(...) كما تعلمون مصر أكبر دولة عربية، ودورها ــ بحقائق الجغرافيا وإرث التاريخ ــ يستحيل حذفه من موازين القوة وحسابات المستقبل في العالم العربي، التي تمثل نحو ثلث سكانه. لكل دور استحقاقاته وتكاليفه وأثمانه، فلا أدوار مجانية في التاريخ.وقد تراجع الدور المصري على مؤشرات التأثير في العقود الأربعة الأخيرة بعد خروجه من الصراع العربي الإسرائيلي باتفاقية سلام منفرد عام (1979)، لكنه لم يبارح المخيلة العامة باعتقاد جازم أن مصر قلب العالم العربي ومفتاح الموقف فيه.

دائماً هناك سؤال يطرح نفسه في الملمّات والكوارث التي تعترض العالم العربي: أين مصر؟ أو متى تعود إلى منصة القيادة؟
في خمسينيات القرن الماضي، أثناء حوار مع رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، وصف الرئيس جمال عبد الناصر مصر بأنها «دولة نامية».
قاطعه نهرو: «كيف تقول ذلك يا سيادة الرئيس. مصر دولة كبرى لها حضورها في إقليمها وعالمها وكلمتها مسموعة ومؤثرة؟».
رد عبد الناصر على الفور: «مصر دولة كبرى في عالمها العربي».
إذا لم تكن في قلب قضايا العالم العربي يتقوّض دورها.
بالقدر ذاته، فإن العالم العربي يخسر معاركه المصيرية إذا لم تكن مصر حاضرة في تفاعلاته.
بلا مصر، تتفاقم الأزمات إلى حدود الكوابيس، التي لم تكن تخطر على بال، مثل شلالات الدم والتخريب وسيناريوات التفكيك الماثلة.
بغض النظر عن مستويات التجريف التي لحقت بالدور المصري، فإنه لا يمكن تجاهل مخزون قوته الكامنة، ولم يكن ممكناً لأي دولة عربية أخرى على مدى عقود أن تملأ الفراغ الذي خلفه.
لعلكم تابعتم ــ من هنا في الشرق الأقصى ــ أسرار وتفاصيل أزمة احتجاز رئيس الوزراء اللبناني «سعد الحريري» في العاصمة السعودية الرياض بعد إجباره على إعلان استقالته.
كادت تلك الأزمة أن تدفع ذلك البلد العربي الصغير والمؤثر بالوقت نفسه إلى سيناريوات التأزيم والفوضى والاحترابات المذهبية.
كان الموقف المصري لافتاً ومؤثراً في إجهاض مثل هذه السيناريوات الخطرة بتصريح واحد يرفض دفع لبنان إلى الفوضى والعدوان عليه.
أحياناً، لا نعرف قدر البلد الذي ننتسب إليه.
بتعبير نابوليون بونابرت، فإن «مصر أهم بلد في العالم» من يسيطر عليها يمسك بالمقادير الاستراتيجية في العالم القديم.
العبارة البونابرتية ذاتها استخدمها اللورد كرومر في صدر مذكراته عن تجربته في حكم مصر مندوباً عن السلطات البريطانية بعد احتلالها عام (1982).
الإمبراطوريتان المتصارعتان ــ فرنسا وبريطانيا ــ كانت لهما النظرة ذاتها إلى الموقع الفريد الذي تمثله مصر ــ حيث تطل على البحرين الأبيض والأحمر، وتتصل عندها القارات القديمة: أفريقيا وآسيا وأوروبا.
لا أدري هل كان ذلك الموقع الفريد، الذي يصفه عالم الجغرافيا المصري الدكتور جمال حمدان بعبقرية المكان، نعمة أم نقمة؟!
أتاح لمصر أن تنتج أول حضارة في التاريخ الإنساني على ضفاف النيل وأن تلعب أهم الأدوار في محيطها بمحطات تاريخية عديدة، لكنه في الوقت نفسه عرضها لغزوات واحتلالات بلا حصر.
الصين أيضاً لها حضارة باهرة وتاريخها سلسلة متصلة من الغزوات والحروب حتى لا تنهض أبداً.
الإرث الحضاري قوة كامنة، لكنه وحده لا يكفي للتحرك نحو المستقبل.
إذا لم تكن رؤية المستقبل واضحة، فإنه بكاء على أطلال التاريخ.
بتراكم الخبرة، أفسحت الصين لنفسها طرق المستقبل والتصحيح والتجديد، بينما أهدرنا في مصر كل تراكم ــ كأننا نعيد قراءة كتاب التاريخ مع كل حاكم جديد.
أحد المشاريع الصينية الكبرى للمستقبل، التي يتبناها الرئيس الحالي شي جين بينغ، إحياء طريق الحرير، وهو نوع من التوجه لإعادة بناء جسور الاتصال التجاري والثقافي مع الجانب الآخر من الشرق، حيث مصر في صلبه.
في سنوات ما قبل «ثورة يوليو» (1952) شهد التاريخ الثقافي المصري مساجلة بين مدرستين.
الأولى ــ مدرسة الغرب وقد نظرت عبر البحر المتوسط إلى أوروبا ورأت مستقبلنا معها، وكان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الرمز الأكبر لهذه المدرسة.
والثانية ــ مدرسة الشرق وقد اعتقدت أن ذلك المستقبل مرهون بالاتصال بين شعوبه وحضاراته القديمة ومن أبرز الأسماء التي تبنت هذه النظرة الدبلوماسي والصحافي الدكتور محمود عزمي أحد كبار المفكرين المصريين في القرن العشرين، كما تبناها في وقت لاحق من ستينيات القرن الماضي مفكر آخر هو الدكتور أنور عبد الملك صاحب كتاب «ريح الشرق».
الأفكار الكبرى تبحث دائماً عمن يجسدها في ميادين التاريخ، وقد وجدت مدرسة الشرق رجلها في جمال عبد الناصر بدعوته إلى الوحدة العربية والتحرر الوطني ووحدة المصير الإنساني.
في عام (1955) انتظر شو اين لاي رئيس الوزراء الصيني التاريخي، الذي قدر لمدرسته في بناء الدولة أن تأخذ بلدكم العريق إلى ما وصل إليه، الرئيس المصري الشاب عبد الناصر في مطار عاصمة بورما.
كان شو اين لاي في اجتماع مع رئيس الوزراء البورمي عندما علم أنه سوف يتوجه إلى المطار لاستقبال الرئيس المصري الذي كان قادماً من العاصمة الهندية دلهي، متوجهاً إلى باندونغ حيث تأسست حركة عدم الانحياز.
قال شو اين لاي لنظيره البورمي: «أنا قادم معك».
كان ذلك خروجاً عن أي أعراف وتقاليد دبلوماسية، غير أن قضيته في طلب فك الحصار عن الصين الشعبية غلبت أي اعتبارات أخرى.
وقد كسب رهانه، فقد اعترفت مصر بدولة الثورة التي قادها ماو تسي تونغ وشجعت دول العالم الثالث للإقدام على الخطوة نفسها.
كان ذلك تحولاً رئيسياً في تاريخ الصين المعاصرة أفضى تالياً إلى كسب أحقيتها بدخول مجلس الأمن الدولي مطلع سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تأخذ طريقها للصعود الكبير بطفرات ترشحها لتصدر الاقتصادات العالمية.
في ظروف جديدة وعوالم مختلفة، تحتاج مصر والصين إلى مقاربات أخرى تحترم إرث التاريخ لكنها لا تتوقف عنده، تنمي التعاون الاقتصادي والتجاري لكنها لا تقتصر عليه.
هناك ما يجمع ويدعم فكرة المضي إلى آفاق بعيدة، أن تستثمر مصر في شراكة استراتيجية مع الصين وأن تتفهم الصين حقائق الموقف المصري في أكثر أقاليم العالم اشتعالاً بالنار.
أولى ضرورات التفهم ــ قبل الشراكة ــ أن نعترف بالفجوة المعرفية الواسعة التي تفصلنا، حتى نكاد لا نعرف بعضنا الآخر بما هو كاف وضروري لأي علاقات ذات طابع استراتيجي.
يقول انطباع شائع في مصر إن الصينيين متشابهون تماماً حتى لا نكاد نفرق بين وجه وآخر.
الانطباع نفسه عن المصريين موجود هنا في الصين.
لقد استمعت إلى طالب يدرس الدكتوراه في كلية اللغات الأجنبية يتحدث عن صعوبة اللغة العربية ومدى الجهد الذي يبذله للإلمام بها.
سألته: أي لغة في العالم تراها أسهل؟
أجاب ببساطة: الصينية.
إذا استمع مصري إلى هذه الإجابة فسوف تدهشه، فالصينية عنده أصعب لغة في العالم.
البعض ــ هنا ــ قد لا يرى في الشرق الأوسط سوى أسواق مفتوحة على المنافع التجارية... وقد لا يرى في مصر سوى بوابة تجارية للعالم العربي وأفريقيا.
إذا استعدنا دروس طريق الحرير في الصين ومدرسة الشرق في مصر، فإننا نحتاج بعمق إلى تفهم ثقافة وشخصية الطرف الآخر وشواغله حتى تتأسس شراكة معرفة ومصالح في الوقت نفسه.
بعض الشواغل المصرية تتعلق بتحديات الحاضر وصورة المستقبل في بلد قام بثورتين للانتقال إلى دولة مدنية ديموقراطية حديثة، غير أنهما اختطفتا ــ مرة من جماعة الإخوان المسلمين، ومرة ثانية من سياسات الماضي.
لا يمكن أن يتأسس استقرار بلا ضمانات حقيقية توسع المشاركة السياسية وتضخ دماءً جديدة في حيوية المجتمع وفق قواعد دستورية تحترم.
هذه مسألة ضاغطة في مصر، ملحة ومقلقة.
برغم الإنجازات الصينية الضخمة في العقود الأربعة الأخيرة من جراء سياسة «اقتصاد السوق الاجتماعي» إلا أن السؤال السياسي لا يمكن تجنبه.

تنتظر إسرائيل الجوائز العربية المجانية رهاناً على هرولة دول عديدة


بتراكم المال والسلاح سوف يأتي وقت تتساءلون فيه عن طبيعة النظام السياسي وضرورات تجديده من داخله على الطريقة الصينية المتريثة، التي تمضي خطوة محسوبة بعد أخرى، حتى تكتسب الصين قدرتها على التحول إلى قوة عظمى بمعناها الشامل.
في أبعد تقدير، فإن ذلك سوف يتم بالتدريج خلال العشرين سنة المقبلة.
وبعض الشواغل المصرية تتعلق بالوجود نفسه، مثل أزمة سد النهضة الذي يهدد حصة مصر التاريخية من مياه النيل وقدرتها على إنتاج الغذاء لمواطنيها، والحرب مع الإرهاب الذي يستهدف سلامتها واستقرارها وقدرتها على التقاط الأنفاس.
تكتسب تلك الأزمات الوجودية مستويات خطورة إضافية من أن الإقليم الذي ننتسب إليه تشتعل فيه النيران وينتظر استحقاقات ما بعد «داعش» في توزيع القوة والنفوذ بين اللاعبين الدوليين والإقليميين المتداخلين في صراعاته.
مصر، كأي دولة ذات إرث حضاري عريق، قوتها الكامنة أغلى ما تملك ــ تتراجع وتهزم، لكنها تنهض من تحت الرماد كما العنقاء في الأسطورة القديمة.
لعلي أجازف بالقول إن لديها فرصة حقيقية لأن تكون ضمن الرابحين الكبار عند لحظة توزيع القوة والنفوذ إذا ما صححت أوجه الخلل الرئيسية في إدارتها للملفات الخارجية الحساسة ودعمت ــ بالمشاركة السياسية والتوافق الوطني ــ عوامل التماسك الداخلي.
هناك الآن خمسة جياد إقليمية تتصارع على ما قد تحوزه من جوائز، أو تمنعه من مغارم ــ مصر وإيران وتركيا والسعودية وإسرائيل.
الأوضاع كلها سائلة بكتل النار وحركة السياسة، والمفاجآت غير مستبعدة.
في حسابات اللحظة، تتصدر إيران السباق الإقليمي في أغلب الأزمات المحتدمة على حساب السعودية، اللاعب الإقليمي الآخر الذي يناهضها ويصعد المواجهة معها.
معضلة إيران كيف تحفظ ما حصدته حتى الآن... ومعضلة السعودية كيف تتدارك الهزائم التي لحقتها بكل الأزمات المتداخلة فيها.
بحسابات اللحظة، تحاول تركيا المأزومة في أوضاعها الداخلية إعادة تكييف توازناتها الدولية والإقليمية بالانفتاح على روسيا وإيران حتى تنجو من أي احتمالات تقسيم محتملة على خرائطها إذا ما أنشئت دويلة كردية على حدودها السورية، كما تحاول أن تجد لنفسها موضع قدم عسكرياً داخل سوريا حتى تضمن ما تطلبه من جوائز عند عقد الصفقات الدولية والإقليمية الكبرى.
وفي حسابات اللحظة، تنتظر إسرائيل الجوائز العربية المجانية رهاناً على هرولة دول عديدة، أهمها السعودية، لفتح قنوات حوار علنية وسرية معها ضد العدو الإيراني المشترك.
مجرى التطورات المتوقعة يومئ إلى تطبيع واسع مع الدولة العبرية استخباراتي وعسكري واقتصادي دون أي انسحابات إسرائيلية من الأراضي الفلسطينية المحتلة وفق القرارات الدولية.
باليقين، فإن تداعيات الهرولة والتنازلات المجانية تنذر بنيران جديدة في الإقليم المنكوب.
أمام مصر طريقان لا ثالث لهما ــ إما أن تنجرف إلى الهرولة وتفقد ما تبقى من أدوار لآجال طويلة مقبلة، أو أن تمسك باللحظة التاريخية وتصعد إلى منصة القيادة وتعقيدات الإقليم تزكي مثل هذا الصعود.
بالتوصيف الكلاسيكي، السياسة الخارجية لأي بلد انعكاس لأوضاعه الداخلية.
الأدق أن يقال إنها أصبحت جزءاً من العمل الوطني الداخلي وليست مجرد انعكاساً له.
بعد «30 يونيو» (2013) بدا أن استعادة الخارجية المصرية، ذات التقاليد العريقة، لحيويتها وقدرتها على المبادرة والحركة وفق رؤية واضحة مسألة تتوقف عليها قدرة الأوضاع الجديدة أن تثبت نفسها.
بقدر ما هو ممكن في الظروف الصعبة التي أحاطت مصر وقتها، جرى تطويق محاولات فرض حصار دبلوماسي واقتصادي على البلد.
بشكل أو بآخر، تبدت سياسة خارجية لها أهداف معروفة ورؤى معلنة، تعرف ماذا تريد، وأين الأولوية في تحركاتها، انفتحت لأول مرة منذ عقود على المراكز الدولية المتعددة؛ بينها روسيا والصين، وسعت جاهدة لترميم علاقاتها المتدهورة مع القارة الأفريقية.
كان ذلك رصيداً لا يستهان به لنظام ما بعد «30 يونيو».
اليوم، تفتقد الدبلوماسية المصرية الوضوح الضروري في سياساتها وتحركاتها بكثير من الملفات الحساسة، بعض السياسات والتحركات منطقية ومفهومة في خطوطها العريضة، وبعضها الآخر متناقضة مع الالتزامات المصرية الرئيسية في النظر إلى قضايا الإقليم، وبعضها الثالث مثيرة للتساؤلات القلقة حول طبيعة العلاقة مع إسرائيل.
فيما بعد «30 يونيو» ترددت في الخطاب الدبلوماسي، كما الإعلامي، عبارات الاستقلال الوطني والخروج من إطار الهيمنة الغربية والانفتاح على روسيا والصين من دون قطيعة مع الولايات المتحدة واستعادة دور مصر في عالمها العربي، غير أن هذا الدور الحيوي اقتصر عملياً على نظرة ضيقة حصرته في منطقة الخليج.
برغم الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لتلك المنطقة، فإنها ليست كل العالم العربي.
تعود بعض أسباب الأزمات المكتومة المتكررة بين مصر والسعودية إلى وصف التحالف بين البلدين العربيين بـ«الاستراتيجي» من دون أن تكون هناك قاعدة تفاهمات حقيقية في ملفات الإقليم، فكل طرف يفترض أن يتصرف الآخر على الذي يتصوره.
الاقتراب جرى على خلفية خشية دول الخليج على مستقبل نظمها من جراء صعود جماعة «الإخوان» في أكبر وأهم دولة عربية من ناحية، وحاجة مصر الماسة إلى الدعمين الاقتصادي والدبلوماسي في أوضاع صعبة.
التحالفات المرتهنة لظروفها وحساباتها ليست قابلة للدوام إذا لم تنتقل إلى حوار جدي في مساحات التوافق والخلاف وإقرار مبدأي المصالح المشتركة والندية الضرورية.
برغم الكلام الكثير عن العلاقات الاستراتيجية، لم تحدث مرة واحدة على نحو جاد أي حوارات نظرت في الملفين السوري واليمني.
وقد مثل تسليم جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية بالطريقة التي جرت بها ضربة كبرى لها مردودها الاستراتيجي السلبي على أي علاقات مستقبلية في أوضاع تحولات عاصفة بالإقليم.
بلغة الحقائق، لم يكن هناك دور مصري حقيقي، لا عسكرياً ولا دبلوماسياً، في الأزمة اليمنية.
قبل يومين من بدء عملية «عاصفة الحزم»، أخطرت بموعدها، وأن مصر من بين الدول المشاركة فيها تحت اسم «التحالف العربي»، ولم يكن هناك تحالف يستحق هذا الاسم.
كما لم يكن المصريون مستعدين لانخراط جديد في الحروب اليمنية بأثر تجربة الستينيات التي استغلت لضرب الجيش المصري في سيناء، بينما بعض قواته الرئيسية تحارب في اليمن، فضلاً عن أن الخبرة المصرية تأكد لديها أنه لا يمكن حسم مثل تلك الحروب بالوسائل العسكرية وحدها.
في التوقيت نفسه، استبعدت مصر تماماً من أي جهود دبلوماسية لحلحلة الأزمة اليمنية.
توافدت إلى عاصمتها القاهرة الأطراف المتصارعة، لكنها لم تخرج بتلك الاتصالات إلى العلن الدبلوماسي، وسحب ذلك من رصيدها وقدرتها على المبادرة.
الأمر نفسه تكرر مع السوريين، حوارات غير معلنة توصلت ــ أحياناً ــ إلى تفاهمات رئيسية لم تأخذ طريقها إلى النهاية.
كان من تداعيات الوقوف في منتصف الطريق في بعض الملفات التصويت في مجلس الأمن بالإيجاب على قرارين متناقضين، أحدهما روسي والآخر فرنسي، قبل حسم معركة حلب.
لا السعوديون تقبلوا ولا الروس تفهموا.
الارتباك نفسه تبدى مرة أخرى في سحب المشروع المصري لإدانة المستوطنات من أمام مجلس الأمن تحت ضغوط الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، قبل أن يتولى مهماته بالبيت الأبيض، لكنها صوتت لمصلحة المشروع نفسه عندما قدمته دول أخرى.
مثل ذلك الارتباك لا يمكن تفسيره أو تقبله من مؤسسة دبلوماسية عريقة كالخارجية المصرية.
العلاقة مع إيران من الملفات التي انعكست عليها ارتباكات الأداء الدبلوماسي.
برغم تفهم دائرة صنع القرار في مصر لضرورات الحديث مع إيران، فإن الحساسيات السعودية أجلت أي اقتراب علني، برغم أن السعودية نفسها أبدت استعداداً قبل أزمة إعدام الداعية الشيعي نمر النمر وتداعياتها للدخول في حوار مباشر مع طهران، ومن المرجح أن تفتح مثل هذه الحوارات عندما تقترب الأزمة السورية من نهاياتها.
سألت شخصية سعودية نافذة: «لماذا تكبلون الدور المصري؟» فـ«مصر محام مؤتمن على الخليج ملتزم بأمنه في أي حديث محتمل مع إيران».
كانت إجابته: «لماذا مصر؟».. «نحن نستطيع أن نحاور مباشرة».
مثل تلك الرؤية لا تؤسس لأي علاقات استراتيجية أو طبيعية أو على شيء من الندية، وهو وضع غير مقبول ولا محتمل.
بالنسبة إلى مصر، فإن سوريا مسألة أمن قومي، فإذا ما سقطت سوريا إلى الأبد في الفوضى والتقسيم فإن مصر مرشحة لمصير مماثل، أو أن يضرب بالعمق أمنها القومي الذي ارتبط تاريخياً بما يجري في المشرق العربي.
في الخطوط العريضة، يتسم الموقف المصري بشيء من الوضوح من ضرورة الحفاظ على وحدة التراب السوري وجيشه والتسوية السياسية للأزمة عبر مفاوضات جنيف، لكنه يفتقر إلى روح المبادرة وحرية التصرف.
من مقومات أي تطلع مصري للعب دور إقليمي محوري في لحظة تقسيم الجوائز والمغارم الانفتاح بالحديث مع إيران حتى تستبين نقاط الاتفاق والاختلاف وتخفيض التوتر مع تركيا إلى حدود تسمح بتفاهمات رئيسية.
في الأزمة الليبية، تبدو السياسة المصرية أكثر تماسكاً.
منذ «30 يونيو» والخط العام واحد.
الحدود تمتد لنحو 1200 كلم، ومخازن السلاح التي تركها نظام العقيد معمر القذافي، فضلاً عن مخلفات التدخل العسكري لـ«الأطلسي» ذهبت إلى مسارين.
أول مسار، نقلها إلى مصر عبر الحدود المفتوحة.
وثاني مسار، نقلها إلى سوريا عبر الحدود التركية.

لم يكن هناك دور مصري حقيقي لا عسكرياً ولا دبلوماسياً في الأزمة اليمنية

كما نقل في الوقت نفسه مسلحون تمركزوا في مناطق بعينها، وقد دفعت مصر ثمناً باهظاً لنقل السلاح والمقاتلين داخل أراضيها.
وهكذا تصدرت قضية أمن الحدود والحد من تهريب السلاح أولوية النظر إلى الأزمة الليبية.
وهكذا تأكدت أهمية دعم الشرعية البرلمانية في طبرق وتدريب وتسليح الجيش الوطني الليبي.
بعد تذبيح أقباط مصريين في ليبيا، قامت مصر بغارة جوية على أحد معاقل الجماعة التي ارتكبت الجريمة الإرهابية، ثم ذهبت إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار أممي يضفي شرعية على مثل هذه العمليات، لكنها اصطدمت برفض غربي جماعي قادته الولايات المتحدة، أسفر عن تسوية ما في «الصخيرات» وضعت حدوداً لحرية الحركة يمنع أي تدخّل عسكري من أي نوع.
في المعلومات الأساسية، ليس في وارد صانع القرار المصري التورط العسكري في ليبيا، ولا في سوريا واليمن.
الأكثر مأسوية في الأزمة الليبية أنه ليس هناك تفاهمات صلبة بين دول الجوار العربية، وبالذات مصر والجزائر.
منذ البداية، تميل الجزائر إلي التسويات السياسية وفق الأطر الأممية، بينما لم تكن مصر مقتنعة بالتسوية التي جرت في الصخيرات، لكنها ماشت الرهانات الأممية وفي اعتقادها أنها سوف تفشل بعد حين.
بصورة أو أخرى، فإن تلك الأزمة مرشحة للمراوحة في المكان رغم تصاعد القلق الأوروبي من الهجرات غير الشرعية عبر الموانئ الليبية.
إن مصائر الأزمات المشتعلة بالنيران في الإقليم تكاد أن تكون مرتهنة بالكامل للطريقة التي سوف يجري بها إنهاء الأزمة السورية، وموازين القوة العسكرية على الأرض، ومدى قدرة القوة الكامنة المصرية على لعب دور يليق بحجم ذلك البلد الكبير بتاريخه في محيطه.
(محاضرة أُلقيت في جامعة بكين)
* كاتب وصحافي مصري