لا يتوقف العدو عن بذل الجهود الهائلة بالتعاون مع الولايات المتحدة الاميركية، والحلفاء من العرب، لإنتاج تسوية هدفها التخلص من شيء اسمه «القضية الفلسطينية». لكن المعوقات لا تتصل فقط بالصعوبات التي تواجه العدو نفسه، أو التراجع الذي يصيب المحور الحليف له في المنطقة، بل، وكما في كل مرة، تعود مشكلة الاحتلال إلى أن الشعب الفلسطيني لم يستسلم بعد.
ورغم كل ما مرّ به من صعوبات ناجمة عن مسارات خاطئة للبعض، أو تقديرات خاطئة لمتطلبات المواجهة، فإن الشعب الفلسطيني يعطي من يهمه الأمر كل الإشارات إلى كونه في حالة جاهزية كاملة، لاستئناف مقاومته للاحتلال بكل الوسائل المتاحة. وإذا كان من الصعب اليوم جمع كل المعنيين بالقضية على طاولة واحدة ولهدف واحد، إلا أن قيادات كثيرة، لها تجربتها الطويلة في الصراع مع العدو، لا تزال قادرة على تشخيص الواقع بصورته الحقيقية، واستنتاج الخلاصات التي تصبّ في سياق تجديد العمل الثوري داخل الاراضي المحتلة.
ومن بين هؤلاء، القيادي الفلسطيني منير شفيق «أبو فادي». ورغم أنه لم يعد في موقع المسؤولية، ولا يتولى منصباً مباشراً في العمل اليومي، لم يغيّر ذلك في واقع كونه مشاركاً أساسياً في تفسير ما يجري على أرض فلسطين، واستكشاف احتمالات الانتفاضة والعمل الثوري، وجلاء الديناميكيات الواعدة التي أشعلتها عمليات شعبية بطولية ضد الاحتلال، كانت السكاكين والطعنات الاستشهادية عنوانها منذ عامين


برأي القيادي الفلسطيني منير شفيق، فإن «التقدير بوجود وضع ثوري في فلسطين يتأسّس على وقائع كثيرة، أولاها عدم الانقطاع في المقاومة الشعبية الشبابية منذ اندلاعها قبل عامين، رغم ضريبة الدمّ التي دفعها ٢٤٠ شهيداً، بين الطعن بالسكاكين والدهس، والعمليات العسكرية الفجائية». ويشير إلى أن الحاضنة الشعبية التي أعادت ترميم نفسها في مجرى العمليات، وأحيت الصلة مع العمليات الاستشهادية، عبّرت عن نفسها «عندما كانت تلقى كل حالة استشهادية استقبالاً يحيي ويساند ويرضى بما جرى، بين الأهل والآباء والأمهات، حتى إن العدو الذي يخشى امتدادها، كان يواجهها باحتجاز جثامين الشهداء. وعندما فتحت معركة المسجد الأقصى، نزلت الجماهير بالآلاف للدفاع عنه، وتحدّت الجيش الصهيوني داخل القدس، وتراجع الكيان الصهيوني تراجعاً هائلاً، وتراجع معه المطبّعون العرب، واضطروا إلى الضغط على بنيامين نتنياهو. إذا لم يكن ذلك وضعاً ثورياً فلسطينياً، فماذا يكون إذن؟».
أما بشأن عدم وجود قائد أو قيادة تجمع عناصر الحراك القائم، أو عدم وجود حزب أو إطار، فذلك لا يبدو عند شفيق شرطاً لا بد منه: «ما كانت القيادة الثورية شرطاً مسبقاً في أي صراع. التجربة اللينينية وبعض الثورات الأخرى أوحت بها، ولكن ثورات كثيرة قامت من دون انتظار القيادات، وبعضها فشل حتى في ظل وجود قيادات. وعندما قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لم تقف خلفها أي قيادة، وقد فوجئ الكثيرون بقيامها أصلاً.

مشى في جنازة مهند الحلبي أكثر
ممّا سار خلف
نعش عرفات
وبرزت قيادات لم تكن معروفة في تلك المرحلة. حتى إن الثورات الكبرى، كالثورة الفرنسية نفسها، لم تكن لها قيادة معروفة، ولكن شخصيات ثورية انضمت إليها».
ويضيف: «إن فشل الثورات التي وقعت في مصر وتونس لم يكن بسبب غياب قيادات أو أطر، بل وقع الفشل لأسباب أخرى. عوامل الانتصار نفسه لا تتوقف على وجود قيادة ثورية، وهو ليس قانوناً ثابتاً. قد يكون ضعف العدو وتناقضاته وتضافر ذلك مع أوضاع إقليمية ودولية هو أحد أسباب الانتصار».
يتوقف أبو فادي عند ما يسميه «الضعف البنيوي الذي أصاب الجيش الصهيوني»، لشرح عجزه المستجد في تحقيق الانتصارات، وتبلور عناصر جديدة لانتصار الانتفاضة. فالانتصارات التي تراكمت ضد الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان، فانسحاب إسرائيل غير المشروط من بعض المستوطنات على أطراف غزة، واندحارها الكبير في حرب تموز 2006 وحروب 2008 – 09 – 12 -14 مع المقاومة في قطاع غزة، عكس تراجعاً وضعفاً في قدرة الجيش الصهيوني على تحقيق انتصارات عسكرية كالماضي. ويقول: «تحول الجيش الصهيوني خلال ٢٥ عاماً من الصراع مع المقاومة من جيش منظّم إلى قوة شرطة تطارد المقاومين بدلاً من مواجهتهم في معارك كبرى. وهو لم يعد جيشاً ميدانياً من الطراز الذي كان عليه، وقادراً على خوض الحروب كما في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. الفساد الذي يضرب قمة الهرم في المؤسسات العسكرية والسياسية الإسرائيلية، هو سبب أساسي في تراجع قدرة العدو على المواجهة».
ويلفت شفيق إلى سبب آخر يتصل بـ«التحول في التركيب البنيوي للسياسة في إسرائيل، حيث لا يمكن مقارنة القيادات السياسية الحالية بأسلافها، خصوصاً تلك التي قام على أيديها الكيان الصهيوني، والتي جاء معظمها من حركات اشتراكية غربية تملك خبرة ومعرفة بالعالم، وفي خوض المعارك. من يقود إسرائيل اليوم هو طبقة سياسية متخلفة ومعزولة، مثل أفيغدور ليبرمان، وهو حارس ملهى ليلي مدة ١٥ عاماً، أو بنيامين نتنياهو، ولا يمكن مقارنتهما مع قيادات مثل بن غوريون أو موشيه شاريت وإسحق رابين، حتى إن المستوى الاخلاقي لهذه القيادات قد تراجع حتى بالمقاييس الصهيونية».
أما حول اختلاف الوضع الحالي عن التجارب الثورية الفلسطينية والانتفاضات التي سبقته لناحية عدم ظهور وجوه تجدد في العمل الوطني الفلسطيني كما حدث مع أسماء ارتبط صعودها بالانتفاضات، مثل فيصل الحسيني ومروان البرغوثي وأحمد سعدات، فإن شفيق يعتقد أن الأمر بالعكس: «اليوم ليس هناك أكثر من القيادات لأي انتفاضة إذا ما اندلعت، فالفصائل كلها توجد هناك، من حماس إلى الجهاد الاسلامي، الى الشعبية فالديمقراطية وفتح. عبقرية هذه القيادة تتفتح أولاً عندما يتخذ أي شاب أو صبية قرار المواجهة من دون العودة إلى أي مرجعية، مع علمه بأنه لن يعود. لماذا يحدث ذلك؟ لأن هناك أزمة في القيادات التقليدية التي كانت تقود النضال، وارتبكت وتعطلت بعد أوسلو ومجيء محمود عباس، والتنسيق الأمني. عندما أدرك الشباب أن لا مقاومة تصدر عن هذه القيادات، تحولوا هم إلى المقاومة. لأن المقاومة سلوك وعبقرية. ثم إن المقاومة لا تقتصر على الشباب، عائلاتهم هم أيضاً منخرطون فيها. لقد مشى في جنازة الشهيد مهند الحلبي أكثر ممّا سار خلف نعش ياسر عرفات. على ماذا يدل ذلك؟ هذا يدل على أن هناك طلباً شعبياً على المقاومة».







العائق الأساسي أمام سيناريو الانتفاضة لا يزال قائماً بنظر شفيق، وهو «ثنائي السلطة والتنسيق الأمني». ويضيف «إذا ما سلّمنا جدلاً بأن الجماهير نزلت الى الشوارع واستطاعت شلّ هذا الثنائي، عندها يمكن رسم سيناريو عسكري من الخيال. وإذا تصورنا أن الجماهير صمّمت على البقاء في الشوارع أياماً وأشهراً، وارتبك الجيش الصهيوني الذي لن يكون قادراً على مواجهتها بالنار والمجازر كما بيّنت المواجهات في الأقصى في القدس، فإن المشكلة ستتضاعف... فالسؤال سيكون: ماذا سيحدث لاحقاً؟
السيناريو الذي يتوقع شفيق له النجاح يختصر في رؤية أن الإسرائيلي أصبح ضعيفاً جداً في العقدين من المواجهات، «لن يتحمل العدو مواجهة شعبية مديدة من هذا النوع. الجيش الصهيوني سيكون أمام مشكلة إزاء الضغوط التي سيواجهها، فهو لن يكون قادراً على قمعها، لأنها ليست عملية عسكرية، كما لن يكون قادراً على الاستسلام أمامها». ويشترط شفيق لنجاح هذا السيناريو رفع مطالب محددة، وأن لا يكون بينها مطلب إقامة الدولة. بل يعتقد أن الشعار الأهم هو دحر الاحتلال، وهو مطلب لن يستطيع أحد من العرب والعالم الوقوف ضده أو حجب التأييد عنه، سيخرب الأمن، وتزدهر العمليات العسكرية، وسوف ينسحب العدو لأنه لن يقدر على التفاوض لعجزه عن القبول بدولة فلسطينية، ولنتذكر ما فعله عندما قرر الانسحاب من مستوطنات غزة من دون مفاوضات كي يتجنّب الاعتراف بأنها أرض فلسطينية، وليست أرض إسرائيل، ويفضّل حتى الآن فضّ الاشتباك على انسحاب مرفق باعتراف بفلسطينية الأرض. وهذه مشكلة ظهرت في أوسلو. حتى إسحق رابين، وشيمون بيريز رفضا النص على الانسحاب من المنطقة «أ»، وتحدثا عن إعادة الانتشار، وكلها تجنّب إسرائيل الاعتراف بأن الأرض فلسطينية وليست إسرائيلية، كي يضمنوا أيضاً العودة إليها في ما بعد».

العائق الأساسي أمام سيناريوالانتفاضة
هو ثنائي السلطة والتنسيق الأمني

من عناصر الوضع الحالي في تحليل منير شفيق أيضاً، يلتقي ضعف السلطة الفلسطينية وفرضية شللها مع سؤال أين نحن الآن؟ جواب شفيق يتضمن ملامح استراتيجية هجومية غير مسبوقة: «السلطة ضعيفة جداً، كل مشروعها السياسي محطم. ورغم ذلك لا تريد انتفاضة. ولكن إذا تكررت أحداث الاقصى، وإذا ما نفذت أميركا وعدها بنقل السفارة إلى القدس، فستتكوّن عوامل كبيرة تحرك الشارع مجدداً، لن يستطيع أحد إيقافه. للمرة الأولى منذ عقود، نحن أمام فرصة لصياغة الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، وصياغة استراتيجية هجومية ضد الكيان الصهيوني. هذه الفكرة غير مطروحة لدى القيادات الكثيرة التي لا مثيل لعددها في ثورات العالم. والمشكلة أن واحدها يعتبر نفسه قيادة تاريخية وشعبية من الطراز الأول، لكنه في المقابل لم يعد يؤمن بالقوة الشعبية، يعني أنّه لا يؤمن بالانتقال إلى استراتيجية هجومية».
ويرى شفيق أن «الحياة لا تزال تحفظ أشكالاً من الانتفاضة؛ أنا أرى أن هذه الامكانيات كبيرة جداً، وأن عدونا ضعيف جداً، وأراهن أنه عاجز عن قمعها. وإذا كان البعض يشكك في ضعف العدو، فالجواب هو: إذا كان العدو يقدر على القمع فليتفضل، لماذا لم ينفّذ ذلك في القدس، وهي تعدّ أهم المناطق التي يملكها؟».
ورداً على أن العدو يعمل على تهويد القدس منذ احتلالها عام 1967، يرد شفيق «إذا ما نزل شعبنا إلى الأرض، وبدأ الجيش الإسرائيلي بإطلاق الرصاص عليه، فستقوم الدنيا عليه ولن تقعد. الدم الفلسطيني صار غالياً كثيراً، والشهيد الفلسطيني قيمته كبيرة، عكس القتلى في البلاد العربية الذين تحولوا إلى أرقام لا يسمع بها أحد. الدم الفلسطيني لا يمكن أن يسفك من دون نتائج».
أما عن تأثير ما يحصل من حول فلسطين، وتراجع الوضع العربي، فإن لشفيق قراءة مغايرة، تنطلق من اعتباره الضعف العربي الرسمي ضعفاً آخر لإسرائيل. ويقول «هل يستطيع المهرول العربي إلى إسرائيل الاستزادة في الهرولة إذا ما قامت الانتفاضة، لأنه في هرولته يحتاج إلى شرعية ما وغطاء؛ ما إن قامت انتفاضة الأقصى، حتى تسابق السعوديون والمصريون إلى احتضان ما يجري، حتى الملك سلمان ادّعى أنه أوقف إسرائيل وفرض إزالة الحواجز في مداخله».
ويدعو منير شفيق إلى النظر إلى مجمل النضال الفلسطيني وكيف تعامل معه الوضع الرسمي العربي: «كل النضال الوطني الفلسطيني لم يقف موقفاً سلبياً من العرب. كلما كان الوضع الرسمي العربي قوياً، كان يكبت النضال الفلسطيني بشكل أو بآخر، وعندما كان الوضع العربي قوياً، لم يكن يلائم الانتفاضات الفلسطينية. أما في ضعفه الحالي، فيتحوّل إلى محفّز أكبر لقوة فلسطينية صاعدة، وإلا كيف صمدت غزة في كل الحروب التي تعرضت لها، وكيف يحتمل الجيش الصهيوني بقاء حزب الله في خاصرته الشمالية في جنوب لبنان، وهو قوة متواضعة مقارنة بالجيش الصهيوني. يعني ذلك أن ضعفاً كبيراً ما بدأ يتسلل إليه».