لم تفوّت إسرائيل وسيلة لتوجيه رسائلها إلا واعتمدتها، ولم تترك باباً في عواصم القرار الدولي إلا وطرقته. أرسلت الوفود إلى واشنطن ثم إلى موسكو... كشفت عن لقاءات في أوروبا وغيرها على أمل التأثير في بلورة الواقع السوري في مرحلة ما بعد الانتصار على «داعش» وأخواتها... وبعد كل ذلك، خابت آمالها وصدمتها النتائج.
لاحقاً، ارتفع الصراخ في تل أبيب. هاتَفَ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رؤساء دول، ثم كشف وسرَّب (بعض) ما دار من حديث ورسائل... يقولون في تل أبيب إنهم وجّهوا رسالة سرية الى الرئيس السوري: الوجود الإيراني في سوريا ممنوع، وإلا... ثم كشفوا عنها في وسائل الاعلام. يعلنون عن جدول أعمال المجلس الوزاري المصغر ويهوّلون انتبهوا «إسرائيل تدرس خياراتها»... كل ذلك، بهدف تقديم إسرائيل في موقع «المتوثّب»، وترجمة لتكتيك «أمسكوني» قبل أن أهاجم.
الآن جاء دور لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست التي أرسلت وفداً إلى موسكو لمناقشة الواقع الجديد المتشكل في سوريا. ضمّ الوفد ستة أعضاء من اللجنة، عومر بار ليف وأيال بن رؤوفين وعينات باركو وعوفر شيلح وموتي يوغيف، وبرئاسة آفي ديختر. سيجري الوفد مباحثات مع موفد الرئيس فلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، ومع رئيس اللجنة الخارجية في البرلمان ليونيد سلوتسكي، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الكسندر فانديكتوف وغيرهم.
خصوصية هذه الزيارة أنها تأتي بعد قمة سوتشي، وما انطوت عليه من رسائل تردّد صداها في تل أبيب، وتأتي امتداداً للرسائل والاتصالات التي تتمحور حول القضية ذاتها: موقع إيران وحزب الله في سوريا بعد عودة سيطرة دمشق. بعبارة أخرى، سيبحث الوفد القضية التي تقلق المؤسستين السياسية والأمنية في تل أبيب، أي سوريا ما بعد الانتصار؟ إلى جانب عناوين أخرى.
صحيح أن الوفد برلماني، ومعنى ذلك أنه ليس ضمن مؤسسة اتخاذ القرار السياسي والأمني... لكن القضية التي يتمحور حولها البحث تكمن في صلب اختصاص اللجنة، ولها دورها في مسار تنضيج القرارات الكبرى في إسرائيل.
ما يستفزّ تل أبيب أن تهديداتها ورسائلها تلقى آذاناً صمّاء في طهران ودمشق اللتين تواصلان «ورشهما» السياسية والأمنية بمعزل عن الصراخ الاسرائيلي. وما يقلقها أنه يجري التعامل معها على أنها جزء من المعسكر المهزوم في سوريا. وبالتالي عليها التكيّف مع هذا الواقع الذي قد لا تكون مفاجآته قد استنفدت. في المقابل، تدرك تل أبيب خطورة المفاعيل والتداعيات التي قد تترتب على انتصار محور المقاومة في سوريا، والتحول الاستراتيجي والتاريخي الذي سيحدثه على مستوى المنطقة، وتحديداً ما يتصل بمعادلات الصراع. من هنا، تريد إسرائيل أن تقول من خلال الحراك السياسي والاعلامي والدبلوماسي والتهويلي إنها لا تستطيع (وليس فقط إنها لا تريد) التكيّف مع هذا الواقع، خاصة أن تداعيات التحوّل الذي شهدته سوريا تنطوي على طبقات وسقوف متعددة، قد يتوالى تظهيرها على مدى السنوات المقبلة. يندرج ضمن هذا الإطار ما أعلنه نتنياهو أمس، خلال لقائه مع وزير الخارجية الأوكراني بافلو كليمكينن عن أن «إسرائيل تأخذ بجدية التهديدات الإيرانية، وهذه عبرة من تاريخنا». وسبق أن أعلن، خلال حديث هاتفي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن النشاطات الإيرانية في سوريا باتت هدفاً، وأن إسرائيل تدرس استهدافها، وقبلها مع الرئيس الروسي الذي أبلغه بأن الوجود الايراني في سوريا يتعارض مع المبادئ الأمنية الإسرائيلية.
وهكذا، يبدو أن إسرائيل تعمل، بعدما فشلت خياراتها ورهاناتها على منع انتصار الجيش السوري وحلفائه، على محاولة الحدّ من مفاعيل هذا الانتصار واحتواء تداعياته، التزاماً بالقاعدة التي تقول إن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه.
لكن مشكلة إسرائيل الأخرى، أيضاً، أنّه لم يعد في وسعها الرهان على حدوث تحوّل في توجهات الإدارة الأميركية بما يدفعها نحو التورط في ما يفترض أن يؤدي إلى إعادة تعديل موازين القوى على الساحتين السورية والاقليمية، أو على الأقل فتح باب أمل لدى تل أبيب. محطة بعد أخرى، تؤكد واشنطن أنها ليست في وارد تورط واسع مرة أخرى في الشرق الأوسط. وتكشف من خلال أدائها أن الإدارة الجديدة التي تكثر من انتقاد سياسات باراك أوباما ليس لديها بدائل استراتيجية من سياسات الادارة السابقة، فالسابق واللاحق في واشنطن (منذ ما بعد جورج بوش الابن) حريصان على عدم سفك دماء الجنود الأميركيين نتيجة أي مغامرة في المنطقة. ومن أهم ما ينطوي عليه هذا التوجه أنهم يدركون في واشنطن (ويفترض أن يكون هذا المفهوم حاضراً في تل أبيب أيضاً) حجم تصميم محور المقاومة على المواجهة في حال تم تجاوز خطوط حمراء محددة. ويبدو أنهم أدركوا في واشنطن، أيضاً، أن أيّ مناورة تهويل لردع القوات الميدانية لمحور المقاومة في سوريا، لن تؤدي إلى انكفائهم وتراجعهم. ولم يتبلور هذا المفهوم إلا بعد محاولات وتجارب عقيمة. ولا يتعارض ذلك مع حقيقة أن لا أحد يستطيع تجاهل مكانة الولايات المتحدة وقوتها وقدرتها على التأثير في مجرى الأحداث السياسية والأمنية...
وهكذا تكون الضوابط التي التزمت بها الادارة الاميركية، الحالية والسابقة، قد كشفت مرة أخرى محدودية الفعالية الإسرائيلية في مجرى الأحداث، بمعزل عن الثقل الأميركي في الواقع الاقليمي. ويمكن التقدير أن ما جرى ويجري في سوريا والمنطقة يكشف ويؤكد حقيقة أن ضعف إسرائيل أدى ويؤدي إلى تراجع التأثير الأميركي في المنطقة، أو أن عليها التورط مباشرة، وأن تراجع الهيبة والتأثير الأميركيين في المنطقة، أدى ويؤدي إلى إضعاف التأثير الإسرائيلي في المجريات السياسية والأمنية في المنطقة.
على وقع هذه الحقائق، تشهد تل أبيب نشاطات سياسية ودبلوماسية متسارعة في كافة الاتجاهات الدولية، وتتعدد أساليبها في التعبير عن الصراخ والاعتراض والتهويل... كان آخرها أمس، انضمام وزير الامن أفيغدور ليبرمان إلى وسائل الاعلام، والعمل على الترويج لاجتماع المجلس الوزاري المصغر، الذي ناقش الشأنين السوري واللبناني. ولفتت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أنّه جرى خلال الجلسة مناقشة الأوضاع في شمالي البلاد، على خلفية اتفاق خفض التصعيد في جنوبي سوريا والأزمة السياسية في لبنان عقب إعلان رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري استقالته. ولعل التوصيف الذي قدّمه عضو المجلس الوزاري المصغر، اللواء يوآف غالانت، يجمل التقدير والمخاوف من المشهد المتشكّل على الجبهة الشمالية، بالقول إن «الجبهة الداخلية (لإسرائيل) مكشوفة للإيرانيين الموجودين على مسافة 200 كيلومتر فقط من حدودنا، أي على بعد دقائق فقط بالطائرة، لكن في المقابل الجبهة الداخلية الإيرانية توجد على مسافة 1500 كيلومتر منا، وهو بعد ساعات بالطائرة، وعليه فإن قدرات الجانبين على هذا الصعيد غير متكافئة».