شاء القدر أن يعفي مهرجان «بيروت ترنّم» (بين 1 و23 كانون الأوّل/ ديسمبر المقبل) من إحراج تنظيمي (بأقل تقدير) أو من خلل كبير في جوّه العام (أغلب الظن) أو حتى من إلغاء لدورته الحالية برمّتها (بأقصى الحالات)، لو لم يمر «قطوع» احتجاز الرئيس سعد الحريري من قِبَل «مملكة الخير» على خير، بأقل أضرار ممكنة، وفي الوقت المناسب.
منذ نحو أسبوع فقط، أو أكثر بقليل، كان لا يزال احتمال أن يتعرّض هذا المهرجان لنكسة (بصرف النظر عن حجمها) عالياً جداً. فهذه التظاهرة الموسيقية مرتبطة بشكل وثيق بأكثر من «جهة حريرية»، من «تيار المستقبل» إلى «سوليدير» (كمؤسسة وكجغرافيا) وصولاً إلى بعض الجهات التمويلية (بنك البحر الأبيض المتوسّط وغيره). بالتالي، حتى ولو ظلّت كل المقوّمات اللوجستية قائمة، لم يكن ممكناً، أقلّه أخلاقياً، الاحتفال والفرح بالأعياد لو بقي مصير رئيس الحكومة مجهولاً لبضعة أيام فقط. هكذا، انطلق المشهد من حماس في التحضير للاحتفال بالأعياد (التحضيرات التي سبقت الإعلان عن برنامج الدورة)، ثم تحوّلت الصورة من فرح الإنجاز إلى الريبة والترقّب بفارق بضع ساعات (أتت الاستقالة بعد أقل من ثلاث ساعات على إعلان برنامج الدورة الحالية في مؤتمر صحافي خاص بحضور ورعاية النائبة بهية الحريري)، ثم حلّ المجهول لأيام قبل أن يأتي الفرج ويحل معه الحماس والفرح من جديد، لكن مضاعفاً هذه المرّة. باختصار، عاش منظّمو «بيروت ترنّم» كابوساً بمواصفات كاملة.
بالعودة إلى السنة الماضية، وعد المدير الفنّي للمهرجان الأب توفيق معتوق ورئيسته ميشلين أبي سمرا بأن الدورة المقبلة (أي الحالية) ستكون استثنائية، وذلك لمناسبة مرور عشر سنوات على انطلاق هذا الحدث. صحيح أنّ البرنامج هذه السنة يبدو استثنائياً، فعلاً، لكننا في الواقع توقّعنا أكثر من ذلك، والسبب هو أن العقل يقارن لاشعورياً بالدورة الماضية التي كانت استثنائية هي الأخرى. هذا لا يمنع القول إن «بيروت ترنّم» تطوّر منذ انطلاقه بشكلٍ مضطرد، فبَلَغ الاحتراف في التنظيم والقيمة الفنية الإجمالية العالية (من التوجّه العام إلى الأسماء المدعوة)، وها هو اليوم يكرِّس ما بَلَغه عبر 28 أمسية تحتضنها كنائس وكاتدرائيات عدّة في العاصمة اللبنانية.
المفاجأة الأولى في البرنامج، هي الافتتاح الذي سيشهد تقديم شيخة السمفونيات في تاريخ الموسيقى الغربية، تاسعة بيتهوفن التي تصادف هذه السنة، بالمناسبة، المئوية الثانية لبداية العمل الجدّي عليها من قِبَل مؤلفها، الذي أبدعها بهدوء بلغت فيه السكينة ذورتها العلمية: الصمم الكلّي. بخلاف الدورات السابقة التي قُدِّمَت في افتتاحياتها أعمال دينية مسيحية ذات طابع احتفالي، تأتي السمفونية التاسعة لتنشد ما تدعو إليه كل الأديان من فرح ومحبة وأخوة، لكن في إطار «علماني»، جامع، لا بل عابر لكل المذاهب. فهذا العمل، وهو الاستثناء الأوّل في فئته بالتاريخ، لناحية احتوائه غناء (يُستَهَل منفرداً ثم تدخل الجوقة في أدائه) وضعه بيتهوفن ليتوّج مسيرته في التأليف وأراد من خلاله بث رسالة إلى الإنسانية جمعاء. هكذا اختار «نشيد الفرح» للأديب الألماني شيلر ليشبكه بذاك اللحن البديع الذي يقال إنه كان يرنّ برأسه قبل أكثر من ربع قرن على إنجاز العمل الذي سيقوم (جزئياً) وتقوم شهرته (كلياً) عليه.
من جهة أخرى، ثمة شق متوقّع في البرنامج، وهو ما يتعلّق بالفِرَق والجوقات المحلية التي تشارك سنوياً ضمن «بيروت ترنّم»، في إحياء أمسيات من وحي زمن الميلاد والأعياد. أضف إليها، محلياً أيضاً، بعض الأسماء المحلية المعروفة المرتبطة بالترنيم الديني (غادة شبير، عبير نعمة…) أو بالموسيقى الكلاسيكية الشرقية (نداء أبو مراد فرقة «أصيل»…). بالتالي، الجهود الكبرى تبذل تحديداً لتطعيم الدورة بأسماء كبيرة من عالم الموسيقى الكلاسيكية الغربية. في الدورة الماضية، نجح المنظمون في استضافة الفائز بالمرتبة الأولى في «مسابقة شوبان» (2015)، الكوري الجنوبي سيونغ ــ جين تشو. أما السنة، فأعادوا الكَرّة مع مواطنه Yekwon Sunwoo (كتابة اسمه بأحرف عربية مثيرة للغرابة!) الفائز بالميدالية الذهبية في مسابقة «فان كليبُرن» (2017). كذلك، تضمّ الدورة مجموعة من الأسماء المرموقة (بين صاعدين ومكرّسين) التي سبق أن زارت لبنان قديماً أو في السنوات الأخيرة (مع الفارق المهمّ أن «بيروت ترنّم» يقدّمها اليوم مجاناً إلى الجمهور)، مثل الثنائي سيرغي ختشاتريان (كمان) وشقيقته، عازفة البيانو لوزين («مهرجان البستان» 2006)، و«رباعي موديلياني» («بعلبك» 2015)، وعازف البيانو الفرنسي الشهير إيريك لوساج («البستان»)، 1997 و2010) وعازف التشيلّو السوبر ستار الفرنسي إدغار مورو («البستان» 2016) الذي يأتي برفقة دافيد كادوش (بيانو)، وأخيراً عازف البيانو الروسي الفائز بـ «مسابقة تشايكوفسكي» (2015) الشاب الموهوب ديمتري ماسلييف (قدّم أمسية ممتازة في الـAUB قبل سنتين تماماً). أخيراً، نعرض لأبرز الأمسيات في أدنى الصفحة… وبعد، تحية لـ «بيروت ترنّم» على البرنامج القيِّم هذه السنة، مع الإشارة إلى أنّ كل ملاحظاتنا السلبية الجوهرية بخصوصه لا زالت قائمة، لكن لا ضرورة لتكرارها طالما أن أرشيف «الأخبار» متوافر على الإنترنت!

النسخة العاشرة لـ «بيروت ترنّم»: بين 1 و23 كانون الأوّل ــ كنائس وكاتدرائيات في بيروت. الدخول مجاني. للاستعلام: www.beirutchants.com




من البرنامج

الافتتاح
(1/12 ــ كاتدرائية مار جرجس المارونية ــ 20:00)


يشكل الاستماع الحيّ إلى السمفونية التاسعة لبيتهوفن فرصة نادرة (في لبنان) وتجربة حياتية أبعد من الموسيقى بحد ذاتها. من هذا المنطلق، يصبح افتتاح «بيروت ترنّم» حدثاً فنياً يتخطى المألوف في فئته، وبالتالي لا يجوز تفويته. يشارك في تنفيذ العمل الضخم والمتطلِّب، «الأوركسترا الوطنية الفلهارمونية» بقيادة الضيف التونسي ــ الفرنسي المرموق فيصل قروي وجوقات «الأنطونية» و«سيدة اللويزة» ومغنين منفردين من لبنان وأجانب.

الثنائي ختشاتريان
(2/12 ــ كنسية مار مارون في الجميزة ــ 20:00)


يلي الافتتاح مباشرةً موعدٌ مميّز من فئة موسيقى الحُجرة مع الثنائي الأرمني، العالمي الشهرة، الذي يتألف من عازف الكمان سيرغي ختشاتريان وشقيقته عازفة البيانو لوزين ختشاتريان في برنامج يقوم على باقة من الأعمال التي تجمع هاتين الآلتين، مع الإشارة إلى أن سيرغي فائز بالمرتبة الأولى في «مسابقة المكلة إليزابيت» للعزف على الكمان.

Yekwon Sunwoo
(7/12 ــ كنيسة مار يوسف في مونو ــ 20:00)


شكّلت أمسية سيونغ ــ جين تشو علامة فارقة في الدورة الماضية لـ «بيروت تنرنّم»، إذ قدّم أمسية دسمة برنامجاً وأداءً، وهذا ما نتوقّعه من مواطنه الفائز هذه السنة بالميدالية الذهبية في «مسابقة فان كليبُرن» الأميركية المرموقة. أما البرنامج، فلنا عودة إلى تفاصيل عشية الأمسية، مع الإشارة إلى موعد مهم ثانٍّ لمحبّي البيانو المنفرِد، مع الروسي ديمتري ماسلييف (9/12).

إيريك لوساج وماتيو دوفور
(17/12 ــ كنيسة القديس لويس الكبوشي في وسط بيروت ــ 20:00)


الاسم الأبرز في «بيروت ترنّم» هذه السنة هو إيريك لوساج، عازف البيانو الفرنسي المخضرم الذي ينتمي إلى الجيل السابق الذي لم يحظَ بدعم الإعلام الجديد كما النجوم الصاعدة. يأتي اليوم إلى بيروت برفقة ماتيو دوفور (عازف الفلوت الأساسي في «برلين الفلهارمونية») الذي يحل محل شريك لوساج الأزلي، عازف الفلوت السويسري ــ الفرنسي إيمانويل باهو.

غادة شبير
(18/12 ــ كاتدرائية مار الياس للروم الكاثوليك ــ 20:00)
وعبير نعمة (19/12 ــ كنيسة مار الياس في القنطاري ــ 20:00)


كما جرت العادة، تحلّ الفنانتان اللبنانيتان غادة شبير وعبير نعمة على «بيروت ترنّم» لأداء مجموعة من الترانيم الميلادية، وذلك لتمثيل الجانب الشرقي من الإرث الإنشادي الخاص بهذه المناسبة. في إطار الموسيقي الشرقية أيضاً، على البرنامج أمسية لنداء أبو مراد وفرقته (12/12) وأخرى لفرقة «أصيل» بقيادة مصطفى سعيد (3/12).




Philharmonix
(20/12 ــ كنيسة القديس لويس الكبوشي في وسط بيروت ــ 20:00)


يدعو المهرجان هذه السنة أكثر من فرقة أوروبية، مثل «خماسي النفخ» المنبثق عن «أوركسترا سكالا ــ ميلانو» (11/12 ــ كنسية مار مارون في الجميزة ــ 20:00) ورباعي «موديلياني» (22/12 ــ كنيسة مار الياس في القنطاري ــ 20:00). لكن الأبرز في هذا الإطار هو فرقة Philharmonix التي تجمع عازفَيْن من «برلين الفلهارمونية» وثلاثة عازفين من «فيينا الفلهارمونية» (وموسيقيَّيْن إضافيَّيْن) في إطار تعبيري يتخطى الكلاسيك إلى الجاز والبوب والفولك وغير ذلك.