«أنا لا أعطي دروساً لأحد في حقوق الإنسان». هكذا تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في المؤتمر الصحافي المشترك، الذي ضمّه إلى نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، في باريس. في التعبير شيء من الإقرار بجسامة الانتهاكات الحقوقية في مصر، وشيء آخر من غلبة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية على المبادئ والقيم الحديثة. لا جديد في الكلام الرئاسي الفرنسي، وهو ــ بصيغة أو أخرى ــ امتداد لما كان يتبناه فرنسوا هولاند.
رغم ضغوط المنظمات الحقوقية الدولية والميديا في بلاده، حاول ماكرون أن يمدّ خط المصالح ويقصر خط الصدام. مع ذلك، فإنّ عبارته تنطوي على تجاوز دبلوماسي في حق بلد كبير بحجم مصر يصعب حدوثه في أي مؤتمرات صحافية على مثل هذا المستوى. بكلام آخر، فإنّ سجل حقوق الإنسان والحريات في مصر بات عبئاً لا يُطاق على صورة البلد ومصالحه وأمنه.
لا يُعقل في كل زيارة رئاسية لدول غربية طرح هذا السجل كأولوية ومناقشته على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات، من دون أن تُتاح ــ هنا في مصر ــ مثل هذه المناقشة المفتوحة، أو أن يتبدّى توجّه لتحسينه واتخاذ ما هو ضروري من إجراءات لرفع المظالم في السجون، التي أقرّ الرئيس السيسي نفسه أكثر من مرة بوجودها.
عندما يغيب النقاش في الداخل، ينكشف البلد في الخارج. وعندما تغيب القدرة على التصحيح، تأخذ أحاديث الدروس مداها.
في زيارته الأخيرة للقاهرة، قبل مغادرة منصبه الرئاسي، قال هولاند لمضيفيه المصريين إنّ «قضية الحريات ضرورية للحرب على الإرهاب». المعنى نفسه ربما طرحه ماكرون في الغرف المغلقة.
هذا كلام صحيح، فلا يمكن كسب الحرب مع الإرهاب بتكبيل حيوية المجتمع وإشاعة جو الخوف فيه. نفي الأزمة لا يساعد على تحسين الصورة، والالتزام المتكرر في المحافل الدولية بالدولة المدنية الديموقراطية الحديثة يعوزه أي دليل مقنع.
كما أنّ الكلام المتكرر في المحافل نفسها عن أنّ مصر لا وجود لديكتاتورية فيها يحتاج إلى حيثيات تثبته. الإجراءات وحدها تُكسب التصريحات صدقيتها وتحجب في الوقت نفسه أيّ دروس في حقوق الإنسان، أو أيّ تدخلات محتملة في الشؤون الداخلية.
الدول تكتسب مناعتها من تماسكها الداخلي وتوافق السياسات مع مصالح شعبها، وهذه مسألة حاسمة في الحرب مع الإرهاب. بإقرار الرئيس في المؤتمر الصحافي نفسه، أنه لا يوجد تعليم جيد ولا صحة جيدة ولا تشغيل جيّد، متسائلاً: لماذا يتم التركيز على الحقوق السياسية دون الاجتماعية؟ الإقرار بنصه يعني ــ بالضبط ــ أنّ هناك خللاً مروعاً في الأولويات والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة.
ما تحتاج إليه مصر هو أن تنظر في المرآة لترى مواطِن الخلل وتعترف بأنّها ليست على الطريق الصحيح. لا الحقوق السياسية يتوافر حدها الأدنى بتجفيف المجالين السياسي والإعلامي، ولا الحقوق الاجتماعية لها حضور في الشارع المحتقن بغياب أيّ عدالة في توزيع الأعباء.
رغم نفي ماكرون لأيّ نية للتدخل في الشأن الداخلي المصري، فقد أشار في المؤتمر الصحافي لتطرقه في المباحثات المغلقة إلى نقاط بعينها في السجل الحقوقي من دون أن يكشف عنها. باليقين، يدخل فيها قانون «الجمعيات الأهلية»، الذي يناهضه الاتحاد الأوروبي ويرى فيه خنقاً للمجتمع المدني في مصر، وبسببه حجبت الإدارة الأميركية نحو ٣٠٠ مليون دولار من معونتها العسكرية والاقتصادية.
وفق إشارات غربية عدّة، من المرجّح تماماً تجميد هذا القانون لحين إعداد آخر يتسق مع المواصفات الدولية، يحفظ للمجتمع المدني حريته في الحركة والمبادرة، ويضمن في الوقت نفسه سلامة التصرف في أيّ تمويلات أجنبية.
المثير هنا، أنّ القانون المعيب مُرِّر في ظروف غامضة في ساعات داخل البرلمان، ونُحِّيَ قانون آخر أعدّته وزارة التضامن الاجتماعي بعد حوار طويل مع ممثلين للجمعيات الأهلية. والأكثر إثارة أنّ التعديل المتوقع يأتي بضغط الخارج لا بالاستجابة إلى ما دعت إليه الأغلبية الساحقة من الجمعيات الأهلية، التي يتجاوز عددها 45 ألفاً.
ووفق ما صرحت به السفيرة مشيرة خطّاب، فإنّ هذا القانون ــ بالإضافة إلى إغلاق المكتبات وسجل حقوق الإنسان والحريات العامة ــ من الأسباب الجوهرية لإخفاقها في نيل منصب المدير العام لمنظمة «اليونسكو».
هذه كلها أوضاع خطرة في ظلِّ حرب ضارية مع الإرهاب، وصلت إلى ذروتها في حادث الواحات الدموي.
الصدمة عنوان رئيسي أوّل، حيث بدت العملية بحجم ما استشهد فيها من ضباط وجنود شرطة، وبقدر ما كشفته عن مستويات تسليح الإرهابيين وتدريبهم، دليلاّ على أنّ الحرب سوف تطول وقد تفتح جبهة جديدة في الصحراء الغربية توازي شمال سيناء.
غياب الشفافية والمعلومات عنوان رئيسي ثان، حيث بدا الخلل الإعلامي مروعاً وعاجزاً عن تلبية حق المواطنين في المعرفة، وكان لذلك عواقبه في الهزّة العامة التي أعقبت الحادث الإرهابي.
إصلاح الجهاز الأمني عنوان رئيسي ثالث لردم أيّ فجوة بين الأمن وشعبه وفق القيم الدستورية الحديثة، وهذه مسألة محتمة لكسب الحرب مع الإرهاب، بالإضافة إلى أنّها حاسمة لبناء دولة مدنية ديموقراطية حديثة ــ بالأفعال لا بالدعايات. إذا لم يصلح الجهاز الأمني، فإنّ تكلفة الحرب مع الإرهاب سوف تكون باهظة.
القضية الحقيقية الآن، ليست متى ينقضي الإرهاب بقدر ما هي خفض كلفته على الاستقرار والسياحة وسلامة المجتمع وتماسكه والثبات العام للدولة كلها.
بالتعريف، فإنّ الحرب على الإرهاب تقتضي تضافر كل مقدرات الدولة، وهذه ليست مهمة الأمن وحده. هناك مصدران لنيران الإرهاب. أولهما، ثغرات الوضع الداخلي التي تسمح بتمركز الجماعات الإرهابية في بنية المجتمع مثل ارتفاع معدلات الفقر المدقع وغياب أيّ فرص لحياة شبه كريمة وتضييق المجال العام بما يكاد يخنق الأنفاس. وثانيهما، ما يحدث في الإقليم حولنا حيث من المتوقع مع تقويض «داعش» في سوريا والعراق أن تغادره إلى مناطق أخرى؛ بينها مصر، كما قد تهاجر جماعات إرهابية متمركزة في ليبيا إلى الصحراء الغربية في مصر. المصدران متداخلان، والفصل بينهما شبه مستحيل.
بالنسبة إلى الأمن الفرنسي، هناك أولويتان إقليميتان هما: ليبيا، حيث مخاوف الهجرة غير الشرعية، وسوريا، حيث مخاوف انتقال جماعات من «داعش» إليها. الأسباب نفسها، تدعو مصر ــ بصورة أخرى ــ إلى النظر في ما وراء الحدود من مخاطر وجودية. تلك مسألة حركة وهيبة تنتقص منها الصورة السياسية المفرطة في سلبيتها. كما أنّها مسألة استراتيجية على درجة عالية من الخطورة.
بين الواحات وحادثها، وباريس ورسائلها، يتبدّى سؤال بلا إجابة: أين استراتيجية مكافحة الإرهاب؟
نظرياً: المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب الذي أُعلِن عنه قبل شهور، المخوّل وضع مثل هذه الاستراتيجية، عملياً هو لم يجتمع منذ إنشائه سوى مرة واحدة للتعارف ــ كأننا ننشئ مؤسسات بلا أدوار لاستيفاء الشكل.
بين الواحات وباريس، تُعلِن الحقائق عن نفسها، فلا فصل بين الحرب على الإرهاب وبناء الدولة الحديثة التي تحفظ الأمن وتحترم الدستور.
*كاتب وصحافي مصري