بعد الحرب العالمية الثانية، من عام 1945 حتى عام 1990، شهد العالم لحظات مصيريّة كادت أن تفجّر صراعات مباشرة بين القوتين الكبيرتين آنذاك. ودار بحث معمّق داخل الدوائر المغلقة في كلّ منهما حول الكثير من الأفكار والاقتراحات التي نُفِّذ بعضها، فيما بقي بعضها الآخر فكرةً للتاريخ. وكان العلم طوال هذه الفترة، تماماً كما في أيّة حالة صراعيّة، ميداناً تنافسيّاً أساسيّاً في حركة تطوريّة صاعدة.
سبر أغوار الكون

على الصعيد العلمي، كان للعلوم النوويّة وعلوم الفضاء الحيّز الأكبر من الاهتمام. ورغم أنّ العالم كان قاب قوسين أو أدنى من ولوج خطر اندلاع كوارث نوويّة، إلّا أنّ هذه المرحلة كانت من دون أدنى شكّ مرحلةً عظيمةً في السباق على استكشاف الكون. ففي حمأة الصراع بين المنظومة الرأسمالية في الولايات المتّحدة وأوروبا، وبين المنظومة الاشتراكية في الاتّحاد السوفياتي والصين وشرقي أوروبا، شهد البحث العلمي اهتماماً متعاظماً وتدفقت مصادر التمويل والدعم على قطاع علوم الفضاء بنحو غير مسبوق. مركبات فضائية سوفياتية وأميركية تسابقت على سبر أغوار الكون. انطلقت الكلبة «لايكا» في مسبار فضائي، ثم دار «غاغارين» أوّلاً حول الأرض، وكان أول إنسان يخرج إلى الفضاء، فلحقه «أرمسترونغ» ومجوعة من رواد الفضاء الآخرين الذين مشوا فوق سطح القمر. وصلت مركبات السوفيات أوّلاً نحو كوكب الزهرة، فيما تمكنت مركبات الأميركيين من الوصول إلى المرّيخ. لم تبخل ميزانيّتا الدولتين بتقديم كلّ ما تطلّبه العلم في تلك المرحلة التنافسيّة. وبين رحلات الفضاء والسباق نحو الكواكب والشمس واستكشاف خصائص الكون البعيد، ظهر تنافس آخر في تطوير التقنيات النووية السلمية من مفاعلات التخصيب والماء الثقيل والخفيف ومفاعلات رائدة أخرى، وتنافس في تقنياتها الحربية من القنبلة النووية الأولى إلى القنبلة الهيدروجينيّة، وصولاً إلى «تسار» أكبر سلاح نووي عرفته البشرية في تاريخها.
لكن بين هذه الاكتشافات الرائدة، ظهرت أفكار لم تُطبَّق وظلّت طيَّ الكتمان والنسيان. وهي، على غرابتها، تؤكّد حماوة التنافس العلمي، سواء النظريّ منه، أو ذو التطبيقات العمليّة. ونورد هنا بضعة أمثلةٍ على تلك الأفكار التي لم تصبح واقعاً قَطّ:

تفجير قنبلة نووية على سطح القمر

في صيف عام 1959، كانت دوائر القرار الأميركية العليا تبحث جديّاً فكرة إجراء اختبار نووي حقيقيّ فوق سطح القمر من طريق إرسال رأس نووي صغير على متن إحدى المركبات الفضائية وتفجيره هناك. وكان الهدف من وراء ذلك إجراء اختبار نوويّ يشكّل عرضاً للقوّة من أجل ردع المنافسين وإثبات تفوّق بلادهم. أمّا الهدف العلمي المعلن، فكان اختبار التفاعل النووي فوق سطح القمر وفي البيئة القمرية. وقد وصل المخطّطون فعلاً إلى مرحلة تحديد مكان الاختبار، وكان مقرراً في موقع وسطي بين الجانب المضيء والجانب المظلم من سطح القمر، وحُدِّد زمنه بدقة ليكون تأثيره الأكبر مرئيّاً بنحو واضح من كوكب الأرض، وتحديداً من البقعة الجغرافية التي تتوسّطها مدينة «موسكو». لم تخرج تلك الفكرة إلى التطبيق بسبب مخاوف من عدم القدرة على توقّع تأثيراتها على كوكب الأرض عموماً، خاصةً أن لا غلاف جوياً للقمر، ولا دراسات كافية في حينه عن واقعه الجيولوجي. ولعلّ الخوف أيضاً ارتبط بردود الفعل وانفلات الأمور خارج نطاق السيطرة. ومن بين العلماء الذين عملوا في هذه الدراسات كان «كارل ساغان» الذي أصبح لاحقاً من العاملين في مجال تبسيط العلوم وتقديمها إلى الجمهور الأوسع.

سلاح لايزري فضائي

قد تكون هذه الفكرة قريبةً من مشاهد أفلام الفضاء، لكنّ مسألة أن تتسلّح المركبات الفضائية بأسلحة لايزرية كي يتمكّن بعضها من اصطياد بعض، وإسقاط الخصوم من المدار، فكرةٌ قابلةٌ للتطبيق، وعمل عليها السوفيات جدّياً في الثمانينيات. وفي مسار متوازٍ، كان الأميركيّون يعملون على تحقيقها أيضاً. في السبعينيات والثمانينيات وضع الاتحاد السوفياتي خطة عمليّة لإنشاء مركبات غير مأهولة تحمل على متنها لايزر عاملاً على مخزون ثاني أوكسيد الكربون، ولديه قدرة تفجيرية كبيرة تستطيع إسقاط أي قمر اصطناعي أميركيّ. في عام 1986 بدأت مرحلة الاختبار الفعلي لهذا السلاح، وحُمِّل على مركبة فضائيّة، وأُطلق بعد عام تقريباً إلى الفضاء. إلّا أنّ الاختبار الأوّل فشل بسبب عدم وصول القمر الاصطناعي إلى المدار المحدّد له، وكانت هناك ضرورة لإعادة إجراء التجربة لاحقاً. غير أنّ دخول الاقتصاد السوفياتي أزمةً كبيرة في حينه، وبدء مشكلاته السياسيّة التي مهّدت لتفكيكه، جعلت المسؤولين عن البلاد يصرفون النظر عن ذاك المشروع، ولم يدخل حيزه العملي.

مرحلة الحرب الباردة كانت مرحلةً عظيمةً في السباق على استكشاف الكون



لفّ شريط نحاسي حول الغلاف الجوي للأرض

قرّر سلاح الجوّ الأميركي ومعه وزارة الدفاع مدّ 480 مليون شريط نحاسي في مدار دائري حول الأرض من أجل خلق حلقةٍ دائريّةٍ حولها، تماماً كحلقات كوكب زحل، بهدف استعماله لتحسين قدرات الاتّصالات العسكريّة البعيدة المدى. وبالفعل، بدأت الخطوات الأولى لتنفيذ هذا المشروع بين عامي 1961 و1963، وبوشِر بتركيب الخطوط الأولى في المدار. غير أنّ تطوّرات متسارعة جعلت المخططين يصرفون النظر عن الفكرة بسبب تكاليفها الاقتصاديّة من جهة، وبسبب اكتشاف وسائل اتّصال أرضيّة أكثر فعالية وأقلّ كلفة من جهة أخرى. وبالفعل، ما زال على بعد مئات الكيلومترات، تنتشر حتّى اليوم النقاط الأولى التي وضعها الأميركيون في مسار دائري حول الأرض لتثبيت الأشرطة النحاسيّة حولها، لكنّها ظلّت فارغة، ولم ترَ تلك الفكرة النور على الإطلاق، وقد تخطّاها الزمن سريعاً وبأشواط في عصر التكنولوجيا والاتّصالات الحديث.

محطة «الحريّة» الفضائيّة

في عهد الرئيس ريغان، كان للولايات المتّحدة مشروع فضائي كبير لإنشاء محطة فضائية ضخمة تحوي مختبرات وأجهزة رصد وقياس ومعدّات لإصلاح المركبات الفضائيّة وغيرها، وتشكّل مقر إقامة دائمة لعشرات روّاد الفضاء، وذلك في الفترة الواقعة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. كان الهدف من هذه المحطّة تخطّي الإمكانات الموجودة في محطّة «مير» السوفياتيّة التي كانت أكبر محطّة فضائيّة دوليّة في حينه، وأعلن ريغان مشروعه في خطاب «حال الاتّحاد» الذي يلقيه الرئيس الأميركي كلّ عام، وذلك عام 1984. استمرّ التخطيط لمحطّة «الحريّة» حتى عام 1990 عندما قرر المسؤولون السياسيّون الأميركيّون التخلّي عنها نتيجة تكاليفها الهائلة، وإثر انتهاء الحرب الباردة، ومعها انتفاء الحاجة إلى إثبات التفوّق التي كانت ملازمةً لها. وبعد سنوات قليلة، تحوّل هذا المشروع إلى فكرة دوليّة اشتركت في تخطيطها وتنفيذها وتمويلها مجموعة كبيرة من الدول ضمت الولايات المتّحدة وروسيا والدول الأوروبية والصين واليابان، في إطار مشروع عُرف باسم «محطّة الفضاء الدولية» التي وصلت كلفتها إلى نحو 100 مليار دولار، وطُوِّرَت بجهود جماعيّة مشتركة.

تعاون دولي أو منافسة حامية؟

ركّزت بعض الأدبيات العلميّة المعاصرة على أهميّة التعاون الدولي المشترك لتطوير التكنولوجيا والعلوم، لأنّ التعاون يخفض الأكلاف ويوحّد الجهود ويسرّع الوصول إلى النتائج المرجوة عبر نقل الخبرات وتشاركها. إلّا أن البرامج والأهداف النهائية لأيّ مشروع علمي هي أهداف ذات طبيعة سياسيّة في نهاية المطاف، ويصعب فعليّاً الوصول إلى تعاون حقيقي عميق يتخطّى إطار الشكليات الدبلوماسية أو المواضيع غير الاستراتيجيّة. في هذا السياق، يبرز التنافس العلمي محفّزاً للتطوّر والتقدّم، وليس عائقاً له.
إن السباق العلمي الذي ساد تلك الحقبة التاريخيّة، وكان جزءاً من الصراع السياسيّ الدائر في العالم، حمل معه فرصاً مهمةً للعلم، إذ خصّصت الدول الكبرى ميزانيات كبيرة للجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وجنّدت فرقاً علميةً من نخبها الفكرية والتقنية والهندسية لإنجاز المهمّات المطلوبة. كذلك تداخلت المهمات العلمية المدنيّة بتلك العسكريّة، واستفاد المجالان من بعضيهما. ولا شكّ في أنّ هذا المسار التنافسيّ كان مفيداً لتطّور العلوم، خاصّة في مجال الفضاء والاتّصالات والتقنيّات وعلوم اللايزر والعلوم النوويّة، بالإضافة إلى قطاع النقل الجوي والطيران الحربي، وكان آخر انعكاسات هذا الميدان اختراع شبكة الإنترنت التي بدأت في تطبيقات عسكرية لنقل المعلومات والبيانات، وانتهت شبكة عالميّة تربط عشرات مليارات الأجهزة والمنصّات في العالم.
ينفتح العالم اليوم على ميادين تنافسيّة عسكرية ومدنية جديدة تحديداً مع استعادة روسيا لدورها في المجال الأوّل ودخول الصين إلى المجال الثاني من بابه العريض، ليعود التنافس مع الولايات المتّحدة وأوروبا واليابان ودول صاعدة جديدة حول العالم، ولعلّ هذا الصراع سيحمل معه في المستقبل خروقات جديدة في علوم الأرض والإنسان والفضاء.