أفتح باب الغرفة، فيهاجمني عِبق ليلة القدر بشدة. أستذكر مروان المعلم، وكيف لا؟ وهو يستنبِطُ لك روائح دمشق وأزهارها وخصائصها بشوق لا ينضب، فكلما راودك شكّ بصوابية الهجرة أو مسّتك لوثة الحب والحنين للحبيب الأول، عالجك مروان وبرهافة عالم النبات، كاشفاً لك أسراراً من عالمِهِ المفقود، وحِسِّية مفرطة لغوطته الحاضرة دوماً في حدسِهِ وشغفِهِ بالمحيطِ من حوله.
نذهب سوياً في «كزدورة» في الحديقة المجاورة، فتهاجمنا أوراق الخريف ببغتة، فيدخل مروان المبارزة سريعاً ويأخذك الى عالمه وطقوسه وفرحه وشجنه؟ فتتآخذ في داخل جغرافيا اللوحة حيث يلتبس عليك المشهد الخارجي المحيط وبواطن أعماق اللوحة ولعبة البوح، شارحاً ومقارناً أصغر التفاصيل والمفارقات عن النباتات والزهور الدمشقية، وعوالم متداخلة مسكونة ببعض المُتخيل وبعض خفايا الحياة، حيث يذكر في وريقة صغيرة هذه العلاقات المتداخلة فيقول: «جاءتني شتلة من زريعة (زهرة الخزف) كانت تعيش مع أهل الدار (في دمشق) منذ زمن طويل، وكانوا يبادلونها الحب والتأمل. وضعت هذه النبتة في أصيص على نافذة مرسمي ترعرعت مع السنوات وعشعشت على الجانب الأيسر حتى وصلت السقف، أوراقها تشبه القلب، صغيرة وسميكة ولها لَمَعان يعكس الأخضر المعرّق القاتم. يأتي الربيع فتبرز تيجان زهورها الكثيرة، والزهور مِثل حبات اللؤلؤ المستديرة المائل لونها الى الزهري الليلكي، تتفتح هذه الحبيبات رويداً ويكبر حجمها مع الأيام وفي منتصفها لؤلؤة قرمزية ساحرة. عندما ترى عيناي هذه الزريعة، يعود ذلك النور الفريد لبيوت دمشق القديمة الى ذاكرتي وأحياها مجدداً مع الفرح الذي ما أزال أحتفظ به، هذا الحلم الضوئي الذي فيه خفايا الحياة وأسرارها من مشاعر غامضة مع الوجد والشوق وطعم الحب والموت والحضور ثم الذهاب».
يفرد لك مروان مروحةً من النباتات التي لم تكن قد سمعت بها من قبل، مقارناً ببعضها البحر متوسطي مع قليل من التوغل شمالاً لتصبح المقارنة مقروءة ومفهومة. يتسلل أيلول خفيةً، فينتشي مروان بسِحر الطبيعة منجذباً كالمجنون بعرس الألوان ورقّة المشهد، مستمتعاً بصبغة حُزنٍ ملنكولية تُشعل داخله، فيفصَحُ لك بعضٌ من شجنه وانبهاره بدفء الألوان، والفصل الأحب الى قلبه، مُطرقاً على مسامعك سِحرِه بأيلول وتشرين ومهرجان الضوء واللون وطَربِه المتأجج دوماً كلما أعاد العام احتفالات الطبيعة ووهج النور.
وبعد نشوة الخريف، تتراءى لك شخصية عالِم الطبيعة والبيولوجيا بوضوح، إذ يرهف مروان سمعُهُ إلى أدنى التغريدات متقمصاً شخصية الصياد، محاوراً الشحرور ثم الدلم ولا ينتهي عند الكروان، بل تكر المسبحة الى اليمام فالسمن والعندليب، والقائمة تطول.
فيذكر في مقصوصة صغيرة: «بدأ الشحرور الأول يغرد بخجل في استقبال الصباح، لحقته الشحارير الأولى بعد فترة بغناء عظيم، جوقة في فضاء الليل. جلست في الفراش مع العتمة متمتعاً بذلك الاحتفال وما لبثتُ أن أخذتني الشحارير معها لتُطلعني على أسرار حاراتها في ذلك الكون. أدخلتني طائراً غيطة أشجار الكباد والنارنج وسبحتُ بين ثمارها الصفراء، واوراقها الخضراء مع شامات النارنج السوداء حتى عدتُ طفلاً وثم غلبني النعاس فنمت في أحضان الغيطة وعِشتُ الشحارير».
يخبرك مروان بشوق ومتعة عن أسرار ومحيطات وألوان وانعكاسات ضوء وربط بين البارحة واليوم والمكان والشوق الدائم والحب والانصهار والدفء والرعشة الناعمة المستمرة مع خفقات القلب، وانتشاء إكسير الحياة والقوة مع الحلم، والحديث لا ينتهي فأتذكر ما كتبه إحدى المرات على حافة طاولة في مرسمي: «إنّ اللوحة بالنسبة لي ليست فقط اللوحة المرسومة الآن وإنما لتلك اللوحة ولادات كثيرة تتمثل في تجارب ومعايشات قد تتجاوز المئة أحياناً، وإن المعايشات المستمرة، أي تغيير الصورة باستمرار حتى تأتي القشرة الأخيرة ضامة منغلقة ولكنها مشرقة وكاشفة أضعاف أضعاف القشور المحجوبة تحتها، كعش الطيور، نُسِج من مئات الأغصان وأعواد القش ليحمل بعد ذلك بيوض الطير وأسرار الحياة».
في مثل هذا اليوم من العام الماضي 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 دخل مروان مبارزته الأخيرة واختار شهره المفضل تشرين الأول ومضى، تاركاً لي «شجرة» ليلة القدر كما كان يحب تسميتها وقد شذّبها في مرسمه بعدما كانت قد ملأت قلبه فرحاً بخضارها وظلالها خلال الفصول، فيذكر في أحد دفاتره: «ليلة القدر، كنت قد جلبتها معي من حديقتنا في دمشق، زرعة صغيرة قبل سنوات كثيرة وأهديت من فروعها أشجاراً جديدة للأصدقاء والأحباء في برلين. كان موضعها النافذة الغربية وكانت تستقبل نور النهار ووردها وعطرها تسحر النفوس بنشوة غريبة في الليالي وتعود بذكرى الشرق وليالي دمشق».
زهرة ليلة القدر هي نبتة استوائية من فصائل الصبار تحمل زهراً أبيض كبيراً ذا شكل حيواني، وحشي، تفتّح الزهرة مرة واحدة في السنة لليلة واحدة ابتداءً من غياب الشمس وحتى طلوع الفجر، حيث تذبل وتموت. لها رائمة أخّاذة وزكية قوية.
أعود لزهرة ليلة القدر أو تحيات الوداع المستمرة، وهي تماماً كما ذكر مروان في إحدى خربشاته: «هل تعود الجذوع المقطوعة والمزروعة في مكاني الجديد الى الحياة».
* تشكيلي وفنان لبناني مقيم في ألمانيا