السكون الصباحي الذي يعبر خلاله اللاجئون البحر، هو هيئة العالم منذ ما قبل الوجود البشري. سيعود إليه آي ويوي كثيراً للدلالة إلى صمت السياسات العالمية التي لا يعكّرها بين حين وآخر سوى زعيق رجال الشرطة والقنابل التي تلقى في وجه اللاجئين على الحدود الأوروبية.
تكتنز الصورة في فيلم Human Flow لآي ويوي، خلاصات نهائية وشاملة كهذه في محاولة لملاحقة السيل البشري المتحرّك الذي يفلت من يد العالم. خيار يبدأ من العنوان «تدفّق بشري» الذي يعتق الفيلم من الزمان أو المكان، ويظهر مجدداً في طموح جامح للفنان الصيني قاده إلى 23 بلداً لتصوير فيلمه الوثائقي الطويل (140 د) الذي ينطلق عرضه مساء الليلة في الصالات اللبنانية.
يبدأ الشريط الذي شارك في المنافسة الرسمية في «مهرجان البندقية السينمائي» هذه السنة، باللقطات الأولى التي تجيء إلى الرأس لدى سماع كلمة اللجوء، وتحديداً لحظات وصول اللاجئين إلى جزيرة ليسبوس اليونانية. لكن خيار الكاميرا البعيدة يخلق هولاً لم نكد نراه مسبقاً. سيكون كافياً لانتزاع ألفة صنعها التكرار عن المشاهد، وإعادتها إلى صورة أكبر ستظهر معالمها شيئاً فشيئاً مع تقدم الشريط. ليس هناك ما هو استثنائي في الخيارات الفنية والتصويرية للعمل. كأن آي ويوي لا يريد أن يمسّ هذا التدفق البشري أو أن يعرقله ويوجهه بأي شكل كان. إنه هكذا، هذا صوته، هذا صراخه، هذه لغاته، وهذا شكله؛ الوقوف في صفوف، السير على الأرض ضمن مواكب طويلة، والعبور في القوارب. وحركته المتفق عليها هي المشي. يصير المشي حركة الفيلم المجرّدة، بعد أن يصلها ويوي بقارات العالم. ليست الصور البانورامية معادلاً لمسافة يتخذها ويوي من موضوعه. بين وقت وآخر، سيظهر ليمحي أي فارق بين المخرج واللاجئين (رغم أن ذلك ليس واقعياً) فيحلق شعره في أحد المخيمات، ويشوي اللحم في مخيم آخر، ويأتي بوعاء لامرأة كي تتقيأ فيه، فيما يتبادل جواز سفره الصيني مع جواز سفر لاجئ سوري. رأينا هذا التماهي بين الفنان وموضوعه، في صورة اتخذ فيها وضعية الطفل السوري إيلان الكردي الذي دفع البحر بجثته إلى أحد الشواطئ اليونانية. وبتهكّم موجع، دعا الفنان الستيني نجوم حفلة جمع التبرعات للاجئين «السينما من أجل السلام» (على هامش «مهرجان برلين السينمائي») إلى التقاط صور السيلفي بالأغطية الصفراء الحرارية اللامعة التي اعتادت الركون على أكتاف اللاجئين.
يتنقل ويوي بين مخيمات اللجوء في لبنان والعراق والأردن، واليونان، وتركيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبنغلادش والحدود المكسيكية ـ الأميركية، وكينيا التي شهدت أوّل لجوء في تاريخ البشرية. يمد اللجوء الحالي بخيطان تصله بمحطاته الكثيرة منذ فجر البشرية، عبر حقائق وإحصاءات عن الهجرة في الحرب العالمية الثانية. تختلف دوافع النزوح بين السوريين والأفارقة والعراقيين والروهينجيين، والأفغان والمكسيكيين، لكنها كلها تحمل توقيعاً بشرياً؛ الحرب والفقر والمجاعات والاضطهاد العرقي والديني. مخيمات كاليه المحترقة هي امتداد لحقول النفط المشتعلة في الموصل. الكاميرا تقفز من الوجوه، إلى مشاهد الدمار في المواطن الأصلية. اللجوء الداخلي في غزّة لا يفرق عن قفص النمر المحبوس في حديقة حيوانات هناك. سيعبر النمر أخيراً خارج غزّة، فيما تبوح مراهقات غزيات للكاميرا برغبتهن في رؤية العالم خارج حدود القطاع المحاصر. الإحالة إلى الحيوانات كثيرة في الشريط، تجاور الحضور البشري والمساحات الطبيعية.

مقاطع شعرية حول
معنى المكان لشيركو بيكه
س، وأدونيس، ومحمود
درويش، وناظم حكمت

ما يأتي كاستعارة فانتازية هو واقعي أيضاً. بقرة تمرّ أمام الدمار، قطيع المواشي الذي يعبر من أوّل الصورة إلى آخرها، يرعاه زوجان كرديان في شرق تركيا. عمل المخرج مع فريق يضم أكثر من 200 شخص، تنقلوا بين كل هذه الدول. بعد خروجه من السجن الذي فرض عليه في الصين ومنعه لسنوات من السفر خارج بلاده، أراد ويوي رؤية العالم كما قال في مقابلة صحافية. وللمصادفة، جاءت الإقامة الجبرية كعقاب على تجهيزاته الفنية حول زلزال سيتشوان 2008. تجهيزات تتقاطع في نواح كثيرة مع فيلمه الجديد أهمها الفيديو الذي أنجزه يومها بمساعدة حوالى 50 باحثاً متطوعاً، وأفرج فيه عن أسماء 5,205 من ضحايا الزلزال الذين تهربت الحكومة الصينية من الكشف عن أسمائهم.
بين مشاهد شريطه الحالي، تمرّ مقاطع شعرية حول معنى المكان للكردي شيركو بيكه س، والسوري أدونيس، والفلسطيني محمود درويش، والتركي ناظم حكمت والفارسي بابا طاهر. هناك أيضاً مقابلات لا نعلم لمَ اختار ويوي أن يجريها مع أميرة الأردن دانا فراس والنائب اللبناني ليد جنبلاط وغيرهما... مسؤولون يصير كلامهم أحياناً مجرّد لغو كاريكاتوي أمام العبارات التي يتفوّه بها اللاجئون. كذلك يأتي كلام الحقوقيين وأعضاء المنظمات حول حقوق اللاجئين المنصوص عليها في الاتفاقات الدولية، ليزيد التنافر بين كل ما تنص عليه، وبين حالة اللاجئين الواقعية، والمعاهدات التي تجريها أوروبا لمنعهم من الدخول. كثير من اللاجئين لا يعرف وجهته تحديداً، معظمهم ينتظر على الحدود ومصائرهم معلّقة بجانب القطارات. يضيء ويوي شريطه بلقطات صادمة، لعلّ أبرزها تجسيده حالة الانتظار عبر حركة دائرية تطالعنا مرّات عدّة في حركة طفل لا يجد لهواً سوى في الدوران، ونمر يلتف على نفسه داخل القفص، وأولاد تصنع أجسادهم شكلاً دائرياً.
ينتزع الشريط تباعاً تلك التسطيحات التي تسوّر صورة اللاجئين. سنرى خيمهم، وصالوناتهم، وأدواتهم، سيطلق أحدهم شكوى أو تذمّراً ما. تمرّ مشاهد قريبة كهذه كي تذكرنا أن ما نراه ليس أسطورة سيزيفية، قبل أن يستعيد الشريط مجدداً هيأته البعيدة للإحاطة بكل جسد يشارك في هذا الترحيل. أحياناً، يكون الوقت الذي يفصلنا عما جرى في السابق، وثيقة كي نصدق أن ما حدث هائل فعلاً. ينجح ويوي في إضفاء هذه المسافة الثقيلة على الكارثة المعاصرة، فيما لا تخفي صوره المجرّدة والعليا للمخيمات وللحدود الجدران إدانة مطلقة إلى الجزء الأوروبي والأميركي من العالم ورفضه المدوّي للاجئين.

Human Flow لآي ويوي: ابتداء من مساء اليوم في الصالات اللبنانية