ضفاف النهر. في ثلاث سنوات، تباعاً، توفي تباعاً الوالد سليمان ثم زوجته فابنهما. ويشير القرعاوي إلى أن القرعون سجلت أربعة أضعاف إضافية على المعدل العام لحالات السرطان في لبنان.
ماذا تفعل الدولة لمقارعة الموت؟. يوضح عراجي بأن خطط معالجة الليطاني ليست حديثة. في عام 2006، وجه نواب زحلة سؤالاً للحكومة حول أسباب تباطؤ مجلس الإنماء والإعمار في تنفيذ محطات تكرير الصرف الصحي لرفع الضرر عن المجرى. كان الجواب: «الدراسات موضوعة، لكن التمويل غير متوافر». بعد سنوات، وضع نواب زحلة والبقاع الغربي مشروع قانون لمعالجة تلوث النهر من منبعه في نبع العليق في بعلبك إلى مصبه في بحيرة القرعون. هنا، طالب نواب الجنوب بلحظ الحوض الجنوبي في القانون. كانت كلفة المعالجة في الحوض البقاعي تكلف 275 مليون دولار، فتضاعفت إلى 800 مليون لتنفيذ الشبكات والمحطات وتنظيف المجرى وإزالة المكبات العشوائية. قبل حوالي عام، أقرت الهيئة العامة في مجلس النواب القانون وأخذت تبحث عن مصادر التمويل. تأمن 100 مليار من قروض وهبات قدمها البنك الدولي والبنك الإسلامي. بقي تأمين ألف ومئة مليار لتنفيذ خطة سقفها الزمني 2021. لكن موازنة العام 2017، لم تورد ذكراً لليطاني!. طالب عراجي رئيس مجلس النواب نبيه بري بإثارة الأمر، فـ «تراوحت تبريرات وزير المال ورئيس كتلة المال النيابية للإسقاط، بين الخطأ ومشارفة العام على الإنتهاء».

الحملة الوطنية: نتلمّس استهتاراً وروتيناً ومماطلة تحدّ من عملية إنقاذ النهر


في البقاع، احتفل أخيراً بتشغيل محطة زحلة لتكرير الصرف الصحي وكأنها ستضع حداً لمعاناة أهالي البلدات القريبة منها. لكن «تشغيلها لن يحل المشكلة»، بحسب مسؤول التخطيط القطاعي في مجلس الإنماء والإعمار عاصم فيداوي. فرغم أن مياه الصرف الصحي تتسبّب في 85 في المئة من تلوث الليطاني، إلا أن الـ15 في المئة المتبقية الناتجة من نفايات المصانع تفعل فعل الـ 85 في المئة. ويلفت عراجي إلى أن هناك أكثر من ألفي مصنع وورشة صناعية غير مرخصة، افتتحت في السنوات الأخيرة في البقاع، ترمي مخلّفاتها في مجرى النهر. هذا الرقم أقرّ به وزير الصناعة حسين الحاج حسن في جلسة مناقشة موازنة العام 2017 في تشرين الأول الفائت. قبلها، استفحلت معامل الورق والطباعة والمواد الكيماوية في ضرب الحياة في النهر ومحيطه. أين مسؤولية وزارة الصناعة في وقت يشترط منح الترخيص لمصنع ما معالجته لنفاياته؟. وأين مسؤولية وزارة الزراعة في ضبط الاستخدام العشوائي للمبيدات المضرّة التي تتسرب إلى المياه الجوفية والنهر؟. عراجي تحدث عن تغطية مزمنة من الوزارات لأصحاب المصانع والتغاضي عن الضرر الذي تسببوا به. وينقل عن المسؤولين أن التعرض لهم «يؤثر سلباً على الإقتصاد اللبناني». لكنه يشدّد على أن أصحاب المصانع الكبيرة «يمكنهم تكبّد تكاليف إنشاء محطات خاصة لتكرير الملوثات الناتجة عن مصانعهم، فضلاً عن أن الدول المانحة وبرامج الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي قدمت هبات لعدد من المؤسسات الكبرى كتمويل لمشاريع الطاقة البديلة والبيئة في البقاع».
الخبير البيئي ناجي قديح يلفت إلى الأضرار غير الملحوظة التي تسببها المؤسسات الصغيرة والورش الصناعية. إذ أن «شبكة الصرف الصحي تستوعب ملوثات لا تقل خطوة عن الملوثات الصناعية لأن محطات الوقود والورش الصغيرة موصولة بتلك الشبكة، فضلاً عن مواد التنظيف الكيماوية التي تستخدم في المنازل والتي تنتهي في مياه الصرف الصحي أيضاً». وهذه المواد، بحسب قديح، قد تؤدي إلى قتل البكتيريا التي تعالج المياه المبتذلة في المحطات، وتهدد بتوقف هذه المحطات عن العمل.
قرار الحاج حسن أمس شكل أول خطوة فعلية في سياق مطالبات طويلة، برأي قديح. مطلع تشرين الثاني الماضي، عمم محافظ البقاع انطوان سليمان على بلديات المحافظة بـ«إنذار المصانع المتواجدة في نطاقها لإنشاء محطات تكرير بحسب حجم كل معمل خلال مدة شهر من تاريخ تبلغهم تحت طائلة الإجراءات القانونية وصولاً إلى إقفالها». فهل مئات المصانع التي لم يطلها قرار أمس التزمت بالإنذار؟.

تقرير تنفيعة بـ 300 الف دولار!

لا يقلل المسؤول في الحملة الوطنية لحماية نهر الليطاني رئيس بلدية زوطر الغربية حسن عز الدين من أهمية إقفال المصانع الـ 18. لكنه، في اتصال مع «الأخبار»، يعرب عن خشيته من أن تكون «الفلة طلعت بالمصانع الصغيرة التي لا تملك واسطة»، مذكّراً بحملة إقفال المنتزهات الصغيرة الموسمية على مجرى الليطاني في قسمه الجنوبي ورفع دعاوى قضائية ضدها، فيما جرى التغاضي عن الضرر الذي تسببه المنتجعات الضخمة التي تعمل على مدار السنة. ولفت عز الدين الى أن الحملة تحضّر لمؤتمر صحافي «للكشف بالأسماء عن المتواطئين في إبقاء الوضع على ما هو عليه، من وزارات وقضاء وبلديات»، وقد يُطلب من قيادة الجيش المساعدة في قمع المخالفات وإزالتها على ضفاف مجرى الليطاني. وأوضح أن بعض رؤساء البلديات في البقاع لا يتعاونون في ضبط المخالفين من مصانع وورش وبلديات ترمي مياهها المبتذلة في النهر. في اجتماع الحملة قبل أيام، أعلن أعضاؤها أن الكارثة «لا تزال مستمرة والإجراءات التنفيذية لم تتقدّم أكثر من 10 في المئة رغم كل الضغوط التي تقوم بها على المسؤولين والوزارات والإدارات المعنية. وعليه فإننا حتى هذه الساعة نتلمّس استهتاراً وروتيناً إدارياً ومماطلة، تكبّل عمل هذه الجهات المعنية وتحدّ من عملية إنقاذ النهر». في إطار الإستهتار، لمّح عز الدين إلى هدر في الأموال المرصودة تساهم بها جهات في مجلس الإنماء والإعمار المكلف بتنفيذ محطات الصرف الصحي، لافتاً الى «تنفيعة تمرر للتعاقد مع أحد الخبراء بـ300 ألف دولار لوضع دراسات وتقارير عن واقع معروف وأجريت عليه عشرات الدراسات!».