ما كان الكونسرفتوار الوطني ليجد أفضل من تاتيانا بريماك ــ خوري (الصورة) لتحيي نشاطاً لمناسبة مرور ربع قرن على بدء العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وأوكرانيا. فعازفة البيانو الأبرع من بين المقيمين في بلد الأرز، تحمل «هويّتَي» البلدَين، بين أصولها ونشأتها في وطنها الأم من جهة، وإقامتها الدائمة في لبنان (وزواجها من لبناني) من جهة أخرى.
أضف إلى ذلك حمْلها لواء مؤلفِّي البلدَين الكلاسيكيِّين من خلال تطعيم ريبرتوارها الحيّ والمسَجَّل بأعمال للبيانو المنفرد (سوناتات ومقطوعات مستقلة) أو مع الأوركسترا (كونشرتوهات) تحمل توقيع أسماء أوكرانية ومحلّية وبعضها يُؤدّى للمرّة الأولى (أو حتى مكتوب خصّصياً لها).
الأمسية تقام الليلة في قاعة «بيار أبو خاطر» في «جامعة القديس يوسف»، وتأتي في إطار «مهرجان الثقافة الأوكرانية في لبنان» وعلى البرنامج مجموعة من الأعمال المعروفة والمغمورة، يمكن فرزها على الشكل التالي: أولاً، الريبرتوار الكلاسيكي العالمي، ويتمثّل بعملٍ لباخ ووآخر لهايدن. ثانياً، الريبرتوار اللبناني الذي يمثّله زوج تاتيانا، المؤلف هتاف خوري، من خلال سوناتته الرابعة للبيانو. وأخيراً، حصة الأسد للريبرتوار الأوكراني الذي يحضر بأربعة مؤلفين هم ليفكو ريفوتسكي، وبوريس لياتوشينسكي، وفيكتور كوشنكو، وفيتالي فيليبنكو.
من عند باخ، اختارت تاتيانا عملاً هو بالأصل للمؤلف الإيطالي أليساندرو مرتشيلّو (معاصر لباخ)، وقد حظي بلمستَين سحريّتَين جعلت منه تحفة محترمة. العمل هو كونشرتو للأوبوا والوتريات، واللمسة الأولى كانت من باخ الذي نقله، بتصرُّف، للكلافييه (مقصود الهاربسيكورد الذي يُستبدل غالباً اليوم بالبيانو الذي نعرفه والمسمّى بالـ «الحديث»). العمل الأصلي لم يشتهر منه سوى حركته الثانية، الهادئة والتأملية، وحتى نسخة باخ لم يشتهر منها سوى ذات الحركة، بينما بقيت الحركتان الأولى والأخيرة في الظل. وهنا أتت اللمسة الثانية من البيانيست الكندي غلن غولد (1932 ــ 1982) الذي سجّل هذا الكونشرتو (نسخة باخ طبعاً) محدثاً ثورة في افتتاح العمل (الحركة الأولى) وختامه (الحركة الثالثة). وعلى غرار الـ «كونشرتو الإيطالي» لباخ أيضاً، لا يحوي هذا العمل شقاً أوركسترالياً كما «تفرض» فئته (أي الكونشرتو)، وهذا استثناء وتحدٍ في آن. كذلك، هو تحدٍ للمؤلف وللعازف في آن. بمعنى آخر، الكتابة الموسيقية لهكذا أعمال تقوم على الإيحاء بوجود حوار بين آلة منفردة وأوركسترا (بوترياتها وآلاتها النفخية، الخشبية والنحاسية)، وكل ذلك يجب أن تؤمنه آلة واحدة (هنا، ودائماً، البيانو، لقدرة هذه الآلة على تنفيذ المهمة تقنياً). باخ الملك لا يعيقه شيء في تأليف هكذا تحف، لكن العازفين يجدون صعوبة كبيرة في إيصال ما قصده المؤلف، أي في الإيحاء بوجود أوركسترا وهْمية، وهذا تحديداً ما جعل أداء غولد لهذا العمل نموذجاً فريداً في الديسكوغافيا (الشحيحة أصلاً) الخاصة بكونشرتو باخ/ مرتشيلّو. للنمساوي الكلاسيكي الغزير هايدن، ستؤدي تاتيانا سوناتة واحدة تليها أعمال المؤلفين الأوكرانيين الذين يفصل بينهم، خلال الأمسية، السوناتة الرابعة لهتاف خوري وهي بعنوان Desolation (التي تحمل أكثر من ترجمة، كلها سوداوية على أي حال).

*ريسيتال بيانو لتاتيانا بريماك ــ خوري: اليوم ــ الساعة الثامنة مساءَ ــ قاعة «بيار أبو خاطر» في «جامعة القديس يوسف» (حرم العلوم الإنسانية ــ طريق الشام/ بيروت). الدعوة عامة.