في روايتها «بروتوكول» (دار الساقي)، تعالج الكاتبة اللبنانية آمال البابا مسألة اجتماعية أسرية حيث يُبنى وعي الطفلة حول علاقة والديها خلال السرد. وبحياد حذق، تنتصر الكاتبة للأم، حتى نجد في الرواية صرختها البريئة والملتاعة! من الصفحة الأولى، تكشف لنا الكاتبة مصير شخوصها. نعرف أنّ الوالدة تموت، ويخبر الأب ابنته مبتسماً، أنّ أمّها ماتت. من هذه المفارقة، بين ابتسامة الأب ووفاة الأم، تطلق الكاتبة حكايتها، عن بنت تروي قصة والدتها من خلال لغة بسيطة وسلسة وبناء تفاصيل تقلب بمجموعها وجهة النظر التي تبدأ في مكان وتنتهي في آخر. إذ إنّ صورة الأم التي تسلك سلوكاً عصابياً وغريباً في البدايات، يصبح في الجزء الثاني من الرواية أشبه بسلوك الضحية، وهدوء الأب واستيعابه لتصرفات الزوجة، يصل إلى القارئ في النهاية، على أنّه سلوك القتل بالدم البارد. لا تخبرنا الراوية هذه الحقائق، إنّما تجعلها تتشكل في وعينا. ومن هنا تجيء أهمية «بروتوكول»، وهي رواية الكاتبة الأولى.

عبر حكاية الأم التي تزوجت كي تهرب من واقع منزل أهلها، تنقل الرواية ثقافة مجتمع يتعاطى مع النساء وفق موروث قائم على التجنّي عليهن. لا تجرب الكاتبة إدانة هذه الثقافة، لكن بنقلها المنصف مارست أكثر أشكال الإدانة شفافيّة. فالرواية عندها هي الواقع كما هو. لم تجنح الطفلة إلى التخيّل، وإنّما مارست فقط وعيها الطفولي إزاء المواقف والأشياء. عنصر جعل الرواية تفتقد إلى الفنيّة العاليّة، في الوقت ذاته، جعلها مشوقة لا ننتظر نهايتها. نرى الحياة كيف تبنى في السرد بالتدريج، قبل انهيارها في الواقع مرة واحدة. والحكاية التي بدأت برحيل الأم انتهت برحيلها أيضاً. بالتالي، ما نقرأه خلال الصفحات، لم يكن سوى توثيق للحظة الرحيل الطويلة التي امتدت منذ خروجها من منزل والدها حتى خروجها محمولة على صفيح حديدي إلى القبر. هذه الأم، التي يهمنا أن نراها نموذجاً، لم تعبر في الحياة. كلّ ما عاشته كان انتظاراً لزواج أختها الكبرى كي يحين دورها، ثم خسارة حبيب تبحث عنه بعد سنوات طويلة بين الناس في «المول» ولا تجده، وانتظاراً لأثاث جديد يحضره الزوج من أجل تحسين الشرط الاجتماعي لزواج بناتها الأربع، وانتظاراً لمولودٍ ذكر علّ العلاقة مع أهل زوجها تتحسن، وهو الأمر الذي لم يحدث. تجعلنا الكاتبة نستغرب سلوك الأم: نزولها من السيارة ومتابعتها الطريق سيراً إلى المنزل، وسرقتها لمصروف بناتها كي تدخره لهن لدى زوجها مقابل قصاصة ورق. تدفعنا آمال إلى استهجان سلوك الأم قبل أن نجد أنفسنا، ندافع عن هذه المرأة المعذبّة.
تبني الكاتبة حكايتها وفق أسلوب يمتثل لإدراك الطفلة، والطريقة التي تعرّف بها الأشياء من حولها: إذ إنّ «الأمر الخطير» الذي تشعر بهِ مايا، دون أن تعرف معناه على وجه الدقة، هو الطلاق حيناً، وكره الوالدة لحماتها. أمر نقلته مايا لجدتها، لتنقل إلى المستشفى من أجل تقطيب جبينها بعدما دفعتها والدتها إلى الأريكة. تسمي مايا يومها في المستشفى «اليوم السعيد» حيث الهدايا والاهتمام غير المعهود بها.

نرى الحياة كيف تبنى في السرد بالتدريج
ترمي الكاتبة في كلّ فصل ما يقودنا إلى الفصل الذي يليهِ، وتخبرنا مايا عن عالم والدتها بشيءٍ من السخرية. تحدثنا عن «الشرطوطة» التي تستخدمها الوالدة للتنظيف وضرب الزوج، عن «الخازوق» الذي تجهل آلية عملهِ، في حين، تخاف الأم على عذرية بناتها. وتحار في طريقة لإنجاب ذكر يصون حق العائلة من الورثة في وجه الأقارب. تكتشف مايا خلال الصفحات زيف الصورة التي تقدمها الكتب المدرسية عن الأسرة السعيدة: الأم الحنون والأب الرؤوف والجدة التي تحكي الحكايات. الأمر الذي ملأ رأس الطفلة بإشارات الاستفهام. لم تفكر آمال بتوريتها في السرد، إنّما جعلت روايتها نوعاً من الوعي العميق الذي يأخذ صورة السذاجة.
يعدّ الزوج لزوجته بعدما اكتشفوا إصابتها بـ «ذلك المرض» برتوكولاً طبياً، يعتمد على الأعشاب والخلطات الغريبة الذي ترافق مع العلاج الطبي التقليدي. يحبط الزوج الورع من عدم استجابة زوجته لخبرته في الطب النبوي، وكان طموحه جعلها فأراً لتجاربهِ. أمر يدفعه إلى التوقف عن علاجها، إضافة إلى حرمانها من الطعام ومعاملتها كما لو أنّها شيء ينتظر نفوقه عن آخرهِ. إلى درجة تعتقد معها مايا أنّ ما قتل والدتها ليس السرطان وإنما الجوع والمعاملة السيئة. ولذلك، لم تكن تغفر لوالدها الذي سيذهب ويعيش حياته بعيداً عن بناته الأربع. سترث مايا «شرطوطة» والدتها وتتابع تنظيف المنزل، بعدما لوثته أحذية المعزين، الأمر الذي لم يكن ليحدث لو أنّ والدتها ما زالت حيّة.
تشبه رواية آمال البابا انكشاف الحجب عن عقل الطفل. إذ تنقل تلك الفترة التي يبدأ فيها الأطفال بإدراك بشاعة العالم من حولهم، أو لا مثاليته، واختلافه عما جاء في الكتب المدرسيّة، وعن أفكار الآباء المحبين!