لم يصمد برنامج «مرّ الكلام» (إعداد وحوار مالك معتوق، مشاركة إعداد نيرمين زرقة، إخراج حكمت الشيخ بكري) على إذاعة «سوريانا إف إم» الرسميّة أكثر من أربع حلقات، لتبدأ هواتف المنع وتعليمات الإيقاف. كالعادة، تصدّر «الأوامر» من جهات وصائيّة، لا تمتّ للوسط الإعلامي بصلة.
الحلقة الخامسة كان يفترض أن تستضيف المتحدّث الرسمي باسم الهيئة العليا للتفاوض يحيى العريضي، في إطار انفتاح البرنامج الحواري الأسبوعي، والإذاعة عموماً، على مختلف الأطراف السوريّة. ضيوف الحلقات السابقة دليل على ذلك: الصحافي إبراهيم حميدي (الحلقة الأولى، في إشارة إلى توجّه البرنامج المعتدل)، والمنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية المعارضة حسن عبد العظيم، والسفير السابق بهجت سليمان، ورئيس منصة موسكو للمعارضة السورية قدري جميل. «حوار عالٍ بسقف مفتوح، وكلام جريء دون حدود أو قيود» شعار حماسي يطرحه مالك معتوق في كلّ حلقة. يتواءم مع سعي مدير الإذاعة الشاب وضّاح الخاطر وفريق عمله، نحو حالة مغايرة وجريئة في الإعلام السوري. يحفر كنقطة ماء شبه وحيدة في جدار خرسانيّ هائل من التصلّب والأحاديّة والتجهيل والأدلجة الساذجة. ولكن مهلاً، بغضّ النظر عن هويّة الضيف وتوجّهاته، من قال إنّ عقليّة متحجّرة كالتي تحكم هذا الإعلام قادرة على تحمّل حلقة واحدة من الاختلاف؟
«الضرب في الميّت حرام». عبارة تُسمَع كثيراً لدى الكلام عن لا جدوى انتقاد الإعلام السوري وتحليل واقعه. مناخ من اليأس يخيّم سريعاً على أيّ طرح حقيقيّ، رغم وجود طاقات هائلة، وعقول شابّة توّاقة للخروج إلى النّهار، في الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون ومختلف الصحف الرسميّة. من نلوم؟ البعض يسارع إلى فتح النّار على وزير الإعلام. المسكين لا حول له ولا قوّة في الأمور المفصليّة. يرنّ هاتف مكتبه، فلا يقوى سوى على الإصغاء والتنفيذ. يبدو كمتلقّي الضربات في برنامج «الحصن» الشهير. هل نذكّر بتفاصيل عجزه عن إقالة مدير منذ فترة وجيزة؟ كان «رامز واكل الجو» آنذاك. ممنوع أن يتحوّل «رامز تحت الأرض» إلى «رامز قلب الأسد». يفضّل أن يبقى «رامز عنخ آمون»، حتى لو عنى ذلك تدمير ما تبقّى من هيبة المنصب وثقله المعنويّ. من المتهم الحقيقي بـ «النيل من هيبة الدولة» الآن؟
من حسن الحظ أنّ الإيقاف اقتصر على حلقة واحدة من «مرّ الكلام»، وليس البرنامج برمّته. حادثة صغيرة تذكّر بمسلسل طويل من أوامر عشوائيّة، وتصريحات مضحكة، ومنع مراسلين بمن فيهم الموالون للدولة. الأفكار الأكبر تطفو على سطح الدلالة والتأمّل. مجرّد إيقاف حلقة جرّاء هاتف شفهي، مثال آخر على وهم دولة المؤسسات. كلّه مدروس. يضجّ الرأي العام بقضيّة ما، فيكون التجاهل هو الرد. الاستجابة لعاصفة انتقاد مسؤول (وزير الثقافة ووزير التربيّة مثالان حديثان) فكرة سيّئة، ومحفوفة بالمخاطر. إيّاكم أن يشعر الفرد أنّه «مواطن» مسموع الرأي. هذا سيجعله «يطمع» في المزيد. يجب أن يبقى «خالي الدسم»، ومجرّداً من الأسلحة. جزء من كتلة يتم تحريكها وإنطاقها حسب الحاجة. كذلك، لا يمكن انتزاع الشعور بالأمان من قلب أيّ فاسد أو عديم كفاءة. لا بدّ أن يبقى متيقناً من كونه «بالسليم» مهما ارتكبت يداه. الولاء مرتبط بانعدام المحاسبة في بعض الأحيان. استراتيجيّة تضمن للمنظومة درجةً من التماسك والتعاضد، مهما اشتدّت العواصف. أكثر ما يمكن أن يحصل هو عدم التجديد لوزير أو محافظ أو مدير العام، ولا يحلمنّ أحد بمستوى أعلى. روح عالبيت بما نهبت، وعليك الأمان.
لا جدوى من المحاولة و«اصطياد الأشباح»؟ بالتأكيد لا. في مسلسل «موجة حارّة»، يقول الضابط «سيّد العجاتي» (إياد نصّار): «النّاس بتتغير للأوحش. نحبسهم في زنزانة بين أربع حيطان وبيتغيروا للأوحش. يفضلوا محبوسين جوّا نفسهم. احنا رايحين فين؟ الناس رخيصة. الشرف رخيص. القانون بقى عجينة. العدالة كدبة. القاهرة بتغوص في الوحل. والعاهرة أشرف من السجّان». نسترجع المشهد الساحر، مع محاولة دحرجة الأمل من قاسيون نحو دمشق، ولو على سبيل الوهم. من قال إنّ معركة الحريّات والفساد سهلة أو بسيطة؟ المقارعة تعني عصر الروح. بذل عرق القلب. تحويل الحسرة والتذمّر إلى طاقة تمرّد ورفض. صحيح أنّ الفوز العمليّ غير مضمون، لكنّه كالوردة في كتاب عتيق، عند وضع أبسط الإنسانيّات على الطاولة. إذاً، فلتشحذ الأقلام ضدّ الصمت على الأقل، ولنركل بعض المؤخرّات.

*«مرّ الكلام» مساء كلّ خميس على «سوريانا إف إم».