تعدّ أعماله مرجعاً في ما يتعلق بنشاط الحركة الصهيونية. الباحث المقيم في لندن، تعرّض لحملات شرسة نتيجة قراءته النقدية للأسطورة الصهيونية. ها هو يعود اليوم بكتاب فريد يحمل عنوان «أكبر سجن في العالم - تاريخ الاستعمار الاستيطاني منذ عام 1967». العمل إضاءة على السياسة الاسرائيلية إزاء الضفة الغربية وقطاع غزة. سياسة رمت إلى السيطرة على ملايين الفلسطينيين ضمن سجن مفتوح على مدى خمسين عاماً. يعود بابه إلى زمن النكبة، مراجعاً الاستراتيجيات الاسرائيلية على الأرض الفلسطينية. ويشدد في أماكن مختلفة في العمل على أنّ الاحتلال الكامل لفلسطين وتفريغها من شعبها، سيظلان المسعى الاول على لائحة أهداف الكيان العبري

إيلان بابه (1954) عالم كبير في تاريخ فلسطين السياسي الحديث. مؤلفاته تنشر في أنحاء العالم كافة، وتعد المرجع في ما يتعلق بنشاط الحركة الصهيونية، ومن بعدها كيان العدو، لاغتصاب فلسطين وتحويلها إلى كيان يهودي إشكنازي عنصري.

مؤلفه «التطهير العرقي في فلسطين» عام 2006 (صدرت ترجمته العربية عام 2007 عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» ـــــ بيروت) الذي يؤكد صحة التاريخ الفلسطيني الشفهي المتعلق بعملية التطهير العرقي التي قامت بها الحركة الصهيونية في فلسطين، أثار عاصفة لن تهدأ، وعاصفة مضادة أطلقتها عليه الدوائر الصهيونية والمتحالفة معها في الغرب الاستعماري داخل كيان العدو وخارجه. كانت تلك محاولة لتشويه سمعته العلمية والشخصية، مما اضطره لمغادرة كيان العدو للعمل أستاذاً باحثاً في «جامعة إكستر» البريطانية.
بعدها، أطلق مؤلفاً مهماً آخر هو «خارج الإطار» الذي صدر في طبعة عربية في دمشق، روى فيه خفايا الحملة التي تعرّض لها بعد صدور مؤلفه آنف الذكر، وكذلك خفايا العالم الأكاديمي في كيان العدو، ومدى سطوة استخباراته عليه.
للصورة المكبرة انقر هنا

العالِم لا يمل ولا يعرف الكلل، من النضال الفكري دفاعاً عن حقوقنا، نحن الفلسطينيين والعرب، في فلسطين وفضح تزوير كيان العدو للحقائق المتعلقة بالقضية الفلسطينية ككل، وبتفرعاتها. وها هو يعود ليطل علينا في مؤلف فريد من نوعه يحمل عنوان «أكبر سجن في العالم - تاريخ الاستعمار الاستيطاني منذ عام 1967»
(The Biggest Prison on Earth: The History of the Israeli Occupation. one world, 2017).
اعتماداً على الوثائق الأصلية ذات العلاقة التي رفعت السرية عنها، يثبت بابه أنّ «احتلال» كيان العدو بقية فلسطين [الانتداب]، في عدوان عام 1967 لم يكن دفاعاً عن النفس، وإنما جرى وفق خطة عامة طرحتها الحركة الصهيونية في ثلاثينيات القرن الماضي، تم تطويرها على نحو مستمر وفق التطورات الميدانية والإقليمية والعالمية. وكان أحدثها في عام 1963 خلال اجتماع عُقد في القدس [الغربية] المحتلة عام 1948 حضرته مجموعة من خبراء العدو القانونيين والحقوقيين والأكاديميين من الجامعة العبرية، والعسكريين ووزارة الداخلية والاستخبارتيين ذوي الخبرة في قمع الفلسطينيين الذين لم يتم طردهم من بلادهم، ومحاصرتهم، استعداداً لاحتلال بقية فلسطين الانتداب، التي يطلق عليها فلسطين التاريخية. وقد وضعت تلك المجموعة خطة احتلال الضفة وكيفية إدارتها، وقدمت لرئاسة الأركان في أول أيار (مايو) عام 1963، وهدفت لتحضير جيش العدو لاحتلالها وإدارتها عسكرياً.
يلفت الكاتب إلى أنّ النقاش حول احتلال «الضفة» بدأ في عام 1956 إبان ما يسمى «حملة سيناء»، التي انطلقت جزءاً من العدوان الثلاثي على مصر.

احتلال شرق نهر الأردن كجزء
من «أرض إسرائيل التوراتية»


كما يلفت الكاتب إلى حقيقة أن كيان العدو عاد لبحث تفاصيل احتلال «الضفة» في ستينيات القرن الماضي ووضع خطة لذلك، عندما بدا أنّ نظاماً تقدمياً معادياً للاستعمار في الأردن سيستبدل بنظام حسين بن زين، ما يعني تهديداً حقيقياً لكيان العدو، وفي الوقت نفسه أن نظام عمان كان أفضل ضمانة أمنية له.
يوضح الكاتب أنّ قرار الحركة الصهيونية عدم احتلال الضفة عام 1948 يعود إلى اتفاق مع نظام عمان القاضي بتقاسم فلسطين [الانتداب] بينهما. لكنها كانت قد وضعت خطط الاحتلال اللاحق، وما زال العدو يخطط لاحتلال شرق نهر الأردن الذي يعده جزءاً من «أرض إسرائيل التوراتية».
الخطة الأخيرة أطلق عليها «خطة شكم» shacham plan، لكن المدعي العام العسكري أطلق عليها اسم «الخطة غرانيت/ الإسمنت»، وقد قامت على أساس تقسيم «الضفة» إلى ثماني مقاطعات. كما تم وقتها، أي في عام 1963، تعيين الحكام الإداريين لتلك المقاطعات، ومنهم حايم هرتسوغ الذي صرف من الخدمة العسكرية ورقّي إلى رتبة جنرال وعُيِّن حاكماً عاماً للضفة، التي كان سيتم احتلالها بعد أربع سنوات.
في الوقت نفسه، بدأت استخبارات العدو العسكرية بوضع لائحة بأسماء الشخصيات والمؤسسات والمنشآت ذات العلاقة في الضفة والقطاع. إضافة إلى ذلك، وضع دليل عام لكيفية التعامل مع الأراضي التي سيتم احتلالها و«تطهيرها» من العناصر المعادية النشطة، بهدف خلق قيادة محلية متعاونة مع الاحتلال.
في الوقت نفسه، قامت اللجنة في أيار (مايو) عام 1967 بتعيين الحكام العسكريين والإداريين للضفة التي سيتم احتلالها، إضافة إلى وضع خطة لتغيير النظام الذي كان قائماً في سوريا في ذلك الحين.
من الأمور الواجب ذكرها في هذا العرض المختصر تأكيد الكاتب على أن كافة الأنظمة والتشريعات التي وضعت في عام 1948 ومن ثم وضعتها تلك اللجنة، تعود إلى زمن الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد أدانتها الحركة الصهيونية في ذلك الحين ووصفتها بأنها «أنظمة لم يتجرأ حتى النازيون على الأخذ بها، ولا سابق لها في نظام متنور».
للصورة المكبرة انقر هنا

من الأنظمة التي أخذ بها العدو، وما زالت سائدة إلى يومنا هذا من زمن الاحتلال البريطاني رقم 109 الذي يسمح للحاكم بطرد السكان، ورقم 110 الذي يسمح له باستدعاء أي شخص كان، ورقم 111 الذي يسمح بالاعتقال الإداري من دون محاكمة ولفترة غير محدودة.
الهدف من الخطط التي وضعها كيان العدو لتفاصيل إدارة الأراضي التي سيتم احتلالها، تأسيس أكبر سجن في العالم (mega prison)، دوماً وفق تعبير الشخصيات الصهيونية، وحبس سكانها فيه مدى الحياة، وهو نتاج طبيعي لتاريخ الصهيونية وعقيدتها.
في مقطع آخر من الكتاب، المهدى إلى كل العاملين من أجل تنبيه البشر من ذوي محاسن الأخلاق إلى أهمية عدم الوقوف متفرجين بينما تتم معاملة ملايين البشر على نحو لاإنساني وتجريدهم من آدميتهم، يبين الكاتب أن كيفية سيطرة كيان العدو على «الضفة والقطاع» شكلت أحد أسس الفكر الصهيوني، ولم تكن نتيجة ظروف الاحتلال كما يدعي قادته. الهدف هو تهويد الضفة كما تم إنجازه في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
الخطط والممارسات التي وضعها كيان العدو للأراضي الفلسطينية التي سيتم احتلالها عام 1967، هدفت إلى حصر سكانها الفلسطينيين في بانتوسانات متفرقة (انظر الخريطة) بعدما تبين عدم إمكانية طرد كل السكان منها. يبين المؤلَّف أنّ العدو طرد أكثر من مئة ألف فلسطيني عبر الأردن من بيوتهم وقراهم وأحيائهم (أشهرها حارة المغاربة في القدس بمحاذاة حائط البراق المسمى حائط المبكى أو حائط الهيكل الثاني، وكذلك طولكرم وقلقيلية واللطرون وبيت نوبا وعمواس ويالو وإريحا).

كيفية السيطرة على «الضفة والقطاع» شكلت أحد أسس الفكر الصهيوني، ولم تكن نتيجة ظروف الاحتلال

هدف الخطة كان الاحتفاظ بالأراضي المحتلة مع عدم طرد السكان كافة، لكن من دون منحهم التبعية الإسرائيلية، وهو ثالوث العدو المقدس المعمول به إلى يومنا. بذلك، وجب محاصرة الفلسطينيين في مناطق إقامتهم في جيوب متناثرة وفق استراتيجية أطلقت عليها تسمية «التكييس» (encystation).
في قسم آخر من المؤلف، يبين الكاتب أن احتلال كيان العدو بقية أنحاء فلسطين الانتداب لم يكن رداً على أي تهديد لأمنه وإنما تنفيذاً لخططه ذات البعد الايديولوجي. كما يوضح أن قيام مصر بحشد قواتها في سيناء قبيل عدوان عام 1967 تم اعتماداً على حقيقة وصل إليها السوفييت بأن العدو الصهيوني يخطط لحرب على سوريا. إذ كانت تحركات قواته البرية والجوية وكثافتها بجوار حدود سوريا الجنوبية، تتجاوز ما هو مطلوب إعداده لعملية محدودة. أي أن العدوان كان مبيتاً وعن سابق إصرار وتصميم.
من ناحية أخرى، يبين الكاتب قناعة قادة العدو بأن جيوش مصر وسوريا والأردن لم تكن قادرة على تهديده، وكذلك القيادة الأميركية التي أبلغته قناعتها بأنه في حال اندلاع حرب، فإن «إسرائيل» ستسحق الجيوش العربية مجتمعة. كما يبين أن الرئيس جمال عبد الناصر، لم يكن ينوي شن حرب على كيان العدو الصهيوني، وإنما استعراض قوة تضامناً مع سوريا، واتخاذه مجموعة من القرارات منحت العدو مسوغات لشن الحرب، مذكراً بأنه أبدى عام 1953 استعداده للتصالح مع العدو، في رسالة إلى عبد الرحمن صادق الملحق الصحافي في السفارة المصرية في باريس. الأخير بدأ بدوره محادثات سرية مع نظيره في سفارة العدو، وطلب مساعدة تل أبيب في تحقيق انسحاب القوات البريطانية من بلاده!
يطلق الكاتب على أراضي «الضفة» المحتلة صفة «بَنُبتِكُم» panopticom، وهو صنف من السجون ابتدعه المنظر الاجتماعي جيريمي بنثم في القرن الثامن عشر، يسمح لحارس واحد بمراقبة كافة السجناء، لكن من دون أن يتمكنوا هم من رؤيته، وبالتالي ليس بمقدورهم معرفة ما إذا كانوا خاضعين للمراقبة في أي لحظة كانت.
للصورة المكبرة انقر هنا

من الجوانب الأخرى التي يتعامل الكاتب معها في مؤلفه رأيه بعدم صحة وصف «الضفة» والقطاع على أنها أراض «محتلة»، مع أنه شائع الاستعمال. سبب رفضه ذلك قوله إن الاحتلال أمر مؤقت، وأنه يعطي انطباعاً بوجود فصل بينها وبين «إسرائيل». إضافة إلى ذلك، فإن الكلام عن أراض محتلة يمنح الاحتلال الصهيوني عام 1948 شرعية. الأمر الآخر المرتبط بإطلاق صفة الاحتلال هو أن ذلك يعني قيام دولة بإدارة أراضي دولة أخرى لفترة مؤقتة عقب اندلاع أعمال حربية. أراضي الضفة لا يمكن أن ترتبط بالطبيعة المؤقتة للاحتلال. الأمر الآخر أن فرض الحكم العسكري على الأراضي المحتلة يتم لفترة محدودة للغاية. لهذا كله، يدعو الكاتب إلى البحث عن مصطلح مناسب، ويلفت الانتباه إلى الاستخدام المتزايد لصيغة «الاستعمار الاستيطاني» الذي يهدف إلى التخلص من السكان الأصليين.
من جانب آخر، وفي نقد غير مباشر لسياسة التفاوض، يوضح الكاتب أن النشاط الدبلوماسي القائم مَنَحَ «إسرائيل» فرصة ترسيخ قبضتها على «الضفة» وتقويتها، وسيطرتها على الأرض والبشر المقيمين فيها، وتمكنها من تحقيق حصانة من جرائمها. بناء على ما سبق، يرى الكاتب ضرورة استحداث قاموس ومفردات جديدة عند الحديث عن ممارسات العدو. فكل ما قام به عبر ما يسمى النشاط الدبلوماسي والمفاوضات، هدف إلى تثبيت وضع الأراضي الفلسطينية وسكانها وليس إلى الوصول إلى تصالح مع الشعب الفلسطيني. لذلك، فإن هذا المؤلف تسجيل لتاريخ المحتل وليس لتاريخ الأراضي.
من منظور الكاتب ورؤيته لحقائق الوضع، فإنه يرى أن هدف إقامة المستعمرات في الضفة ليس نتاج عقدي صهيوني وإنما لتثبيت أكبر سجن في العالم. فهدف المستعمرات هو حصر الفلسطينيين في مناطق محددة منفصلة عن بعضها البعض. بالتالي، وفي استنتاج منطقي، فإن الكاتب يؤكد أن هدف المساعدات الدولية للأراضي، هو خفض مصاريف المحتل وتحريره من مسؤوليته تجاه سكانها، الذين يشير العدو إليهم بصفتهم «المقيمين».
يتطرق الكاتب أيضاً إلى اقتصاد الاستعمار الاستيطاني بعدما قرر سياسته القائمة على العقيدة الصهيونية، أي خلق بانتوسانات متناثرة ضمن سجن «بَنُبتِكُم» الذي يضم السكان الفلسطينيين. لكن بما أن الاحتفاظ بالأراضي أمر مكلف بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، فكان لا بد من خلق حقائق تستند إلى المساعدات الآتية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما كان من الضروري الافادة اقتصادياً من الأراضي المستعمرة استيطانياً عبر احتكارها والإفادة من الأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة. وهذا ما يشرح سبب إصرار كيان العدو على الإمساك بالسياسة الاقتصادية للأراضي الفلسطينية المستعمرة استيطانياً عام 1967.
مؤلف العالم الكبير إيلان بابه المعادي للصهيونية على جانب كبير من الأهمية، إذ يعكس تفاني الكاتب واهتمامه بحقوقنا الوطنية والقومية في فلسطين. هو يناقش الكثير من القضايا الأخرى ذات العلاقة بالاستعمار الاستيطاني في الضفة، كما يتبين من فصوله الآتية: «إعادة قراءة رواية الاحتلال»، «اختيار طريق الحرب»، «ابتكار أكبر سجن في العالم»، «القدس الكبرى كمشروع مرشد»، «رؤية آلون»، «مكافآت اقتصادية وانتقامات عقابية»، «التطهير العرقي في حزيران 1967»، «إرث حكم المابام 1968-1977»، «بيروقراطية الشر»، «على طريق الانتفاضة 1977-1987»، «الانتفاضة الأولى 1987-1993»، «أوسلو اللغز والانتفاضة الثانية»، «أقصى درجات الأمن المشددة - أنموذج سجن: قطاع غزة».