أقف بمواجهة البحر، أشاهد الأمواج تضرب الشاطئ الصخري وتترك الزبد يطفو ويتكاثر كرغوة كثيفة. أقف في مدخل الكهف الصخري، على الحوائط آثار الدخان والسُخام القديم. منذ سنين، وقف مكاني عسكريون ألمان، ضباط ذوو رتب عالية، تفقدوا الكهف، هل كان متسعاً؟ هل كان مشبعاً برائحة حريق الحرب؟
حدث انهيار في حوائط الكهف منذ سنوات، ردمت نواتج الانهيار معظم فراغ الكهف، لكن الجزء الأهم لم يُردم. يضع جنود متعجلون مكتباً بسيطاً، وخزانة طويلة للملفات، ومشجباً لتعليق الملابس، وسارية علم قصيرة تحمل علماً نازياً ضخماً، لا أراه كاملاً من فرط ضخامته، لم أعد أرى الأشياء كاملة هذه الأيام. أُدرك من خلال الألوان وأجزاء الصليب المعقوف أنه علم ألمانيا النازية. يضع العسكري على المكتب تليفوناً أسود، هو أهم ما في الكهف.
يرنّ جرس التليفون فجأة، أظنه تليفوني القابع في جيبي، لكن سكونه ألغى الظن. ألتفتُ إلى الداخل وأدخل في عمق الكهف.
أجد روميل جالساً على الكرسي يوزع أوامره على الضباط المحيطين، كل عدة دقائق يرن جرس التليفون ليتلقى معلومات أو أوامر من ألمانيا، تليفونات من عرين الذئب. ينصت تماماً، يترك سيجارته مشتعلة مصغياً لما يحمله التليفون من كلام، لا يعلق، روميل لا يصدر قرارت متسرعة، يضع سماعة التليفون ليغلق الخط، يطلب من الضباط الخروج، يجلس بالكهف وحده مفكراً فيما وصله من معلومات.
يرفع روميل السماعة مرة أخرى، يجلس على الكرسي وظهره مستقيم، ظهر عسكري اعتاد الاستقامة ولم ينحن أبداً. يصرخ بالألمانية في التليفون، لا أفهم كلمة مما يقول، لم يكن روميل الذي قرأت عنه، لم أجده هادئاً كما عرفته من خلال الكتب والمقالات. يضع السماعة جانباً بغضب ويقول في شبه اعتذار: آسف، نحن على وشك أن نُهزم.
يبقى جندي واحد في الكهف، يقف ثابتاً في مواجهة روميل، معاونه، ربما خادمه. ينتظر إشارة منه حتى يأتيه بأوراق أو أحد الملفات، يحضر القهوة له، يصب له القليل من الكونياك. صندوق الكونياك أوشك على النفاد، يحتار الجندي، هل يبلغ روميل بهذا أم يطلب من كتيبة الإمداد صندوقاً آخر؟ لن يؤخر رجال الكتيبة الطلب، لكن رفاهة الكونياك تُظهر روميل كأنه ضابط مدلل. روميل لا يشرب الكحول إلا بعد فراغه من مهماته كضابط، كأس الكونياك هو جائزته الصغيرة التي يحصل عليها قبل النوم.
يطلب مني الجلوس أمامه، هناك كرسيان مبطنان بالجلد، أجلس على أحدهما وأتأمل وجهه، ندوب كثيرة أصابت الوجه النحيل، شاب شعره وتساقط القليل منه، مبرزاً بشرة بيضاء رقيقة، تكاد تكون شفافة. راعني ما أصاب عينه السليمة، غمامة بيضاء عليها، مياه بيضاء. بينما الأخرى غائبة تماماً، زوائد لحمية وردية اللون مكان العين، وفراغ متهدل حولها. يخبرني أن الحرب على وشك الانتهاء، روميل يعلم أن ألمانيا ستنتهي قريباً، ما زال لا يفهم كيف خطا اليابانيون تلك الخطوة الانتحارية؛ مهاجمة الأمريكان. كان يعتقد أن نهاية هتلر ستكون على أيديهم، لكني أعلمُ أنّ النّهاية ستأتي من ناحية ستالين.
أقوم من مكاني وأتجول في الكهف، يتوقف روميل عن متابعة الحديث متعجباً من قيامي غير المتوقع. ظننت أنه سيعنفني، سيغضب، لكنه لم يتحرك، ظل صامتاً. تابعني وأنا أتجوّل في الكهف. العلم الضخم يطغى على المشهد كله، يمتد ليغطي نصف أرضية الكهف. لم وصم هتلر السواستيكا إلى الأبد؟ ذراع الصليب ضخمة للغاية، عندما وقفت قريباً من العلم وجدت الذراع أطول مني قليلاً. إذا فرد أحدهم هذا العلم، لغطى أرضية الكهف بالكامل. الآن سيأتي جنود ألمان مخلصون، يخرجون العلم ليغطوا به العالم بأكمله. أجد على الأرض صخوراً حادة في حجم قبضة اليد، أفكر في إمساك إحداها وضرب روميل بها حتى ينزف أو يموت، لكنّي أتراجع في اللحظة الأخيرة.
يرنّ تليفوني، أحمد يتصل ليسأل عن مكاني، أقول إنّي في الكهف، يقول إنّهم سينزلون إلى الكهف فوراً. أفيق من مقابلة روميل، أنا في مرسى مطروح على شاطئ البحر، على شاطئ روميل، في كهف روميل، إلى جانب روميل، يشعل روميل سيجارته ماجّاً إياها بعمق. أتحركُ نحو المشجب، أمسكُ بطرف البالطو السميك، لا يزال دافئاً، ألاحظ المسدس المعلق في حافظة سوداء، أستله وأحاول أن أسحب أجزاءه، لكنه عالق، قديم ومترّب ويحتاج إلى زيت وشخص محترف ليفك أجزاءه المتصلّبة، أريد أن أقتله قبل أن يأتي أحمد، ربما إذا قتلته سيختفي ويبقى المكتب والمشجب والخزانة. لكن المسدس عالقٌ تماماً، لا يستجيب. أحاولُ بعنف هذه المرة، يتحرك جزء من المسدس في يدي، تقفز رصاصة من جانب الماسورة وتقع على الأرض، ألتقطها ثم أضعها في جيبي. يتابعني روميل والأسى يبدو عليه.
يرنّ التليفون مرة أخرى، يرفع روميل السماعة لأذنه، مع أنّه لم يتحرك عندما أمسكت المسدس، ربما يعلم أني لن أتمكن من إطلاق النار عليه، يشرد روميل، يحدق في صخور الكهف أمامه، يهتف: فليحيا هتلر! ويضع السماعة مكانها.
يُخرج عصابة عينه من الدرج، ومرآة صغيرة يضعها على مكتبه، يثبت العصابة على تجويف العين الغائبة ويعدلها، يمشط شعره، يقف فجأة ليصدمني طوله الفارع، يرتدي البالطو الثقيل، يتحرك نحو مدخل الكهف.
يدخل أحمد ورفاقي، يضحكون بصوت عال، يقابلون روميل وهو خارج، يقفون صامتين أمامه قليلاً، ثم ينفجرون في الضحك، ضحك هستيري، يضحكون أكثر، يرفعون أيديهم بتحيّة عسكرية اعتياديّة ساخرة، ثم يتذكرون شيئاً فجأة فيضحكون مجدداً، هذه المرة يرفعون ذراعهم الأيمن في حركة عصبيّة؛ روميل نازي وتحيّته نازية. يبدأون في المشي مشية الإوزة، يغالبون الضحك وهم يبالغون في مشيتهم. ينظر روميل إليهم في ازدراء، بينما يتابع مشيته الصارمة، يتقدم إلى فتحة الكهف في ثبات، ثم يقف ناظراً إلى الأمام، مستعداً لما سيأتي.
أحمد يصرخ: آيست، تايخ، نيخ، فاااااي!!. ثم يجري مسرعاً في اتجاه روميل، ليصطدم بظهره صدمةً عنيفة، ملقياً إياه خارج الكهف، يهوي روميل ويصطدم بالصخور في الأسفل.
لا أدري لم شعرت بالخوف هكذا، كنت أود قتل روميل منذ دقائق، لكن ضربة أحمد تلك أرعبتني، ربما لأنها كانت مفاجئة؟ ربما لأني كنت أريد أن أقتله بنفسي؟ لا أعلم. لكني الآن أتساءل عن سبب تلك الرغبة، لم أردت قتله؟ لم قتله أحمد؟ لم أرغب في قتل أي شخص قبل الآن، أحمد لم يكن ليقتل ذبابة، لا زلت أفكر.
يلتفون بالعلم النازي، يغنون معاً، لا أفهم كلماتهم، يغنون بالألمانية؟ يكررون جملة واحدة كثيراً، «تايس آشينفيرج… تايس آشينفيرج… تايس آشينفيرج» أتجه إليهم في عمق الكهف لأغني معهم، أصبح أحمد نازياً، ويجب أن أجاريه وإلا قتلني. يتركون العلم ويتجهون نحوي، الآن سيلقون بي من مدخل الكهف كما فعلوا بروميل. لكنهم يربّتون على ظهري ويتعلقون بعنقي في حبور، نخرج سوياً من الكهف، أنظر إلى الأسفل، لأجد جسد روميل وقد التوت أطرافه ودماء تسيل من رأسه. نتسلق الصخور، بجانب الكهف هناك ممر حاد يرتفع حتى الأعلى، نصعد إلى الأعلى حيث نعمل على صيانة الطريق الأسفلتي.
تصلبت طبقة الأسفلت أخيراً، أقف على الطبقة الجديدة شديدة السواد، أنظر إلى الأفق، أحاول أن أشاهد الطريق كاملاً، لكني لا أرى الأشياء كاملة هذه الأيام، يتلاشى الطريق في الأفق، أم أن الطريق اعتاد التلاشي؟ أتحدث في التليفون لأتأكد من وصول عربة الأسفلت الجديدة.
* روائي وقاص مصري من أعماله: «عطارد»، «كوكب عنتر»، «عام التنين»