شيفرة سيناء في أهلها. من شبه المستحيل دحر الإرهاب في سيناء بأي وقت منظور إذا لم يكن أهلها شركاء حقيقيين في الحرب التي تجرى على أراضيهم ويدفعون أثمانها من حياتهم واستقرارهم ومستويات معيشتهم.هم أدرى ــ من غيرهم ــ بشعابها وأسرار تضاريسها ومدى الاختراقات في بنيتها السكانية وأين التمركزات الإرهابية.
هذه مسألة معلومات ضرورية تتوقى الضربات قبل أن تقع وتساعد على كسب مثل هذا النوع من الحروب بأقل كلفة إنسانية ممكنة.

كما أنهم أدرى ــ من غيرهم ــ بكيفية تأمين المناطق السكانية وتوفير الدعم اللوجستي لقوات إنفاذ القانون حتى لا تباغت بفواجع جديدة. وهذه مسألة تغطية لازمة في أي مواجهات مسلحة، أو أي مداهمات لأوكار عنف وإرهاب. وفق شخصية مؤثرة من أهل المكان، فقد جرت 43 عملية إرهابية بذات النهج تخطيطاً وتنفيذاً على مدار السنوات الماضية، كأنها تستنسخ طبعة واحدة، من دون أن نتعلم الدروس الواجبة التي تقلل فواتير الدماء وتضع جماعات الإرهاب في زاوية النهاية. لماذا طالت الحرب على الإرهاب في شمال سيناء إلى ما يقارب الخمس سنوات من دون أن تتوافر مؤشرات مقنعة على قرب حسمها؟ بدت إجابته عن سؤاله صادمة: لأنه ليس هناك ثقة كافية في أهل سيناء، فهم متهمون في شرفهم الوطني، رغم التضحيات التي بذلوها في كل حروب مصر، والأدوار التي اضطلعوا بها في أحلك الظروف.
تلك أزمة ثقة نالت من أي قدرة على الحسم تعيد إلى شمال سيناء أمنه واستقراره.
تتنوع مصادر الأزمة وتتعدد أسبابها من دون أن نستمع بشفافية إلى شكاوى أهالي سيناء وأنينهم ومطالبهم، أو نعمل بجدية على خفض مستوى خطورتها وبناء جسور للثقة على أرض صلبة لا افتراضية.
وقد أعادت مجزرة مسجد «الروضة» طرح السؤال بإلحاح غير مسبوق مشفوعاً بطلب مشاركة في الحرب من قبائل شمال سيناء ونوابه في المجلس النيابي. باليقين، فإن المجزرة هي الأبشع والأكثر دموية في سجل الإرهاب الذي تتعرض له مصر، وقد كان ذلك داعياً لاستنفار قبائل سيناء طلباً للثأر.
بالأرقام الرسمية، بلغ عدد الشهداء الذين سقطوا أثناء أداء صلاة الجمعة في مسجد القرية القريبة من «بئر العبد» 305 شهداء، بينما يؤكد سكان المنطقة أن الرقم الحقيقي ربما يصل إلى 365، حيث لم يحسب الذين قتلوا في بيوتهم، أو في الطرقات، أو نقلوا إلى مستشفيات خاصة على نفقة ذويهم.
قد يكون هناك شيء من المبالغة بالأرقام المتداولة شعبياً، غير أنها تعبّر عن شعور طاغ بالفجيعة، وأن أهل سيناء جرى استباحتهم على نحو بشع يستهين بحرمة المسجد وآدميتهم نفسها.
تحت وطأة الفجيعة، بدأت مراجعات صاخبة. بعضها ينتقد الأداء الرسمي ويتهمه بالتقصير، حيث توالت إشارات تحذر من عملية محتملة في القرية من دون أن تتوفر أي حماية للأهالي، ولا اشتبكت القوات القريبة مع الهجوم الإرهابي.
وبعضها الآخر يدعو إلى حوار عاجل مع القيادات العسكرية العليا لـ«تنسيق عملية كبرى مع الجيش للإنهاء التام على الإرهاب الأسود» ــ وفق بيان «اتحاد قبائل سيناء» عقب اجتماع في منطقة «البرث».
البيان صيغ بدرجة عالية الغضب: «لا عزاء إلا بعد الثأر، سنقتلكم ولا تأخذنا بكم رأفة... ليس لدينا لكم محاكمات ولا سجون»، موجهاً خطابه إلى الجماعات الإرهابية المتمركزة في سيناء. الغضب المفرط مفهومة دوافعه، غير أن التعبير عنه يستحق تبصّراً بالمخاطر والمنزلقات. هناك فارق جوهري بين تنظيم الغضب في إطار قواعد الدولة وبين تفلّته عن أي قواعد تطلب الحسم لا الفوضى. طلب المشاركة في الحرب ــ بذاته ــ تطور جوهري ينزع عن جماعات العنف والإرهاب أي بيئة حاضنة في المجتمع القبلي. كأي أزمة، أو محنة وفجيعة، فإنها تنطوي على فرص بقدر مخاطرها. ثمة فرصة حقيقية تلوح في أفق سيناء لتصحيح العلاقات المتصدعة بين الدولة وأهلها وبناء شراكة مصير في الحرب على الإرهاب لا يصح أن تفلت بالإعراض، أو تضيع بالتجهيل.
حسب بيان عسكري عن ملاحقات بالطائرات للعناصر الإرهابية، التي شاركت في مجزرة المصلين، أنها استندت أساساً إلى معلومات من أهالي سيناء. إذا لم تكن هناك معلومات دقيقة يوفرها أهل المكان، لا يمكنك أن ترى ما حولك ولا من أين يداهمك الخطر. هذه حقيقة نهائية لا نعمل على استثمار طاقتها إلى آخر مدى بفوائض الكلام الطائش مثل الدعوة إلى إخلاء سيناء من السكان بدعوى محاربة الإرهاب.
مثل هذا الكلام يضرب في عمق الأمن القومي ويمهد لنزع سيناء عن الجسد المصري واستباحتها نهائياً لمتطلبات المشروع الصهيوني الذي يدعو إلى أن تكون وطناً للفلسطينيين بدلاً من أراضيهم أصحاب الحق فيها.
وقد أكدت وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية، جيلا جملئيل، ذلك المشروع بجلافة عنصرية في ندوة في القاهرة عن تمكين المرأة.
في المقابل، هناك كلام له وجاهته في التحفظ على شراكة أهل سيناء بالسلاح في الحرب مع الإرهاب خشية انفلاته لغير أهدافه في تصفيات ثأر قبلية، أو أن تفضي إلى انتقاص من هيبة الدولة المخولة وحدها بمهمة إنفاذ القانون وفرض سطوتها على كامل أراضيها.
مع وجاهة التحفظات وما تنطوي عليه من مخاطر محتملة، فإن إهمال طلب قبائل سيناء يهدر فرصة سانحة تخفض فواتير الدم وأحجام الخسائر في قوات الجيش والشرطة والمواطنين العاديين. القضية الحقيقية، البحث في العرض وتنظيمه تحت السيطرة الكاملة للدولة لا نفيه والتقليل من شأنه. فكل تحفظ له حل، وكل خطر له مخرج. ما هو أمني يضطلع به المعنيون بالأمر وفق ما يتوفر لديهم من معطيات تضبط التخطيط وتحكم التصورات. وما هو سياسي فهذا شأن المجتمع كله.
مصر بحاجة ماسة الى أن تفك شيفرة سيناء، وأن تصالح مواطنيها، تعترف بالقصور الفادح والأخطاء الكبرى التي ارتكبت ووفرت ملاذات آمنة للإرهابيين.
للمصالحة مقتضياتها وللجدية ضروراتها. بقدر شراكة المصير مع أهالي سيناء، تتأكد قدرة الدولة على حفظ أمنها القومي وحسم الحرب مع الإرهاب. الشراكة تمتد من ضرورات الحرب على الإرهاب إلى التنمية بالفعل الملموس وتحسين الأحوال إلى أقصى ما هو ممكن.
رغم تمركز «داعش»، فإنه يمكن دحره بوقت قصير ــ حسب تأكيدات شخصيات نافذة في سيناء، إذا ما صححت العلاقات وأفسح المجال لدور عسكري مساند ورديف وفق قواعد الاشتباك، التي تحددها السلطات المصرية. في بيان «البرث»، تعهدت القبائل الكبرى بطي صفحة المنازعات بينها وتوحيد صفوفها للثأر من جماعات الإرهاب. تلك إشارة لها قيمتها في المسار الذي يمكن أن تأخذه الأحداث.
القبائل مسلحة بالفعل، وقد تحرك أبناؤها في أعقاب المجزرة لإغلاق الطرق والمدقات الجبلية وقطع أي منفذ لفرار أو تسلل الإرهابيين. المطلوب ــ بالضبط ــ تنظيم السلاح وفق ما تقرره الدولة من إجراءات تضمن استخدامه في موضعه.
ما صيغة الشراكة بالسلاح تحت الإشراف الكامل للدولة؟ هذا هو السؤال الصعب وموضوع الحوار الذي يطلبه أهل سيناء.
* كاتب وصحافي مصري