على نسق نظرية أسعد ابو خليل في أنّ اليمين اللبناني قد هُزم عسكرياً في الحرب الأهليّة، ولكن ايديولوجيته ونسخته عن الوطنية اللبنانيّة هي التي انتصرت، فإنّ مشاريع الكانتونات والعزل الطائفي التي تخيّلها العديد من أمراء الحرب قد تحوّلت، في العقدين الأخيرين، الى واقعٍ سكّاني وبشري في لبنان، يمثّل أبرز افرازات فترة ما بعد الحرب. الفصل الذي كان قسريّاً خلال مرحلة التقاتل، يعضده التهجير، أصبح اعتياديّاً اليوم، طبقيّاً وطائفيّاً في آن، وقد نمت حوله «ثقافة» تبرّره وتعقلنه حتّى لم يعد مرئيّاً.
أكثر المراكز المدينيّة الجديدة التي نشأت خلال التسعينيّات، في ضواحي المدن، لها هويات طائفية واضحة وطاغية؛ والفرز استمرّ في المناطق المختلطة المتبقّية (مثل صيدا وطرابلس) حيث «تنسحب» الأقليّات، تدريجيّاً وبهدوء، الى أماكن تناسبها. بل أصبح من المعتاد أن تسمع من ربّ عائلةٍ يبحث عن منزل أنّه سيحصر خياره في منطقة محدّدة، ولو في غياب حافزٍ ماليّ أو عمليّ، لأنّ المنطقة (التي عمرها عشرون عاماً) «تناسب عاداتنا وتقاليدنا»؛ كأنّ الهويّة الطائفيّة هي نوعٌ من «تراثٍ وطنيّ» تخاف عليه أن يندثر، أو أن تخسره عبر الاختلاط. وكأنّ هناك ما هو غريبٌ ومخيف، حتّى داخل الوطن الصغير، في أن تُعاشر من يختلف عنك بشيء، وأنّها تجربة متعبة وغير آمنة، بدلاً من أن تكون طبيعيّة وثريّة، حين يكبر أولادك وهم يفهمون اختلاف البشر ويعرفون شيئاً عن بلادهم، وقد اعتادوا رؤية الأمور من أكثر من منظار بدلاً من افتراض أنّ عاداتهم وأعيادهم وأساليب حياتهم هي النموذج البديهي والطبيعي والوحيد.
لمن لا يعرف لبنان، أو يتابعه من بعيد، نحن نتكلّم على ظواهر تحكم البلد وتوزّع سكّانه لا يمكن تفسيرها بمنطقٍ تجاريٍّ أو تخطيطيّ، ولا يمكن فهمها الّا عبر فهم منطق الكانتونات في لبنان. قد يكون سعر شقّةٍ في حيٍّ مكتظّ، تنقصه الخدمات، في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، موازياً لسعر بيتٍ أفضل بكثير في منطقةٍ أخرى، ولكنّه أصبح من «غير المفكّر به»، بالنسبة الى أكثر النّاس، أن تقوم عائلة مسلمة، فجأة، بالانتقال والسكن في قلب جبل لبنان (أو العكس). السياسات العقاريّة في بيروت بعد الحرب كانت حافزاً أساسياً، فقد فتحت سيلاً من «المهاجرين» من بيروت، من أبناء الطبقات الشعبية، الذين لم يعد في استطاعتهم التملّك في مدينة «سوليدير»، فتوزّعوا (مع القادمين الجدد) الأحياء الطرفيّة الحديثة التي نشأت بارتجالية وبلا تخطيطٍ، خلال سنوات قليلة، وقد قامت على الصّفاء المذهبي. المفارقة المحزنة هنا هي أنّ أهل بيروت، الذين صنعوا زعامة رفيق الحريري، قد خسروا مدينتهم جرّاء سياساته، التي جعلت العاصمة «مدينةً مفتوحة»، لا هويّة لها، يتملّك فيها ــــ ببساطةٍ ــــ من يقدر على الشّراء؛ فيما خرج أبناء العاصمة ليسكنوا التلال المحيطة بمدينةٍ لم يعد لهم فيها مكان. اذا ما أضفنا الى هذه «الكانتونات» الطائفيّة المخيّمات الفلسطينيّة، التي تعيش حالة عزلٍ أكبر وأقسى، واللاجئين السوريين ومجتمعهم، نكتشف أن أكثر سكّان لبنان، فعليّاً، يتوزّعون بين «غيتو» و«كانتون»، وبشكلٍ لم يعهده لبنان منذ تأسيسه. من هنا، لو كنت تتملّك وتسكن في بيروت الاداريّة، أو في احد الأحياء «الراقية» في صيدا أو طرابلس أو جبل لبنان، ففي وسعك أن تبتسم وتشعر بالتميّز فأنت من بين الأقلية التي تعيش، بفضل قدرتها الماديّة، في «الكانتون النظيف» في البلد.

أن ترسم «الضاحية» على هواك

من الضروري أن نفهم هذا السياق العامّ لتطوّر الأمور في لبنان، لا لنعرف كيف يتشكّل العمران البشري في البلد فحسب، بل ايضاً لنفهم كيف ينظر أهل هذه «الكانتونات» الى بعضهم البعض. الضّاحية الجّنوبيّة لبيروت تقدّم، هنا، مثالاً ساطعاً. ثقافة 14 آذار وما تبعها جعلت هذا التجمّع السّكني الضّخم «ضحيّةً» لعددٍ هائل من النّصوص التي تختزله كيفما تشاء، وقد تطوّع عددٌ كبيرٌ من الكتّاب، الذين قرروا أن يمارسوا السوسيولوجيا كهواية، لتفريغ عقدهم الطائفية وشعورهم نحو شعبهم في كتاباتٍ توصّف الضّاحية كما كانت توصّفها الأفلام الأميركية في الثمانينيات. في أحد هذه المقالات تجد أنّ الكلمة الأبرز، والأكثر تكراراً، لوصف الضّاحية هو «السّواد» الذي، بحسب «المثقّف»، يلفّ الضاحية ويطبعها بطابعٍ قاتم.
المفارقة هي أنّه، في الواقع، فإنّ الضّاحية الجنوبية لبيروت، رغم كلّ مشاكلها واكتظاظها، والفقر والأزمات ونقص الخدمات، يمكن النّظر اليها على أنّها من «أنجح» التجارب السوسيولوجية في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين. بأيّ مقياسٍ مقارن، كانت الضّاحية ــــ منذ السبعينيّات ــــ مهيّأة لأن تتحوّل الى واحدة من العشوائيات البائسة التي تلتفّ حول الحواضر العربيّة: ضاحية نزح اليها الريفيّون الفقراء، بأعدادٍ كبيرةٍ وخلال فترةٍ وجيزة، وفي سنوات حربٍ لا قانون فيها ولا تنظيم. لم تخدمها الدّولة ولم تعترف بها وبمئات الآلاف من قاطنيها، وكان من المتوقّع أن تتحوّل ــــ كغيرها ــــ الى حزام بؤسٍ، يتراكم فيه الفقر والجهل ويتوالدان، ولا ينتج غير الحرمان والجريمة. في الواقع، فإنّ الضّاحية الجنوبية قد حافظت على تماسكٍ اجتماعيّ خلال هذه العقود، رغم كلّ الظروف وبجهد «المجتمع المدني» (بالمعنى الحقيقي والأصيل للتعبير)، وكانت منصّة لارتقاء آلاف العائلات وتعليمهم. هي اليوم «مدينة كاملة» تفرز مختلف الفئات، فيها طبقة مسحوقة وفقراء ومشاكل، وفيها ايضاً طبقى وسطى وبرجوازيّة، بل وأحياء ملحقة «فخمة» لأصحاب الملايين. شوارع الضاحية، بسبب كثافة السكن، نشيطة طوال النهار والليل والطرقات ترصفها المحلّات التجاريّة. بالمعنى «العلمي» للكلمة، لمن لا يرى في الضّاحية غير «السّواد» و«يدرسها» كما كان الانثروبولوجي الغربي يدرس مجتمعاً افريقياً، فإنّ الضّاحية اليوم مدينة «حقيقيّة» ومتنوّعة أكثر بكثير من أحياء العزل الطبقي التي يقطنها هؤلاء، وفيها ـــ قطعاً ــــ حياةٌ ومدنيّة أكثر من المشاريع العقاريّة الهامدة التي تستوطن وسط بيروت ومركزها. الحقيقة الأولى والأساس هي أنّ هؤلاء النّاس لا يتمّ الاعتراف بهم الى اليوم، والكتابات التي تمثّل الضاحية في الثقافة اللبنانية ليست الا دليلًا، وهم يعيشون في ظروفٍ أصعب، وتقدّم لهم خدماتٌ أقلّ، ويتمّ «عقابهم» بالمعنى الحرفي، فقط لأنهم يسكنون الضّاحية. أن يقبل اللبنانيّون، كأنّه واقعٌ طبيعيّ، أن تتمّ معاملة المواطنين ــــ من الطرقات والمدارس الى الكهرباء ــــ وفق مقاييس مختلفة هو الفضيحة الحقيقيّة هنا، وما يعقلنها هو عقلية «الكانتون».
في حادثةٍ شهيرةٍ منذ سنوات، أعلنت بلديّة «الحدث»، حين وصل الى حدودها التمدّد العمراني للضاحية، بمنع ترخيص عقود بيع العقارات لمن هم من غير طائفة الأغلبية في البلدة، خوفاً من أن «تبتلع» الضاحية الحدث. المسألة هنا هي ليست أنّ بلدة الحدث استثنائية في طائفيتها، أو أنها انتخبت رئيس بلديّة متطرّفاً، بل في أنّ القدر وضعها على «خطّ التماس» بين الكانتونات، ولو كان غيرها مكانها لفعل ــــ على الأرجح ــــ أمراً مشابهاً. والمشكلة في تصرّف الحدث لا يقتصر على أنّه غير قانونيٍّ ويميّز بين النّاس، بل في أنّه لا يحلّ مشكلة في وجه الوقائع البشرية والجغرافيّة، وأنّ مثل هذه الاجراءات لا تكفي لـ«ضبط» نظام فصلٍ غير مستقرّ ويتّجه صوب الغليان.

نظامٌ في أزمة

بعيداً عن النخب التي تكتشف الضاحية مرّةً في السّنة، وتذمّ أهلها وتحرّض عليهم حين يناسبها الأمر، ثم تقرّر «تبنّي» فقرائها في لحظةٍ أخرى، فإنّ هناك قواعد تحكم سلوك النّاس وأولويّاتهم لا يمكن تجاوزها. حين يخرج المواطن، مثلاً، من منزله ليجد الشارع مهملاً ومتّسخاً فإنّ واجبك هو أن تشرح له لماذا الشّارع مهمل ومتّسخ، ومن يُلام على وضع الشّارع، أو كيف يمكن أن نحسّن الشّارع؛ هناك احتمالاتٌ عديدة، ولكن ما لا يمكنك فعله هو أن تحاول اقناع هذا المواطن بأنّ الشّارع ليس متّسخاً، أو أنّ الوضع «طبيعي» يجب أن يعتاد عليه ويقبله وأن لا يفكّر فيه. الفكرة هي أنّك، إن لم تقد شعبك في احتجاجه وتسير في المقدّمة، ولم تكن القناة التي يعبّر من خلالها عن آلامه، ويطالب بحقوقه المهدورة، فأنت تتركه فريسةً لمن سيدّعي فعل ذلك.
لا يمكن اختزال مجتمعٍ كاملٍ، مثل الضاحية الجنوبيّة، في كلام السياسة، ولكنّ المؤكّد أن الضّاحية قد أعطت بلدها أكثر بكثيرٍ ممّا أعطاها، من المهاجرين الأوائل الذين أحضروا قراهم معهم الى الأبنية المتعالية، وصولاً الى أهلها اليوم الذين تعيش بفضلهم الأحياء الثرية في بيروت، ويعانون في كلّ تفصيلٍ في حياتهم، من المواصلات الى الحصول على الماء، ويقاتلون في معارك الوطن ويدافعون عنه ويقدّمون الشّهداء، ومجتمع «المركز» لا ينظر اليهم الّا بخوفٍ أو طمع. الطّريف هو أن عقلية الفصل الطائفي والطبقي لا تزال تجد من يعبّر عنها، في المجال السياسي صراحةً، عبر الدّعوة الى «الفيديرالية» في لبنان ــــ كأنّ ما ينقص البلد هو المزيد من الانعزال بين أهله، والتقديس للعادات المحليّة، وأن تصنع كلّ قريةٍ وبلدة أسطورةً حول نفسها؛ أو كأنّ عقد الانعزالية والكراهية يمكن أن تحلّ وتسكن عبر «تطمين» الخائفين، وعبر مزيدٍ من الفصل. وقبل أن يتكلّم أحدهم على أنّ هذه الطوائف «قديمة» وقصصها تتكرّر، فلا شيء قديم هنا؛ بل تحوّلاتٍ حديثة، غيّرت لبنان بعنف وسرعة، وجماعات تلتفّ حول بعضها بخوفٍ، وترتجل أحياءً جديدة وثقافة وتعطيها طابعاً «قديماً»؛ والسنوات المقبلة سترينا، بوضوحٍ، حدود نظام الكانتونات هذا.