سنوياً، يموت 17 مليوناً و300 ألف شخص في العالم بسبب أمراض القلب، وهو ما يمثل 30% من الوفيات، حسب ما تشير منظمة الصحة العالمية، فيما تنتهي حياة نحو 700 ألف شخص بسبب أمراض الكبد. من ناحية أخرى، يموت نحو 2.3 مليون مريض بالفشل الكلوي بسبب عدم قدرتهم على تلقّي العلاج المناسب. ولأنّ تكلفة زراعة عضو اصطناعي باهظة ومرتفعة وليست بمقدور الكثيرين، يفضّل المريض الموت بسلام على أن يترك من ضمن إرثه ديوناً تتحمّلها العائلة.
غير أنّه بمقدورنا أن نلعب دوراً إيجابيّاً في تغيير هذه الأرقام. بـ"الوهب". فبحسب جمعيّة "من أحياها" (انظر الكادر)، فإنّ هذا العطاء يستطيع أن يغيّر الكثير، إذ أن كلّ واهب يستطيع إحياء 8 أشخاص بعد وفاته. بتفصيل أكثر، هذا الأمر يمكن أن يلغي، أو في أحسن الأحوال، أن يخفّض نسبة الوفيات بسبب أمراض القلب، لو أن المريض قد حصل على قلب من إنسان آخر. وترتفع هذه النّسبة إلى 85% بالنسبة لأمراض الكبد. كما كان يمكن أن يحيا شخصان سنوياً لو أنّهما حصلا على كلية من واهب آخر.

85 إلى 90% من عمليّات زرع الأعضاء الأساسيّة تكون ناجحة بشكل كامل في السّنوات الخمس الأولى

لا تزال رحلة الألف ميل طويلة، ولكن الخطوة الأولى قد بدأت. وفي هذا الإطار، يمكن الحديث عن بعض العمليات التي أُنجزت عن طريق الوهب. ووفقاً للإحصائيّات في لبنان، كما توردها اللجنة الوطنية لوهب الأعضاء، فقد أجريت 1869 عمليّة زراعة للكلى، و19 عمليّة زراعة للكبد، و30 عمليّة زراعة للقلب، وواحدة للرئتين وأخرى للبنكرياس. كل ذلك، ولا يزال 600 مريض آخر من مختلف المناطق ينتظرون دورهم للحصول على أعضاء من واهبين، بحسب لائحة الأسماء التي بحوزة اللجنة. إلى هذه الأرقام، تضاف أرقام أخرى لدى جمعية "من أحياها" في مستشفى الرسول الأعظم، فبرغم حداثة قسم وهب ونقل الأعضاء في المستشفى، إلا أنه أنجز إلى الآن 4 عمليّات زراعة للقلب، فيما يستعد لافتتاح قسم زراعة الكبد والكلى مطلع العام المقبل.

شروط الوهب


لا شروط للوهب. فهذا الفعل لا يتطلب عمراً محدداً، إذ يستطيع كل إنسان يتراوح عمره بين الـ18 والـ65 سنة التّبرّع بأعضائه لمن تتراوح أعمارهم بين عمر السنتين وحتى الـ65 سنة. أما عمليّة نقل الأعضاء، فتخضع لشروط عدّة، منها تطابق فئات الدّم والأنسجة وتناغم الوزن والعمر للواهب والمتلقّي. ويتفاوت عمر كل عضو بعد الوفاة، فتعيش الكلى ما بين 18 و36 ساعة بعد وفاة الإنسان، فيما يعيش الكبد من 6 إلى 12 ساعة، ويبقى القلب لمدة 4 إلى 6 ساعات فقط، لتكون هذه السّاعات ذهبيّة في ميزان الطب.
لا وقت إذاً. ساعات قليلة تفصل ما بين الموت والحياة. وفي ذلك الفاصل الضئيل نسبياً، يفترض أن يكون كل شيء جاهزاً. وفي هذا الإطار، تشرح فاطمة زراقط، عضو الهيئة الإدارية في جمعيّة "من أحياها"، آلية العمل، فتقول: "فلنفرض مثلاً أن المتبرع توفّي في طرابلس، من الواجب هنا أن تباشر الجمعية بالتّعاون مع مستشفى الرّسول الأعظم ــ وبعد أن تكون المستشفى في طرابلس قد أجرت كامل الفحوصات اللازمة ــ بإرسال طبيب جرّاح لاستئصال أعضاء المتوفي". وتتابع: "بعد إتمام عملية الاستئصال، يُحفظ العضو بالأدوية والتبريد وتقوم الجمعية والطبيب بإحضاره من طرابلس إلى بيروت". في الوقت ذاته، "وبالسّرعة الممكنة، تكون الجمعية قد قامت باستدعاء الشخص المحتاج للعضو من لائحة المنتظرين، حسب الأولوية والأقدمية والمعايير الأخرى الآنف ذكرها، ويكون طبيب جرّاح آخر قد قام بتهيئة المريض في مستشفى الرسول (ص) لإجراء عمليّة الزرّع مباشرة فور وصول العضو".
وبعد عمليّة زراعة العضو، يُعطى المريض أدوية محدّدة لتثبيت جهاز المناعة لديه كي لا يرى العضو الجديد كجسم دخيل ويعمل على محاربته. ونتيجة لذلك، فإنّ 85 إلى 90% من عمليّات زراعة الأعضاء الأساسيّة تكون ناجحة بشكل كامل في السّنوات الخمس الأولى.




«ومن أحياها»: تعزيز ثقافة الوهب

انطلقت فكرة جمعيّة "من أحياها"، والتي تتخذ من مستشفى الرّسول الأعظم (ص) مكاناً لها، من عجز الناس أمام مرض أحبائهم، إضافة إلى بروز الحاجة إلى طرح فكرة وهب الأعضاء بشكل جدّي والعمل عليها. ولأنّ هدفها الأسمى هو بث الحياة في المجتمع، تعمل الجمعيّة على نشر ثقافة وهب الأعضاء وإيضاح مفاهيمها للناس، خصوصاً أولئك الذين قد يخافون من الفكرة أو يتشاءمون من الحديث عن الموت.
ولهذا، تطمح لأن تكون ثقافة التّبرّع بالأعضاء عاديّة بل ومرغوبة، أي أن نصل إلى مرحلة يكون فيها كل إنسان فرداً واهباً في المستقبل، لأن الواهب يمكن أن يصبح متلقّياً في أي لحظة بسبب الظروف وبفعل الحاجة.
ولأنها انبثقت من بيئة شيعيّة ما زالت تعتبر الشّريعة المايسترو الرّسمي لتحرّكاتها، كان لزاماً على الجمعيّة، وبالتّعاون مع جهات مختلفة على رأسها اللجنة الوطنيّة لوهب الأعضاء، أن تجول على المرجعيّات الشّيعيّة الأكثر نفوذاً في لبنان لتوضيح فكرة وهب الأعضاء ولاستحصال الفتوى الشرعيّة التي تسمح لها بالتحرّك بحريّة. وكانت الإشكاليّة التي توقّفت عندها المرجعيّات الدّينيّة هي في عدم حصول أي تشويه للجثة، أي أن تُسلّم الجثّة إلى ذويها بعد عمليّة سحب الأعضاء كما كانوا قد سلّموها إلى المستشفى. فعندما تُستأصل الأعضاء، يتم إعادة ترميم الجسد كما الأحياء. وتؤكّد الجمعيّة أنها تستهدف الأعضاء التي تعتبر أساساً لحياة الإنسان، كالقلب والكبد والكلى، أمّا الأطراف كاليدين والقدمين والأذنين فهي تعتبر كماليّات ولا يسمح الشّرع بأخذها. كما كان هناك إشكاليّة أخرى لدى المراجع تكمن في تأكيد حصول الموت الدّماغي لدى المريض. أي أن المستشفى وأولياء الأمر غير مخوّلين شرعاً المساس بالجثّة في حالة الموت السّريري، والتي قد تستمرّ شهوراً وسنين على غرار حالة "الكوما"، والقرار مباح لهم في حالة الموت الدّماغي التي لا مجال لعودة الإنسان بعدها للحياة.
وعندما قالت المرجعيّة كلمتها، التي أباحت وهب الأعضاء بشروط، لاحظت الجمعية إقبالاً واسعاً من الناس لتسجيل أسمائهم كواهبين لدى الجمعيّة. وفي هذا الإطار، تقول زراقط إن "عدد واهبي أعضائهم قد بلغ لدينا ما يقارب الـ950 واهباً، بنسبة أعلى بكثير لدى الإناث اللّواتي قد تدفعهّن العاطفة والحنان إلى الإقبال على هذه الخطوة بشكل أكبر".


* للمشاركة في صفحة «صحة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]