منذ عام ٢٠١٣، لا يتوقّف الحديث عن حلم الدخول إلى نادي الدول النفطية. بعد ٤ سنوات، تمكّن لبنان من وضع منظومة تشريعية مؤلفة من قانون الموارد البترولية في المياه البحرية ومراسيمه التطبيقية، إضافة الى القانون الضريبي الخاص بالبترول.
وفيما أصبح الإطار التشريعي جاهزاً للدخول في مرحلة الاستكشاف التي تمتدّ على خمس سنوات، بدأ النقاش بإنشاء الصندوق السيادي استكمالاً لهذه المنظومة التشريعية، إذ ينظر اللبنانيون الى العوائد التي سيحصل عليها الصندوق من بيع النفط والغاز على أنها العصا السحرية التي ستساهم في حل كل المشاكل، من بطالة وتعليم وطبابة وفقر، وصولاً الى تسديد الدين العام. غير أن الأمر ليس بهذه البساطة!
فالصندوق السيادي الذي نصّ عليه قانون الموارد البترولية، باعتباره أساساً في إدارة عائدات النفط والغاز على أن يتمتع باستقلالية، لم يسلَم من التجاذب السياسي الذي ينظر الى أي مورد مالي بصفته قالب جبنة يغري بالتقاسم. مع ذلك، يجري البحث هذه الأيام عن نمط الصناديق العالمية التي اشتهرت في هذا الشأن، للاستفادة من تجربتها. أبرزها الصندوق السيادي النروجي، وهو الأكبر في العالم بأصول تجاوزت 800 مليار دولار.

الصندوق يشكّل تحدياً كبيراً في البلدان المتطورة لجهة توظيف الأموال في الأسواق المالية


هذا الموضوع كان موضع نقاش، في ورشة عمل عُقدت أمس في مجلس النواب بعنوان «الصندوق السيادي بين المبادئ الأساسية والتجارب الدولية»، نظمتها لجنة الأشغال العامة والطاقة والمياه، بالتعاون مع مؤسسة «وستمنستر» للديموقراطية، برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري. واستمع فيها المشاركون الى عرض تفصيلي للنموذج النروجي، شرحه الخبير النروجي يدر أوفيسين، إضافة الى عرض اقتراح القانون المقدم من النائبين ياسين جابر وأنور الخليل في ما يتعلق بالصندوق السيادي اللبناني.
كيفية إدارة العائدات المتدفّقة الى الصندوق شكّلت النقطة الأبرز في النقاش، في ظل محاذير وهواجس حول ضوابط توظيف أمواله، ناهيك عن مستوى الشفافية في إدارته. إذ إن هذا الصندوق يشكّل تحدياً كبيراً في البلدان المتطورة، لجهة توظيف الأموال في الأسواق المالية. فكيف الحال في بلد تجاربه كلها غير مشجعة ولا مكان للإدارة الرشيدة فيه، مع غياب ضوابط الاستثمار والشفافية؟
انطلاقاً من هنا، تناول البحث الجهة التي من شأنها إدارة موجودات الصندوق واستثمارها، وهل يكون ذلك بقرارات من الحكومة أو مجلس النواب، والخيارات الأمثل للاستثمارات، وتوزيع العائدات وحصة الدولة والشركات، مع ما يتطلبه ذلك من سلطة محاسبة ورقابة، علماً بأن تجارب عدة في بعض الدول آظهرت أن الفساد والهدر كبّداها خسائر باهظة وحوّلا الثروة النفطية من نعمة إلى نقمة.
أوفيسين عمل سابقاً نائباً لوزير المال السابق في بلاده، ومستشاراً في مجال إدارات عائدات النفط والغاز في وزارات المال في كل من السودان وميانمار وتيمور الشرقية بهدف مساعدة الحكومات على تطوير إدارة إيرادات النفط والغاز، بما في ذلك القضايا المتعلقة بإنشاء صندوق سيادي. وقد قدّم تعريفاً عن الصندوق السيادي بوصفه «مجموعة من الأموال تملكها الدولة لأهداف الاقتصاد الكلي، وهو أداة اقتصادية يجب ألا تؤخذ بطريقة منفصلة». وبعد شرح مفصّل لتجربة بلاده، اعتبر أن «هذا الصندوق يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من موازنة الحكومة، ويمكن الادخار منه». وأشار إلى أن من الأسباب التي تحثّ على اعتماد الصندوق السيادي «تمكين الاستقرار القصير والمتوسط الأمد، لأن العائدات متقلبة وكذلك الإنتاج»، و«فصل المردود عن الإنفاق العام وتوفير العائدات الى مرحلة ترتفع فيها الأسعار». و«التوفير على الأمد الطويل، إذا كانت العائدات أكثر مما نريد إنفاقه»، فالصندوق هو «آلية للادخار على المدى الطويل تستفيد منه الأجيال المقبلة»، وأي «عائدات للنفط يجب أن تستثمر محلياً، فتنقل بعد ذلك إلى الموازنة لتنفق من ضمن الموازنة».
وتطرق الخبير النروجي إلى الاستفادة من هذه العائدات لتسديد الدين العام، وهو ما يتحدث عنه أكثر من طرف سياسي. فرأى أن «العائدات التي سنحصل عليها من الاستثمار يمكن أن تكون في خدمة الدين، حيث قد يكون لدينا الكثير من المشاريع المريحة التي تولد الكثير من العائدات». لكنّه نبّه إلى «ضرورة الحذر من التأثيرات السلبية كما حصل في عدد من الدول، لجهة الإنفاق بطريقة غير مدروسة»، وقد حصل ذلك في النروج «في السبعينيات والثمانينيات. ونتيجة لهذا النوع من الإنفاق، حصل تضخّم»، مشدداً على «إدارة عائدات هذا الصندوق بطريقة دقيقة»، وهذا يتطلّب «صراحة مالية والتزاماً بأطر سياسية ومالية واقتصادية، وانضباطاً مالياً واقتصادياً». ولذلك «يودع الصندوق لدى وزارة المال لتحديد السياسات العامة، والسياسات الاستثمارية».
بدوره، تحدث النائب جابر بشكل مقتضب عن الاقتراح المقدم من قبله، معتبراً أنه «خطوة أولى سيتمّ تعديله وإدخال مقترحات عليه بعد دراسته في اللجان». ولفت إلى أن «الاقتراح قريب جداً من الشرح الذي تقدم به الجانب النروجي، مع اختلافات بسيطة تتعلق بتوظيف العائدات». فيما اعتبر الخبير الاقتصادي غازي وزني أن «تحديات كبيرة يجب أن تؤخذ في الاعتبار، تتعلق بالميزان التجاري وعجز المالية العامة والبطالة المرتفعة، إضافة إلى وجود منطقة متنازع عليها»، مشيراً إلى أن الهدف من الصندوق يجب أن يكون «تطوير الاقتصاد اللبناني الذي سننطلق منه لمعالجة المالية العامة».
وكان رئيس لجنة الأشغال والطاقة النائب محمد قباني قد لفت إلى أنه «ينبغي الإفادة من تجارب البلدان المختلفة، كما ينبغي أن تتماشى أهداف الصندوق اللبناني مع الإطار المالي والاقتصادي الكلي للبلاد بالنظر إلى التحديات المالية والمؤسساتية التي تواجهها». بدوره، قال وزير الطاقة سيزار أبي خليل إن «حجم العائدات المتدفقة الى الصندوق يعتمد على تطوير قطاع النفط والغاز في لبنان، إن من حيث وتيرة دورات التراخيص أو من حيث حجم الاكتشافات المتحققة، ووتيرة الإنتاج وأسعار البترول عند البيع وتوافر الأسواق من عدمه، داخلياً وخارجياً». فيما تحدث وزير المال علي حسن خليل عن قواعد مالية، أهمها «فصل إيرادات الأنشطة البترولية عن الصرف الجاري في الموازنة، واستعمال جزء من العائدات في القطاعات المنتجة وهيكلة الدين العام، وتنويع الأصول المالية للوصول إلى عائد مرتفع». وأشار إلى أن نظام الحوكمة يجب أن يضمن العناصر الآتية: «استقلال مجلس الإدارة واللجان المعاونة له والفريق الإداري للصندوق، توجيه عمل الصندوق للتأكد من تحقيق أهدافه، رقابة من المؤسسات الدستورية كمجلس الوزراء ومجلس النواب، الشفافية المطلقة لقرارات الصندوق واستثماراته وأرباحه وقدرة الشعب على الاطلاع عليها».