يتقدم الحزب الشيوعي اللبناني نحو معركة الانتخابات المقبلة ببرنامج حافل وواعد. عناوينه العامة جديرة بتاريخ الحزب وإرث نضالاته وهي الدولة العلمانية الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي. ينطلق الحزب من طرح المهمات الوطنية وصولاً إلى مبدأ بناء الدولة العلمانية الديموقراطية بوصفها أنسب الخيارات والبديل الوحيد الحقيقي لدولة المحاصصة والطائفية والمناطقية التي هي ليست أكثر من تركة عثمانية قروسطية بائسة، تستخدمها برجوازية اليوم لحكم بلد هي عاجزة عن حكمه بالوسائل الديموقراطية والمدنية الحديثة. يتضمن البرنامج في جانبه الاقتصادي طروحات على درجة عالية من التقدم حول انتاجية الاقتصاد ودعم الاقتصاد الزراعي والريف ومكافحة الفساد.
ومن أكثر النقاط التي يركز عليها البرنامج القطاع التعليمي وخاصة التعليم العالي الذي يهم الشباب والذين هم «الثروة الوطنية» الحقيقية للبلاد. يرسم الحزب عبر برنامجه الهدف الأهم ولعله ذو الأولوية العليا حول قدرة الحزب على قيادة وتوحيد صفوف القوى والمنظمات الديموقراطية وهيئات المجتمع المدني ومجمل الحراك الشبابي والشعبي غير المؤطر والغير منظم في الشارع اللبناني. لعلّها هنا القضية الأكثر أهمية في معركة الانتخابات التي سيقبل عليها الحزب. إنها الفرصة والمكسب الأهم بأن يضع الحزب نفسه في طليعة القوى الديموقراطية التي تقع في أغلبها خارج القيد الطائفي والبعيدة عن التحزبات السياسية التقليدية. هذه القوى الشبابية المدنية والشعبية في انتماءاتها الطبقية والاجتماعية، والتي سبقت في تحركاتها ونضالاتها وشعاراتها جميع الأحزاب اليسارية والتقدمية اللبنانية، هذه القوى والقطاعات هي عامل التغيير الأهم في المعادلة السياسية اللبنانية. تمثل المعركة النيابية فرصة ذهبية للحزب الشيوعي اللبناني للنزول إلى الشارع أكثر والالتصاق به أكثر والتمكن من تأطيره وتنظيمه ضمن أوسع تحالف ديموقراطي لخوض معركة انتخابية منسقة في الدوائر كافة. والحزب اليوم في توجهه هذا يعمل فعلياً وللمرة الأولى منذ عقود في الحياة السياسية اللبنانية على تشكيل قطب ديموقراطي ــ شعبي جدّي في البلاد يحسب حسابه ويؤخذ بعين الاعتبار كعامل مؤثر وذو نفوذ ووزن. إن قطباً كهذا لا يؤسس إلا بمبادرة حزب الطبقة العاملة على رأسه وفي طليعته كرأس حربة. وفي المقابل، دون هذا التحالف الديموقراطي الواسع، لا مجال يبقى للحزب من أجل تحقيق التأثير التغييري المطلوب في السياسة الداخلية للبلاد.
في قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني حول الانتخابات النيابية الصادر في 24/7/2017 بين الحزب كافة النواقص و«التشوهات» الكامنة في القانون الانتخابي الجديد والذي تم تفصيله على مقاس الطبقة السياسية الحاكمة لكي تعيد انتاج نفسها. لكنه في الوقت نفسه، بين الأهمية الاستثنائية والوطنية عموماً لهذه الانتخابات النيابية وضرورة الخوض فيها كواجب وطني وديموقراطي وشيوعي في الوقت ذاته. اليوم لن تجد الأزمة الوطنية اللبنانية العامة والمتجددة حلولاً وانفراجات إلا عبر التجديدات (التي يجب أن تكون جذرية قدر الإمكان) في طبقته السياسية الحاكمة الشديدة الاعتلال. وتمثل الانتخابات النيابية فرصة لا تعوض لإمكانية تحقيق مثل هذه التغييرات. وفي الوقت نفسه، وعبر بناء كتلة ديموقراطية شعبية علمانية حقيقة داخل البرلمان سيتجه النظام السياسي اللبناني نحو اتجاهات ديموقراطية وتقدمية بفاعلية أكبر. خصوصاً أن قيادة الحزب قد أكدت أن معركة «قوى الاعتراض الديموقراطية» اللبنانية لم تنتهِ مع إقرار قانون انتخابي مشوه ولن تنتهي مع خوض الانتخابات النيابية بل لعل المعركة ستبدأ فعلياً بعد التمكن من إيصال كتلة ديموقراطية يسارية ذات ثقل شعبي إلى المجلس النيابي.
يعبّر الحزب اليوم وعلى لسان أمينه العام حنا غريب عن توجهات سياسية على درجة عالية من النضج. وهناك خطاب سياسي يبشر بإمكانية إحداث خروقات جدية ذات آثار وازنة في الداخل اللبناني. فذلك الحديث عن «سعي الحزب إلى تكوين بلاتفورم وطني للمعارضة على مستوى الوطن بأكمله...» وذلك السعي نحو تجميع «قطب ديموقراطي علماني مدني وطني معارض يخوض الانتخابات وطنياً وكأنها دائرة واحدة»، كل ذلك يبشر فعلاً بالكثير ويضع الحزب على مساره السياسي الصحيح. وكما قال غريب «عبر الانتخابات سيتم تحويل حالة الاعتراض الكامنة في المجتمع إلى معارضة سياسية ديموقراطية تقدمية في البرلمان». وهذه هي الوصفة العلاجية الفعالة للنظام السياسي الهش والفاسد القائم في لبنان.

يعبّر الحزب اليوم عن توجهات سياسية على درجة عالية من النضج



حول مهمات «السنديانة الحمراء» اليوم

في كراسته الشهيرة حول المسائل التنظيمية «رسالة إلى رفيق»، أشار لينين إلى كون المهمة الرئيسية للحزب في مراحل العمل السلمي والشعبي تختصر بكلمتين: إلى الشعب دُر! يجب توجيه «فصائل وكتائب» الحزب من دعاة ومثقفين وسياسيين عبر حملات حقيقية تطال أقاصي الأرياف وتخترق أفقر الأحياء سهلاً وجبلاً وجرداً. حاملين برنامج الحزب وأدبياته وأفكاره ومنطلقاته، مقيمين مختلف الأنشطة والفاعليات الاجتماعية والثقافية والتوعوية. يجب على الحزب العمل الجاد لتكوين قواعده الانتخابية سريعاً في المعامل والمصانع، بين صفوف تلك القوى الشعبية الكامنة التي هي مادة النضال الديموقراطي الحقيقي والتي يدرك الحزب جيداً حقيقية وجودها خارج القيد الطائفي أو حتى السياسي المحلي. رهان الحزب الناجح يجب أن يكون عليها. عبر تمكنه من زجّها في الحياة السياسية سيتم إغناء البرلمان اللبناني والنظام السياسي اللبناني بوجوه جديدة تمثل قوى تغييرية جديدة هي قوى الشعب العامل والطبقة العاملة اللبنانية. بدلاً عن الزعامات والوجاهات الطائفية والمناطقية والعشائرية (التي صار مكانها فعلياً اليوم في متحف التاريخ السياسي) يجب على الطبقة العاملة اللبنانية أن تتمكن من توصيل قياداتها وممثليها إلى البرلمان وإلى الحكم. ففي جعبة هؤلاء تكمن إمكانيات التغيير والإصلاح والتقدم والديموقراطية، أما زعامات الطوائف من البرجوازية المحلية والوطنية فغير قادرة على أن تقدم أكثر مما قدمت: بلد مأزوم ومجتمع متأخر ومتخلف ومنقسم وتابع. حالها كحال جميع برجوازيات الوطن العربي عموماً من أقصاه إلى أقصاه.
الرهان اليوم كبير على أحفاد فؤاد الشمالي وفرج الله الحلو وجورج حلو الذين كان قد أسماهم كريم مروة في كتابه «الشيوعيون الكبار في تاريخ لبنان الحديث». والعيون عليهم في معركتهم المقبلة فنتائجها ليست لهم ولوطنهم فقط بل هي معركة اليسار العربي بأكمله وخطوة في حرب مواقع طويلة الأمد.
* كاتب سوري