البحث في «التهديد» الذي تمثّله كوريا الشمالية لم يمنع الرئيس الأميركي من تحويل انعقاد قمة «أيبك» (منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ) إلى مناسبة جديدة لتأكيد رؤيته الخاصّة بتعزيز مكانة الولايات المتحدة على الصعيد التجاري. فإلى جانب انشغاله بالسجال الجاري مع كوريا الشمالية على خلفية تطوير برامجها النووية ثمّة حيّز أساسي في خطاب الرجل لقضايا التجارة الدولية التي يعتبر أنها لم تكن «عادلة» في السنوات الأخيرة، وصبّت في مصلحة تعزيز موقع الدول الآسيوية على حساب الولايات المتحدة.
الرؤية كانت قد تبلورت سابقاً خلال محطّات عديدة أهمّها الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ولكن بحثها في هذه القمة يكتسي أهمية كبيرة بسبب الوزن التجاري الكبير لدول مثل الصين واليابان و...الخ. ترامب أوضح أن الولايات المتحدة مهتمّة بزيادة التبادل التجاري مع هذه الدول ولكن على قاعدة جعل التنافس التجاري معها متوازناً، بحيث لا يكون دائماً على حساب الاقتصاد الأميركي، وهو لم يستثنِ في هذا السياق حتى حلفاءه، إذ حُمِّلت اليابان مثلها مثل الصين - وان ليس بقدرها- مسؤولية الخلل الحاصل في الميزان التجاري بين دول آسيا مجتمعةً والولايات المتحدة.

التصويب على بكين

في خطابه أمام القمّة المنعقدة في فييتنام كرّر ترامب انتقاده للعولمة التي تقودها مؤسّسات مثل منظمة التجارة العالمية وسواها، فبالنسبة إليه الخلل الحاصل هو بسبب القواعد التي أرستها المنظمة والتي تتيح لدول لا تعترف بحقّ الملكية الفكرية حرية الوصول إلى أسواق أكثر، وفي المقابل اشتراطُها على الشركات الأميركية التي تريد دخول أسواقها إقامة مشاريع مشتركة والاستفادة من تكنولوجياتها. هو يريد من هذا الانتقاد للصين تحديداً إما السماح للشركات الأميركية بالوصول إلى السوق الصينية من دون قيود تضعها الدولة هناك على تدفُّق الرساميل والبضائع، أو في حال تعذُّر ذلك إجبار الصين على التقيُّد بحقوق الملكية الفكرية التي أقرّتها منظمات العولمة الأساسية وبينها منظمة التجارة العالمية لكي يصبح وصولها إلى الأسواق متناسباً مع حجم ما تنتجه خارج إطار استعمال التكنولوجيات «المسروقة» أو المُستعملة في دول أخرى. في الحالتين ثمّة رغبة بتقييد وصول الصين إلى الأسواق الدولية بالشكل الذي يحصل حالياً، والذي ترى إدارة ترامب انه يخالف قواعد العولمة الأساسية لجهة إرساء تجارة عادلة بين الدول. وهو ما عبّر عنه في خطابه أمام المجتمعين في فييتنام بالقول: «الولايات المتحدة ستلتزم بسياسات التجارة العادلة والمساواة من الآن فصاعداً، وينبغي أن نضمن أن تكون جميع الصفقات ضمن القواعد المتفق عليها، ونتوقع من شركائنا أن يبرموا الصفقات التجارية وفقاً لتلك القواعد أيضاً».

تجاوُب الصين

الصين من جهتها، وبسبب رغبتها في الإبقاء على حرية الوصول إلى الأسواق الأميركية من دون تعقيدات (بحيث تضمن استمرارها في قيادة موجة العولمة الحالية) أبدَت ولأوّل مرة تقريباً تجاوباً مع طروحات ترامب الخاصّة بتسهيل وصول الرساميل والبضائع الأميركية إلى السوق الصينية. إذ سبق انعقاد القمّة اتخاذُها إجراءات لتحسين مناخ الاستثمار فيها، عبر رفع القيود المفروضة على وصول الشركات الأجنبية إلى أسواقها من خلال جملة من التدابير، أهمُّها: السماح للشركات الأجنبية بحيازة حصة أغلبية في المصارف والشركات المالية الأخرى فيها، بحيث تتمكن وفقاً لوزير المال الصيني من المساهمة فيها بدرجة كبيرة تصل إلى حدّ حيازة 51% من الشركات العاملة إما في مجال السمسرة وإدارة الودائع، أو في مجال المتاجرة بالعقود الآجلة. وهو ما يتطلّب بالضرورة السماح لها أيضاً بإحداث تراكم مالي لا يكون مشروطاً كما في السابق بمشاركتها أسرارَها التجارية. والحال أنّ هذا التوجُّه قد عُزِّز لاحقاً من خلال إشارة الصين إلى رغبتها في تأكيد حماية الملكية الفكرية، عبر شنّ حملات على جرائم الغشّ والتزييف. وهو من ضمن الأمور التي تشكّل هاجساً لدى الولايات المتحدة في سعيها للحدّ من الهيمنة التجارية الصينية لناحية اعتمادها المفرط على توطين التكنولوجيا بعد استنساخها محلياً.

خاتمة

كلُّ ذلك يصبّ في مصلحة تعزيز المنحى الذي تقوده واشنطن في عهد ترامب لتصحيح ما تعتبر انه خلل في إدارة عمليات العولمة، عبر التوجُّه مباشرةً بالنقد إلى القوى التي تقودها الآن، وعلى رأسها الصين. والإشارة التي تلقّاها ترامب من بكين لناحية رفع القيود عن التدفُّقات المالية الآتية إليها وفقاً لقواعد جديدة في إدارة عملياتها التجارية يمكن اعتبارها نقطة تحوُّل في العلاقة الاقتصادية بين البلدين، بحيث تكون منافع العولمة والمبادَلة التجارية متناسِبة، وغير مقتصرة على جانب واحد. وهذا مهمّ جداً في ظلّ الحملة التي يقودها الرجل لتصوير الولايات المتحدة على أنها ضحية القيادة الصينية الحالية للعولمة، حيث سيصبح من الصعب عليه بعد رفع القيود الصينية عن التجارة الادعاء بأنه لا يلقى معاملة تجارية عادلة، أو يخسر الملايين من الوظائف لمصلحة الشركات الأجنبية التي تعمل في بلاده أو تصدِّر منتجاتها إليها.
* كاتب سوري