بعد ركود المواعيد الأدبية طوال العام، يأتي «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» كل سنة ليدفعنا مجدداً إلى التشكيك في اسمه، إذ لا تستخدم فعاليات المعرض أيّاً من شقيه «العربي والدولي». الحضور الدولي يغيب تماماً، مقابل آخر عربي يأتي عبر مشاركة رسمية واحدة لمصر هذه السنة. الحديث عن معرض بيروت، سيصرف الناشرين اللبنانيين تلقائياً نحو هموم مهنتهم التي لا تنفصل عن حال الكتاب العربي، ومشكلاته التي تتفاقم مع الوقت.
هذه السنة أجمعوا على أن التهديد الأوّل للكتاب هو القرصنة الإلكترونية والتزوير الورقي الذي يجتاح العالم العربي من فلسطين إلى سوريا والأردن ولبنان والسودان ومصر، مع غياب الملاحقة الرسمية للمخالفين. إنها في النهاية ليست مشكلات جديدة. الرقابة في بعض المعارض العربية تثبت أنها ليست أكثر من ممارسة عبثية، كما حصل في معرضي الجزائر والكويت وغيرهما، حيث تمرر بعض الكتب وتمنعها في السنوات اللاحقة، والعكس. هكذا يأتي معرض بيروت، كموعد آمن ـ نسبياً - من هذه الناحية.
قد ترافقه وتسبقه قرارات منع تعسفية لأعمال فنية وسينمائية، لا يمكن فصلها عن الكتاب أو أي منتج إبداعي. أو قد تطال الاعتقالات شعراء بسبب منشور على فايسبوك، كما حصل قبل أيام مع الشاعر اللبناني مصطفى سبيتي الذي لا يزال موقوفاً إلى اليوم، لتنبهنا بألا نصدّق هذه الحرية المزعومة كثيراً. عدا ذلك، نجحت السنوات الـ 61 في تحنيط المعرض ضمن توقعات صارت معروفة مسبقاً للزوّار والناشرين: عدد الجمهور، عجقة السير التي تصل إلى عين المريسة، محدوديّة المبيعات، تكاثر حفلات التوقيع لكتاب لبنانيين، «بيال» الذي يقع في آخر الدنيا... لم يفلح تطوّر معارض أخرى كـ «الشارقة» و«أبو ظبي» في تغيير تعامل المنظمين مع معرض بيروت بعيداً عن أنه مجرد بازار محلي للكتب.

يجمع الناشرون أكثر من اي
وقت مضى على ميزة الحرية
التي تتمتع بها العاصمة

يغيب عن البرنامج العام لمعرض بيروت رؤية جماعية واضحة للنهوض فيه، أو حتى متابعة جديّة لإشكاليات النشر والقراءة والكتاب. بعض الناشرين يعترفون أن التعويل المادي على بيروت محدود. لذلك ربّما يلجأ كثيرون منهم إلى حفلات التوقيع.
آخرون يتكئون على قيمتها المعنوية لإطلاق عناوين جديدة، وعلى مركزها في النشر (تطبع حوالى 30% من الكتب في العالم العربي) الذي تستقطب نوعيته وعراقته أسماء أدبية كبيرة، رغم محاولات بعض الدول العربية اللحاق بها. هنا «لا مجال للمقارنة أصلاً»، تحسم مديرة «دار الجديد» رشا الأمير الأمر، مبرّرة ذلك «بالملايين التي تدفع» على المعارض الخليجية، مقابل «الفوضى التي تعدّ الداعم الأساسي لمعرض بيروت»، الذي «يبقي أبوابه مفتوحة للجميع» رغم كل شيء. لكن الأمير لا تنساق وراء هذا الصيت تماماً. تتخذ موقفاً واقعياً جداً من المعرض. قررت هذه السنة أن تنتقص من المساحة المستأجرة، كما أن الدار تميل بشكل عام إلى طباعة كتب بكميات محدودة، ما يفرض انتقائية في اختيار العناوين التي لم تنشر عدداً كبيراً منها هذه السنة، من بينها روايتا «النبيذة» لإنعام كجه جي، و«ميراث أبي» التي توقّعها الصحافية الجزائرية دلّولة حديدان في المعرض. بعد الرقابة التي تواجه كتب «دار الآداب» في المعارض العربية، لا تتردّد رنا إدريس بالقول «بيروت بتجنن». مديرة الدار التي تمنّعت للسنة الثانية عن المشاركة في «معرض الكويت»، تؤكّد أن المعرض يشكّل فرصة للقاء دافئ مع «القارئ اللبناني الذي تدفعك تطلّعاته إلى المخاطرة بكتب جديدة وصعبة». يأتي الموعد البيروتي في منتصف دورة المعارض العربية، لكن الدار تترك إطلاق بعض العناوين لبيروت.
هذه السنة، طبعت نحو 37 عنواناً، من بينها كتب لأسماء مكرّسة مثل هدى بركات، وواسيني الأعرج، وسحر خليفة، وسماح إدريس، إلى جانب ترجمات لإدوارد سعيد، وإيزابيل الليندي، وإيلينا فيرانتي. تلخّص إدريس كيفية تأثير الوضع العربي على ثيمات الأعمال: «الخيبة العامّة حاضرة في معظم الروايات الجديدة».
تتفق مديرة تحرير «دار الساقي» رانيا المعلّم على أن أهمية بيروت تكمن في غياب المنع الذي «يدفعنا إلى ممارسة رقابة ذاتية على كتبنا قبل أن تتم مصادرتها من بعض المعارض العربية». يكتسب الحدث البيروتي أهميته أيضاً، من «العلاقة التبادلية والتفاعل الثقافي مع القارئ فيها». بالنسبة إلى الدار، فإن «المردود الذي نحققه في بيروت لا يستهان به» رغم أن معارض كـ «الرياض وجدّة تسبقه من هذه الناحية». لكن ذلك لا يمنع الدار من أن تخبئ إصدار بعض عناوينها إلى بيروت، التي وصلت هذه السنة إلى 60 من بينها أسماء مكرسة مثل «جرح المعنى» و«أفق المعنى» للناقدة السورية خالدة سعيد، وأدونيس، وحسن داوود، وكتب في التراث والتاريخ العربي والإسلامي وترجمات، وروايات (نتيجة ورشة مع جبور الدويهي) لتجارب عربية جديدة. على صعيد الرواية تقدّم «نوفل هاشيت أنطوان» مجموعة تجارب جديدة وأخرى مكرسة، تصل إلى 17 من كافة أنحاء العالم العربي: سوريا والعراق والسودان واليمن ولبنان، وتعكس ازمات ومشكلات العالم العربي الراهنة وتاريخه.
يقول مدير الدار اميل تيان إننا «نطلق أهم العناوين من بيروت، رغم تنظيمه التقليدي». وكغيره من الناشرين، أكد تيان أن أكثر ما يهدد النشر جدياً هو التزوير، الذي يشلّ الناشر ويعرقل بيع الكتب الأصلية، عبر بيع الكتب المسروقة بسعر أرخص. مدير «دار التنوير» حسن ياغي يصرّ على العمل قانونياً في مجال النشر الفوضوي. اشترت الدار هذه السنة حقوق نشر أربع روايات من أعمال ماركيز الذي نشرت رواياته لعقود طويلة بالعربية بلا أي اعتبار للحقوق. يشير ياغي إلى القرصنة التي تجعل الناشر عاجزاً أمام هذه الظاهرة التي لا قوانين تطبق لتحمي الناشر منها، لكنه يصرّ على إرجاع مشاكل الكتاب إلى أساسها الجوهري. «الثقافة لا تعد جزءاً من التنمية في العالم العربي، كما أن وزارات الثقافة لا تشتري كتباً للمدارس في معظم الدول العربية». ويضيف إلى هذه المشكلات الراسخة، ظاهرة الرقابة التي وإن غابت عن بيروت، فإن «أجهزة الرقابة هنا بيد الأمن العام لا بيد لجنة ثقافية مختصة». الدار التي أصدرت هذه السنة 50 كتاباً فكرياً وأدبياً وفلسفياً وعلمياً، لا تقيم أي توقيع في المعرض متخلية بذلك عن اكسسوارات باتت ضرورية لمعظم الناشرين. حاله كحال مدير «منشورات الجمل» خالد المعالي الذي لا يستقبل هذه السنة، كما معظم السنوات، حفلات تواقيع باتت أشبه بـ «المناسبات الاجتماعية».
صحيح أنه حاول في السنوات السابقة إقامة ندوات ولقاءات أدبية كدعوته الروائي العراقي أحمد السعداوي، لكن الحضور كان ضئيلاً. يبدو المعالي منهمكاً أكثر في نوعية كتبه. نبشه في التراث قاده إلى نشر ديوان ابن الحجّاج البغدادي (942 ــ 1002 م) ضمن أربعة مجلّدات، إلى جانب نشر المجموعة القصصية الكاملة للكاتب الإيراني صادق هدايت، وكتب في التصوف والعلوم والرواية المترجمة لألبرتو مورافيا، وروبرتو بولانيو ومجموعات شعرية لسركون بولص وسعدي يوسف... يعزو المعالي مشاركته في معرض بيروت إلى «أنها المساحة الوحيدة للقاء بجمهور لا نستطيع أن نراه إلا في بيروت، كما أن كلفته أقل في المدينة التي نقيم فيها». رغم اقتناعه بأن معرض بيروت «يحتاج إلى تجديد»، إلا أن مدير «دار نلسن» سليمان بختي يصرّ على أن «بيروت هي الملاذ الأخير للكاتب والناشر حيث يمكنهم التفكير بحرية». أما العلاقة الملتبسة بين الكتاب والقارئ، فـ «سببها النظام التربوي»، مشيراً إلى أنّ الكتاب يحتاج إلى «كاتب حالم وناشر شغوف» خصوصاً أنه يعاني من مشكلات كثيرة أبرزها غياب الطلب وشركات التوزيع وإقفال المكتبات. كتب الدار وصلت هذه السنة إلى حوالى 40 إصداراً من بينها مؤلفات المسرحي اللبناني الراحل عصام محفوظ، واستعادة بعض وجوه عصر النهضة كشبلي الشميل.
لكن كيف يستطيع الناشر إصدار هذا الكم من الكتب وسط ظروف كهذه؟ « تعجبين من سَقَمي صحتي هي العجبُ» يستشهد بختي ببيت لأبي نوّاس لتوصيف حال الناشر الذي «صارت طموحاته تتمثّل بالاستمرارية لا بالربح». ينطلي بيت أبو نوّاس على مهنة النشر بشكل عام. هذا ما تظهره ظروف الناشرين التي يمكن اختصارها ربّما بـ «تحدّي الإحباط» وفق المديرة التنفيذية لـ «دار النهضة» نسرين كريديّة. هنا يظهر السبب إياه مجدداً: القرصنة والسرقة وسهولة التعامل معها عربياً، ما يتيح للناشر المزوّر أن يستأجر جناحاً في المعارض بشكل طبيعي، وهذا ما يحصل علناً في بعض المدن العربية. تأتي هذه الظروف لتجهز على الأرباح. بالنسبة إلى كريدية، فإن «أفضل ما في بيروت هو حريّتها، رغم أنه أصبح معرضاً محلياً مع قلة المشاركات العربية». استعادت الدار هذه السنة، مهمة نشر المجموعات الشعرية والباكورات لبعض الشعراء الجدد، فوصلت الإصدارات إلى 45 مؤلفاً تتوزّع أيضاً على مقررات جامعية بالعلوم الإنسانية وروايات. كل الطرق تؤدي إلى الخوف من القرصنة التي تطال الكتب الأكثر مبيعاً كما يشير مدير «دار الفارابي» حسن خليل، أي العناوين الأساسية التي تعوّل الدار على مبيعاتها. هذا ما يجعل من عامل القلق جزءاً أساسياً من مهنة النشر وفق خليل، يضاف إليها زيادة كلفة الانتاج بين عامي 2016 و2017، مقابل «اضطرارنا إلى خفض سعر الكتاب لبيعه». مع ذلك، فإن برنامج «الفارابي» حافل هذه السنة مع 161 عنواناً تراوح بين روايات وأدب وفلسفة وشعر، و5 ندوات وأمسيات موسيقية بالتعاون مع «الجامعة الأنطونية»، و«المعهد الفرنسي» و«المركز الثقافي الإيطالي». «نحن نولي أهمية استثنائية لمعرض بيروت، طالما أنه باستطاعتنا دعمه ورفعه وتقديم التسهيلات للقراء مع القدرات الشرائية الصعبة». هكذا تراوح حسومات الدار بين 40 و90%، فيما تحرص على ألا تفوت واحداً من المعارض الصغيرة التي تقام في المناطق والجامعات اللبنانية تحت شعار «مكتبة لكل طالب». من ناحيته، يؤكد مدير التوزيع في «دار رياض الريس» عبد الناصر الفليطي أن «الكتاب أوّل من يدفع ثمن أزمات العالم العربي». طبعت الدار حوالى 30 كتاباً هذه السنة، من بينها أسماء محلية ستوقع في المعرض لمحمد أبي سمرا، ويقظان التقي، ومي منسى، ونصري الصايغ وغيرهم.
ليست هناك توقعات استثنائية لمعرض بيروت وفق الفليطي، فـ «انحسار القرءة على حساب الاهتمام المعيشي للناس قلّص من نسبة الطلب على الكتاب».

«معرض بيروت العربي الدولي للكتاب ــ 61»: بدءاً من اليوم (س:16:00) حتى 13 كانون الأول (ديسمبر) ـــ «بيال» ـ للاستعلام: 01/345948




ناشرون من أجل المهنة

مع غياب الملاحقة القانونية للسرقة وتزوير الكتب، التي يجرّمها «قانون حماية الملكية الأدبية والفنية» اللبناني (75/ 1999)، أطلق عدد من الناشرين اللبنانيين تجمّع «ناشرون من أجل المهنة». تأسست المجموعة منذ سنة تقريباً، وتضمّ «شركة المطبوعات»، و«الآداب»، و«الفارابي»، و«الساقي»، و«الانتشار العربي»، و«النهضة»، و«الراتب الجامعية»، و«الدار العربية للعلوم ناشرون»، و«التنوير»، و«جداول»، و«شركة النيل والفرات»، و«نوفل هاشيت أنطوان». ومن خلاله تسعى الدور إلى التعاون مع «نقابة الناشرين في لبنان» و«اتحاد الناشرين العرب» لأربعة أهداف أساسية وفق مديرة النشر والتسويق في «شركة المطبوعات» عزة طويل، هي: «خلق مساحة عمل مشتركة بين الناشرين لتطويل ظروف النشر»، و«محاربة التزوير والقرصنة»، و«البحث في أساليب مواجهة الرقابة العربية»، و«المشاركة في المعارض الدولية والعربية والمحافل الثقافية». حتى الآن، أطلق التجمع حملة على السوشال ميديا لتوعية القارئ لمساوئ شراء الكتب المزورة، كما نجحت في إقفال أجنحة تبيع كتباً مزوّرة في بعض الدول العربية من بينها الأردن والشارقة، بالتعاون مع الجهات الرسمية هناك.