مرّت سبعون عاماً على قرار «تقسيم فلسطين» في الأمم المتحدة. سبعون عاماً وما زال الشعب الفلسطيني يرزح تحت أشكال مختلفة من التطويع والقهر والإبادة على يد المحتلّ الإسرائيلي ودول غربية وعربية متعاونه معه، إضافة إلى «سلطة» خانعة ومطبِّعة. إذ للشعب الفلسطيني ثلاث سمات تتصل بحاضره ومستقبله.
هو ساحة صراع؛ وهدف للمخططات الاستعمارية؛ وهو أيضاً في الموازاة القوة الرئيسية ورأس الحربة، في مواجهة المحتل. هو ساحة صراع وتجاذب بين معسكرين. بين من يرى أن لا سبيل لتحرير فلسطين، فضلاً عن تحقيق أي انجازات مرحلية أخرى مفترضة، إلا من خلال المقاومة عبر تدفيع الاحتلال أثماناً لا يطيقها؛ وبين معسكر آخر ملتزم السقف الأميركي والإجماع الإسرائيلي، إضافة إلى حاجات مراهقين جدد على الساحة الإقليمية، طامحين إلى الملك على حساب فلسطين والقضية الفلسطينية. وهو هدف للمخططات الاستعمارية، بمعنى أن كل مخطط يستهدف اسقاط القضية الفلسطينية، وتحييدها عن الاهتمام العام، لا يمر من دون تطويع الشعب الفلسطيني وقضيته. وهو أيضاً رأس الحربة في الاشتباك مع المحتل على أرض فلسطين. وهو باستطاعته أن يعيد فلسطين إلى الصدارة من خلال بضع عمليات تستهدف المحتل لتربك كل المسارات والمخططات. الشعب الفلسطيني في الموقع المتقدم في مواجهة الاحتلال، ومهما تعاظم العمق الاستراتيجي لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي على أرض فلسطين، (قوى محور المقاومة)، فإن القناة التي تترجم هذه القوة نفسها بهدف التحرير، هي الشعب الفلسطيني وعبره



ما زال الشعب الفلسطيني هدفاً رئيسياً لأي مخطط يستهدف تصفية قضيته. أي ترتيب يستهدف شرعنة الاحتلال وتحويله إلى جزء طبيعي من المنطقة، لا يمكن أن يمر إلا عبر تطويع هذا الشعب. والمفارقة التي تشهدها قضية فلسطين، أنه في حال تعزّز محور المقاومة وخيارها الاقليمي، تتزايد حاجة إسرائيل والمعسكر الغربي والعربي التسووي، لإحكام الطوق على الشعب الفلسطيني.
أيضاً، في حالة ضعف الأنظمة العربية و/أو ازدياد تساوقها وتماهيها مع خطط الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه تصفية القضية الفلسطينية، يزداد استهداف الشعب الفلسطيني لعزله وتطويقه وتيئيسه، بخيارات تزرع وتعمّق فيه الاحباط، الأمر الذي يمهّد إلى فرض صيغة إسرائيل للتسوية من دون مراعاة حتى للحد الأدنى من حقوقه.
المفارقة أن الواقع الاقليمي، بمحوريه، في تسابق نحو فرض خياراتهما. وانتصارات محور المقاومة، تدفع تل أبيب وواشنطن والرياض... للمسارعة إلى شرعنة الاحتلال وتصفية القضية الفلسطينية، ومن شأن الهرولة الخليجية والعربية التسووية، أن تعزز أمل الإسرائيلي في فرض شروطه ومطالبه لتسوية، أقل ما يقال عنها أنها تسوية إنهاء القضية الفلسطينية، برعاية عربية.
واضح أن وجود الشعب الفلسطيني في وطنه، كان منذ اللحظة الاولى، في موقع النقيض للمشروع الصهيوني، ما حتّم على الصهاينة التخطيط للتعامل مع هذا في كل مرحلة من مراحل الاحتلال عبر السنوات الماضية. في البداية، أدرك المؤسسون الصهاينة الأوائل حجم العقبة التي يشكّلها الوجود الشعبي الفلسطيني أمام إقامة اسرائيل. وتكفي إطلالة بسيطة على حقيقة أن اليهود الصهاينة، كانوا يشكلون نحو 33% من سكان فلسطين عشية اعلان الدولة عام 1948، نحو 650 ألف يهودي في مقابل نحو مليون و300 الف فلسطيني. تؤكد هذه الأرقام حقيقة أنه لم يكن بالامكان إقامة دولة اسرائيل من دون تهجير الشعب الفلسطيني، وهذا ما حصل في حينه، حيث تم تهجير نحو 750 ألف فلسطيني من المناطق التي خضعت لسيطرة إسرائيل، وبقي فيها نحو 150 ألفاً، باستثناء الضفة الغربية وقطاع غزة.

الأداء الاستيطاني يؤكد أن الهدف هو قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية


بعد توسع الاحتلال الإسرائيلي ليشمل كامل فلسطين التاريخية خلال حرب 67 (إلى جانب احتلال سيناء والجولان)، رأى المسؤولون الإسرائيليون أن الوجود الفلسطيني في الضفة والقطاع، مصدر تهديد على مستقبل الاحتلال وعلى الهوية اليهودية للدولة. من أجل ذلك، تمت دراسة عدة خيارات حول كيفية التخلص من الوجود الفلسطيني في تلك المناطق. وقبل أيام فقط، كشف في إسرائيل عدد من الوثائق الرسمية المتعلقة بحرب عام 67، بمناسبة مرور 50 عاماً على الحرب، أظهرت بشكل صريح السبل التي درسها المسؤولون الإسرائيليون لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، وتم اقتراح عدة طرق منها قطع المياه عنهم، والتضييق عليهم وغيرها من الوسائل.
بعد نحو عقدين على احتلال الضفة والقطاع، شكّل انطلاق انتفاضة الحجارة التي تميزت عن الانتفاضات الشعبية التي سبقتها، باتساع نطاقها، واستمرارها ومشاركة كافة شرائح وفصائل الشعب الفلسطيني، تجسيداً للمخاوف التي طالما سكنت في وعي القادة الاسرائيليين. خاصة وأنها نجحت في التحول إلى عبء ثقيل على الاحتلال، الذي لم تنجح كافة الاساليب التي اتبعها في قمعها واخمادها. أدى فشل أجهزة الاحتلال، إلى تضييق الخيارات أمام صانع القرار في تل أبيب، وعلى وقع تطورات دولية واقليمية، تبلور اتفاق أوسلو في حينه، كبديل يتحرر في ضوئه من أعباء الاحتلال واستمرار الانتفاضة، ومن دون أن يضطر إلى الانسحاب من كامل الضفة والقطاع.
انتفاضة الاقصى لاحقاً، جاءت ضمن السياق نفسه بوصفها انتفاضة شعبية ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، وجاءت لتعزز أيضاً حقيقة كامنة في الوعي الإسرائيلي، وهي أن الشعب الفلسطيني وبعد مضي عشرات السنين على الاحتلال، ما زال متوثباً للانقضاض والمطالبة بحقوقه.
على هذه الخلفية، بات الشعب الفلسطيني أكثر من ذي قبل، هدفاً لمحاولات تطويعه وتطبيعه، في ظل تعذر تهجيره الكامل، فكان لا بد من «انجاز» ما، يجسد من خلاله الشعب الفلسطيني قدراً وإن شكلياً من حقوقه وطموحاته وآماله. ليصار في موازاته وسياقه، وبناء عليه، على تطويعه بالكامل. فكان خطة أوسلو عام 1994، بداية هذا المسار، مع مماشاة فلسطينية، أقل ما يقال عنها أنها سقطة كبيرة جداً توازي في نتائجها، الانسياق الطوعي لمخططات الاحتلال.
مع ذلك، ورغم كل الأخطاء التي وقعت فيها القيادة الفلسطينية الأولى، إلا أنه كان واضحاً أن سقف الحل المرحلي المحدود، هو سقف النهاية بالنسبة لأغلب (أو كل) الاسرائيليين الصهاينة. وهو ما وضع مجمل قضية فلسطين، وهذا المسار، على منعطف مفصلي وتاريخي، الأمر الذي يفسر انتفاضة الرئيس الراحل ياسر عرفات على خياراته الابتدائية عبر تمكين وتسهيل انتفاضة الفلسطينيين، التي أدت لاحقاً إلى إزاحته، وإحلال قيادة ثانية، تحولت سريعاً إلى أداة بيد الاحتلال، ومقاول ثانوي لتحقيق مصالحه، وضرب خيار المقاومة والاكتفاء عملياً بقشور حل سياسي، لا يبدو أنه ممكن مع الاحتلال.
في موازاة ذلك، يراهن أصحاب خيار التسوية في الوسط الفلسطيني، على فرضية مُتوهَمة، تظهر مدى تغلغل اليأس في وعيهم من إمكان نجاح خياراتهم، لكن في الوقت نفسه الرضا باوهام تكفل لهم، نتيجة تطويعهم أمام الاحتلال، البقاء بعيداً عن خيار المقاومة. كان (وربما ما زال) الانطباع السائد في أوساط بعض النخب والسياسيين والرأي العام، أن استمرار الاحتلال سيضع إسرائيل أمام سيناريو الدولة الواحدة الذي يهدد هويتها اليهودية. وبالتالي مهما طال الأمد ستضطر إسرائيل إلى القبول بصيغة تنفصل فيها عن الشعب الفلسطيني كي يقيم دولته.
إلا أن الاداء الاستيطاني خلال 25 عاماً كان كافياً ليؤكد أن هدف الاحتلال هو قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية. ولم يكن ذلك، نتيجة خلل في التخطيط الاستراتيجي، أو سوء تقدير... وإنما ما غفل عنه الكثيرون – من نخب وسياسيين - هو أن تكريس الوضع الراهن هو خيار جدي بالنسبة لإسرائيل. بل يشكل بديلاً عن الدولة الواحدة التي يتحول فيها ملايين الفلسطينيين إلى مواطنين إسرائيليين وعن خيار الدولتين (بغض النظر عن الصيغة التي سيتم عبرها تأطيره وشرعنته (الوضع الراهن)).
التعبير الأدق الذي يكشف عن هذا الخيار الذي تنتهجه الحكومة الإسرائيلية وتؤكده الوقائع، هو ما صدر على لسان وزير الأمن السابق، موشيه يعلون الذي اعتبر أنهم والفلسطينيين مثل «توأم سيامي» وأن أياً من الطرفين لن يختفي، هذا يعني أن المسعى الإسرائيلي يهدف، وهو لا يرى، كياناً فلسطينياً قائماً بذاته، أو كياناً واحداً إسرائيلياً فلسطينياً، يذوب فيه الفلسطينيون بحيث يهددون فيه الهوية اليهودية للدولة. بل هو لا كيان واحد، ولا كيانان منفصلان ومستقلان بعضهما عن بعض، بحيث يبقى أحدهما (الفلسطيني) متصلاً بما يخدم اخضاعه، ومقيّداً بما يضمن مصالح الاخر (الصهيوني)، على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، ومنفصلاً بما لا يسمح له بالحد الادنى من الاستقلال والحرية، وبحسب متطلبات عدم الاضرار بالآخر (الهوية اليهودية للكيان الإسرائيلي).