«أنشودة للبساطة» ليس عنواناً لأحد أمتع الكتب في العربية فحسب، إنما يصلح أيضاً ليكون تعبيراً عن حياة كاتبه وإنجازه الأدبي والنقدي واللغوي على السواء. يحيى حقي (1905-1992) الذي تحتفل الثقافة المصرية بالذكرى الــ 25 على رحيله في كانون الأول (ديسمبر) المقبل، ابن الذوات، ذو الأصول التركية، درس الحقوق في مدرسة أصحاب الياقات البيضاء في مصر.
عمل سفيراً متنقلاً بين باريس وروما ولندن وأنقرة، وبعض البلاد العربية. مع ذلك، كان مخلصاً لمنطقة السيدة زينب الشعبية والمناطق المحيطة بها حين دخل عوالم الأدب. نقل لنا ببساطة متناهية هذه العوالم، وانتقل الأدب العربي ـــ على يد عدد من أبناء جيله - نقلة أخرى، بعدما كان مقتصراً على الترجمة والتعريب أو الكتابة «الاستعمارية» التقليدية. كتب حقي «قنديل أم هاشم»، إحدى أعذب روايات الأدب العربي، وظل معروفاً بها، حتى إنّ مجرد ذكرها كان يثير غضبه كأنه لم يكتب غيرها. كتب عشرات الأعمال الأخرى مثل «البوسطجي»، «دماء وطين»، «أم العواجز» وغيرها بأسلوبه الهامس، ولغته الخاصة، تلك اللغة التي تبتعد عن الغموض، والتهويل، والصراخ، والتعقيد، والخطابية. اللغة بالنسبة إليه وسيلة لنقل الأفكار، إذا كنت لا تجيدها، فأنت لا تستطيع أن تفكر. لذا كان ينفر من «اللت والعجن»، والكليشيهات الجاهزة المعدة سلفاً. يقضي أياماً يروح ويجيء من أجل لفظة دالة، أو من أجل الكلمة الأولى في نصه القصصي أو مقالته الصحافية. لم يخجل ابن الذوات - بل ربما عمد على ذلك كرد فعل ينفي به برجوازيته - إلى تطعيم كتاباته بالعامية ابنة الخيال الشعبي، والأمثال الشعبية والعبارات الدارجة. سيرته حملت عنوان «خليها على الله»، و«كناسة الدكان». أصبحت هذه العبارات جزءاً لا ينفصل من السرد والوصف والحوار داخل أعماله. يحيى حقي لم يكن مجرد كاتب كبير، عاشق للغة، بل ألقى بحنانه الأبوي على أجيال كاملة من الكتاب جاءت بعده. احتضنها وتبناها وقدمها عندما رأَس تحرير مجلة «المجلة» في ستينيات القرن الماضي. لذا كان هو «الأب الحنون» والأستاذ. في ذكراه، يقيم المجلس الأعلى للثقافة احتفالية كبرى يوم 9 كانون الأول، إلا أنّه لم يعلن عن تفاصيلها حتى الآن.
محمد شعير