في التاسع من نيسان (ابريل) ١٩٨٠، يجلس جيمس بالدوين (١٩٢٤ـــ ١٩٨٧) وجهاً لوجه مع تشينوا اتشيبي (١٩٣٠ ـ ٢٠١٣) لينطلقا في حديث حول الفن، والأخلاق، والمهمة السياسية للفن والفنانين. بعد حوالى أربعة عقود، لا تزال هذه المحادثة المنسية التي لم ينشر نصها الكامل إلا في كتيب بعنوان «حوارات مع جيمس بالدوين» (منشورات برات وستاندلي، ١٩٨٩) تحتفظ بكامل وهجها إزاء دور الفن وقيمته في مواجهة هيمنة الرجل الأبيض والأساطين المؤسسة لتفوقه وغطرسته.
غطرسة تجلت بأعتى مظاهرها في وصول دونالد ترامب الى سدة الرئاسة في بلدات العم سام بعد سنوات قليلة على وفاة أتشيبي الذي كان سيقول في هذا الأمر الشيء الكثير. يعيد ملحق «كلمات» تسليط الضوء على ما جرى في تلك المحادثة بين أعظم كاتبين من ذوي البشرة السمراء. بالدوين تقاطعت في مسيرته الشخصية والفنية كل أشكال المعاناة العرقية وتبعات الهوية الفردية (اللون، العرق، المثلية الجنسية) سيكون في طليعة مفككي أساطير الهوية البيضاء لأميركا في ثنائية الدين والعرق (إنها أرضك يا صديقي، لا تجد نفسك مدفوعاً للخروج منها، رجال عظماء حققوا أشياء عظيمة هنا، وسيفعلون مجدداً، ونستطيع أن نجعل من أميركا ما يجب أن تكونه/ رسالة من بالدوين الى احد ابناء اخوته). أما أتشيبي صاحب «أشياء تتداعى»، فيعد أحد مؤسسي أدب ما بعد الاستعمار والداعي الى الحفاظ على اللغات المحلية وتحميلها الإرث الثقافي والجمالي للشعوب المستَعمرة، لئلا يستمع التاريخ الى رواية وحيدة، رواية الرجل الأبيض بلغته التي ترافق اليوم دباباته ومبشريه وجنوده (ريثما يملك الأسُود مؤرخيهم، سيبقى التاريخ يمجد الصياد).

الانتقادات التي تعتبر العمل الفني «مسيّساً» تنبثق هي أيضاً من وضعية سياسية مستترة

افتتح أتشيبي الجلسة بتعريفه للجمالية (Aesthetic) بأنها «ميزات التفوق التي تدركها الثقافة أثناء اشتغالها على الفن». ويشرح أنّ مقاييسنا لهذا التفوق متقلبة، متغيرة دوماً، في تفاعل ديناميكي مع مطالبنا الاجتماعية، والثقافية، والسياسية: «لا يمكن للجمالية أن تتخذ مفهوماً ساكناً، غير متبدل. عليها أن تتغير كما يقتضيه الظرف، لأن الفن، بحسب ما نفهمه، صنع من الإنسان للإنسان. لذلك فإن ما يبحث عنه الإنسان في الفن هو خاضع للتغير... لسنا مجرد متلقين للجمالية، بل نحن صُنّاعها».
الفن ــ يتابع أتشيبي ــ ينبثق دائماً من سياق اجتماعي ما، ويتوجب عليه دائماً أن يكون في حوار مع هذا العنصر الاجتماعي: «للفن أغراض اجتماعية، وهو ينتمي للشعب. ليس الفن بالشيء الذي يتسكع هنا وهناك بعيداً من أي صلة باحتياجات البشر. والفن، ويمكننا قولها دون خجل، ودون مشقة، اجتماعي بامتياز. إنه سياسي أيضاً، واقتصادي. حياة المرء بأكملها تجد انعكاسها في فنه».
وفي لفتة استذكارية لما سمته الشاعرة الاميركية ادريانا ريتش (١٩٢٩ـ٢٠١٢) بـ «جولة المصارعة الطويلة، والإيروسية بين الفن والسياسة»، يصوب اتشيبي سهامه نحو أولئك الذين يدينون الفنانين حين يجعلون فنهم سياسياً. كل فن هو ضمنياً سياسي، يتابع، لكن الانتقادات التي تعتبر العمل الفني «مسيّساً» تنبثق هي أيضاً من وضعية سياسية مستترة، معارضة للفنان نفسه لأنه يقوض سعادتها في التعايش مع الستاتيكو القائم:
«أولئك الذين يقولون لك «لا تضع الكثير من السياسة في فنّك»، ليسوا من أهل الثقة. لو دققتَ جيداً، ستجد أنهم الأشخاص ذاتهم المبتهجون بالوضع القائم، كما هو. ما يقولونه بالضبط لا يتعلق بعدم الحديث بالسياسة، بل بعدم إزعاج المنظومة أو السيستم. انهم منخرطون في السياسة بقدرنا تماماً، الفرق الوحيد هو أنهم في الطرف المقابل». ثم صوّب أتشيبي وجهة مداخلته نحو غاية الفن، وبالتحديد الفن الأفريقي، متحدثاً عن تقليد الشعب الذي ينحدر منه، وهو شعب الإيبو (IBO)، ليوضح الهدف الأساسي لكل فن: «إذا نظرتم الى جمالياتنا... ستجدون أن الفن هو في خدمة الإنسان. لم يُخلق الفن للطغيان وتدمير الإنسان، بل خلقه الإنسان من أجل الراحة والرفاه. إن فننا مرتكز إلى الأخلاق. قد يبدو الأمر من الطراز القديم هنا، لكنه ليس كذلك بالنسبة الينا. آلهة الأرض عند شعب الإيبو هي آلهة الأخلاق. إن الموبقات التي ترتكب هي موبقات ضد الفن. إذن سترون أنه في جمالياتنا لا يمكن البتة تجاوز الأخلاق. الأخلاق عنصر أساسي في طبيعة الفن».

مداخلة بالدوين والصوت الدخيل

مستعملاً ـــ كما كان يحلو له كثيراً ـــ كلمة «شاعر» بالمعنى الأعم الذي يشمل كل فنان، وأي شخص ذي «استعداد» شعري، رد جيمس بالدوين مؤكداً على القيمة الأخلاقية الأساس للفن، موسعاً في بُعدها الإنساني:
«حين تكلم تشينوا عن الجمالية، تحت هذا المصطلح ــ لو فكرتم ملياًـ ترقد كلمة الأخلاق. وتحت هذه الكلمة الأخيرة، نواجه أنفسنا بالطريقة التي نعامل بها بعضنا البعض. هذا هو مفتاح أي أخلاقية. بثبات، قضية المعاملة هذه تتجه نحو علاقات الأعراق».
(فجأة، كأنه توكيد على جملة بالدوين الأخيرة، تنقطع المحادثة بسبب صوت دخيل يبدو كأنه قد اخترق النظام الصوتي التقني للأوديتوريوم. الصوت الذي بدا كأنه قد انسكب في الميكروفون قبالة بالدوين كان يصرخ بما يلي: «عليك أن تقطع هذا الحديث فوراً سيد بالدوين، لا يمكننا الاستمرار بهذه المهزلة»). عند هذه النقطة، أمسك بالدوين الميكروفون بغضب ممزوج بحزم وتوجه الى الجمهور المصعوق من المفاجأة: «ورغم ذلك سينهي السيد بالدوين جملته. وسأقول لك يا صاحب الصوت، كائناً من كنت، وحتى لو قتلتني في الدقيقتين القادمتين، إن عقيدة تفوق الرجل الأبيض الذي يقوم عليها العالم الغربي اليوم قد أزفت ساعتها. إننا في يوم احتضارها. لقد انتهت اللعبة».
وسط تصفيقات الحضور الحماسية، استعاد ارنست شامبيون مدير الحوار وبروفسور من سريلانكا للدراسات الإثنية، المبادرة لضبط القاعة، موضحاً «أننا في عين الاعصار، لكن الحديث الذي نسمعه هو في غاية الأهمية. لذلك سنأخذه على أعلى قدر من الجدية». اختفى بعدها الصوت الدخيل ليكمل بالدوين مداخلته: «يُصنع الشاعر من الشعب، لأن الشعب يريده. أعرف تماماً الثمن الذي يدفعه الفنان. أعرف الثمن الذي يدفعه الإنسان. وأنا هنا لأقول «شيئاً ما» قد يمكن للشاعر فقط قوله. نحن نحاول أن نريكم شيئاً ما. ويمكن أننا فقط في هذه اللحظة نقدر أن نريكم إياه. لكن ليس من أموال فيه».
وفي إجابة على سؤال الجمهور، يبني اتشيبي على ذلك الـ «شيء ما» الذي ذكره بالدوين: «هناك شيء نحن (أي الكتّاب السود) نعلق عليه أهمية كبيرة، وأظن أن على الجميع الالتزام به. نحن ملتزمون بمنهج تغيير وضعيتنا في هذا العالم. لقد التزمنا بطريقتكم ردحاً من الزمن ويظهر أن هناك مشكلة عند هذه النقطة. نحن سنقدم لكم إذن جمالية جديدة، ليس هناك أي شيء معيب في الموضوع. لقد فعل بيكاسو ذلك عام ١٩٠٤ بعدما رأى ما آل اليه الغرب وكاد يختنق، ذهب الى الكونغو، الى الكونغو «المزدرى»، واستحضر فناً جديداً، شيئاً يقول إنه نفخ الروح في فنه. أظن أنّ أمراً مشابهاً سينقذ فنونكم بأسرها. أظن أننا على صواب، ولو كنا على خطأ لن يكون الأمر مضراً. لن تكون الأمور أسوأ مما هي عليه الآن».
مقدّراً تبعات جملة اتشيبي الأخيرة، علّق بالدوين:
«نحن في ورطة. هناك سبيلان حين يكون المرء في ورطة. السبيل الأول حين نعرف أننا في ورطة، وعندها يمكن أن نتلمس طريقاً للخلاص. البلد بأسره في ورطة، ليس فقط الأشخاص الذين يقدرون الموقف بالصواب اللازم، ليس فقط الأشخاص الذين يعون تماماً أنهم ليسوا من البِيض. الأشخاص البِيض في هذا البلد يظنون أنهم بِيض لأن «البشرة البيضاء هي حالة للذهن». كتبت لصديقي مالكوم اكس ان البشرة البيضاء هي خيار أخلاقي. يمكنني الكتابة إذا امكنك العيش، ويمكنك العيش إن كان بمقدوري أن أكتب».
و«حول عدم وجود أدب عظيم دون قسوة عظيمة» بحسب وصفة جوزيف كونراد، أجاب أتشيبي:
«يزهر الأدب العظيم في الاضطرابات، والكرب والقسوة. لكن دور الكاتب يجب أن يكون واضحاً. لا يمكن أن يكون في جانب القمع. لا يجب الخلط أو الالتباس. أكتُبُ عن القسوة؛ أكتب عن الشر؛ أكتب حول الاغتصاب. أكتب حول الجريمة. لكن هذا لا يعني أني الى جانب الجريمة أو الاغتصاب. الأمر بمنتهى السهولة».
مستحضراً المثل الشعبي الذي يردده شعب الآيبو: «لا ينتصب شيء بعظمة، الا وينتصب شيء رديف إزاءه»، يوضح اتشيبي أنّ الفن العظيم يقوم على التعدد، وينبثق من قدرة الفنان على معانقة ـ بحسب عبارة والت ويتمان الأثيرةـ هذا التعدد:
«العقل الأحادي يقود الى التوتاليتارية في كل الأمور، الى جميع أنواع التعصب. وأظن أنه من الضروري حين يقول النظام القائم شيئاً، أن يهيئ الفنان نفسه ليكون في الجهة المقابلة».
سيستذكر اتشيبي بعد سنوات على هذه المحادثة صديقه الصلب بالدوين، في حديث لجمعية القلم الأميركية: «كانت بالدوين رؤيوياً وخاصة في ما ذكره حول نهاية هيمنة الرجل الأبيض، وعادة ما تكون لعديمي الخيال مشاكل جمة مع رؤى الأنبياء. لقد قال بالدوين لأحد أبناء إخوته يوماً: «أنت تتحدر من سلالة عظيمة من الشعراء، سلالة هي الأعظم منذ هوميروس. أحدهم قال «في كل تلك الأوقات/ حين أحس بالتيهِ العظيم/ تهتز زنزانتي/ وتسقط من معصميّ القيود».

المراجع:

1989,Conversations with James Baldwin (Edt. Pratt and Standley
موقع «جمعية القلم الأميركية» (حين التقيت بجيمس بالدوين، مقال لتشينوا اتشيبي ٢٠٠٧)