سنضع جانباً كل تلك المراثي حول موت الشعر والطقوس المفترضة لدفنه. الشعر باق، ولعل تلك العزلة والمراوغة هما من طبيعته ذاتها، التي تشبه حريقاً في غابة، على حد تعبير الراحل محمد العبد الله. نضارة محببة ومفاجِئة تطالعنا في الدورة الحالية من «معرض بيروت» أشبه بـ «رجوع الشيخ الى صباه» مقتبسين جملة الإمام أحمد بن سليمان الشهيرة.
هذه النضارة تحيلنا الى سؤال محير حول كيفية ولادة الشاعر في المطلق. لجيرار دو نرفال جملة وافية: «هروب حصان في غابة ليس بالحادثة النادرة، لكني لا أعرف غير هذا التعريف للوجود». كان الحصان في عهدة جَد الشاعر المستريح على ضفة نهر في شمال فرنسا، لتهرب الدابة في لحظة سهو. حين يعود الجد أدراجه، يحزم حقائبه ويرحل بعد عقاب من أبيه، ويلتقي في رحيله بزوجة المستقبل. ستولد أم الشاعر من هذا الاتحاد، من أثر الدابة الجموح والمختفي الى الأبد، من ذلك السهو على الضفة حيث تعي الغيوم وجودها، كذلك السماء. حصان تحرق قوائمه الحرب سنراه في المجموعة الأولى «حين ساعدنا الحرب لتَعبر» (دار التكوين) للشاعرة السورية ميس قرفول: «في العصور القادمة/ سيعود السوريون الى أصل ما/ سمكا/ كما تجري المياه الزرقاء الآن/ حولهم وتحتهم/ وفوقهم» أو لأسامة محسن (يمشي اللاجئ الى الحنين قبل اللامكان/ كأنه يخرج من عين أمه نبيذا/ لا من الباب/ ويرقص وحده على خد الأرض ــ مجموعة «أعاقر النشوة أغازل الدالية» ـ «دار النهضة العربية»).
غنائية سائلة تطل برأسها في باكورة عادل حيدر (١٩٩٦) «إذا انجرح الماء» (النهضة) كالمقطع التالي: «يا ليتني لم أقم أحلامنا/ وأقمت بيتي/ لم أستطع تأجيل موتي/ هل كان أعلى من صراخي حينها/ إخفاء صوتي». وفي «الشعر لا يكتبه الشعراء» (النهضة)، يتابع ربيع شلهوب (١٩٨١) نسج تجربته الشعرية الخامسة حول ثيمته الأثيرة في البحث المتوتر عن «شيء» الشعر: «أنا حالك هالك/ لا قميص يلم عظامي/ ويلزمي ربما أن أعود كما كنت أعمى/ لكي أجد اليوم/ في كومة العمر/ إبرة روحي وخيط كلامي».
سيأخذنا، أحمد جميل في مجموعته الخامسة «تعال فعلت كل شيء في انتظارك» (النهضة) الى ثيمة الحضور والغياب (كل شيء من دونك ناقص/ وليس عليك سوى أن تعيدي قراءة ما دونته في دفتري/ وتصحيح بعض الجمل/ أن تقولي مثلًا/ ما أجمل هذا النثر)، وكذلك دارين حوماني (١٩٧٧) في مجموعتها «عبور الى الضوء: (فواصل) الى اليقين الصعب والخيبة الملازمتين للشعر: أشجار تحت بيتي/ قطعوها من عنقها/ لا أتوقف عن الغضب لأجلها/ ولديّ أشجار مقطوعة أيضاً/ أربط رغباتي بها من الخلف/ كي لا تهتز من جديد».
أصوات يتعذر حصرها تثبت مرة جديدة أن الملائكة تصنع أعشاشها في القصائد كما تتخذ النحل بيوتاً في الجبال والأشجار المجوفة، كأن رقة الشعراء تسهر على هذا العالم. رقة نتحسسها عند لارا ملاك (١٩٩١) في باكورتها «أنثى المعنى» (نلسن): قدمي صواب كامل/ علمَتني انتظار زمن اللقاح/ بصبر السكينة.