لم يكن بليز كومباوري سوى دمية أخرى في أفريقيا. كان أتفه مِن أن يُقرِّر، منفرداً، اغتيال توماس سانكارا. فرنسا الكولونياليّة هي مَن فعلت ذلك قبل ثلاثين عاماً. هذا ما ينبغي أن تحفظه الذاكرة عن سانكارا، ذاك الرئيس الاستثنائي لبوركينا فاسو، الذي تحدّى العالم، حرفيّاً، فدفع حياته ثمناً لذلك. كان «مجنوناً» مِن أجل بلاده. آخر «مجانين» القارّة التي بدا أنّ الكون، بعد مخاض دموي، تصالح بالكليّة على عبوديّتها.
يأتي الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا ميتران، زائراً سانكارا في بلده. يقف الشاب، الذي لم يكن قد أكمل عقده الرابع، متحدّثاً: «لقد قام بيتر بوتا بتدنيس فرنسا عندما زارها. الذين سمحوا له بذلك يتحمّلون المسؤوليّة». مَن سمح له بذلك سوى ميتران نفسه؟ هو مَن استقبله في باريس. بوتا كان رئيس جنوب أفريقيا الأكثر تعصّباً لسياسة الفصل العنصري. بوركينا فاسو تُعادي هذه السياسة وتُقاطع دولتها. أُصيب ميتران بتلك الكلمات في «طاووسيّته». سانكارا لا يُحبّ اللغة الدبلوماسيّة، حتّى وإن كان المُخاطب رئيس دولة عظمى، وهو ضيف هنا، لذا ستتغيّر ملامح وجه ميتران. جاء دور الفرنسي ليتحدّث: «سأفكّر مثلك وأتكلّم بما في خاطري، أنت شاب يافع، لكن طريقتك حادّة جدّاً وقد ذهبت بعيداً جدّاً». في اللقاء نفسه، تسأل صحافيّة سانكارا، محاولة إحراجه، عن سبب زياراته للاتحاد السوفياتي وكوبا. يُجيبها: «نعم، ذهبت لجلب المُساعدة لبلادي. لم يُقدّم أحد قريب لنا المُساعدة. لدينا علاقات ممتازة مع كوبا وموسكو، ولكن لو أتت العروض إلينا مِن دول أخرى فإنّهم سيوفّرون علينا عناء السفر». يقولها ضاحكاً. كان ميتران يستمع، واضعاً يده على خدّه، ثمّ محرِّكاً لعضلات وجهه ناحية السخرية. الزيارة انتهت.
سيذهب سانكارا في العام التالي أبعد مِن ذلك. أبعد مِمّا خال الرئيس الفرنسي. خلال قمّة «منظّمة الوحدة الأفريقيّة» في أديس أبابا، سيُعلن رئيس بوركينا فاسو عن نفسه تماماً، عن مشروعه، بكلّ جلاء. إنّه التخلّي الأخير. خاطب الزعماء الأفارقة: «علينا أن نتوقّف عن تسديد ديوننا إلى البنك الدولي. أصول هذه الديون تعود إلى أصول الاستعمار في بلادنا. أولئك الذين قدّموا لنا المال هم الذين استعمروا بلادنا مجدّداً، هذا هو الاستعمار الجديد». بعض الحاضرين صفّقوا، بعضهم لم يَفعل، بعضهم بدا مدهوشاً. كان ياسر عرفات بين الحاضرين. ويُكمل سانكارا مرافعته التاريخيّة: «أصبحنا مدينين لستّين سنة أو أكثر. الديون الحاليّة تسيطر عليها الإمبرياليّة. هذا غزو منظّم بمهارة. الجهات المانحة لن تموت إن لم نُسدّد الدين، كونوا متيقنين، أمّا نحن، فإذا سدّدنا فإنّنا سنموت، كونوا متيقنين أيضاً... لا أقول لا نُريد التسديد لأننا بلا أخلاق، على العكس تماماً، الآخرون مدينون لنا بما لا يُمكن أعظمَ ثروات العالم أن تفيه. إنّه دَين الدم». هكذا، بكلّ وضوح، يدعو إلى ثورة أفريقيّة كبرى على الغرب. سانكارا الذي كان يَعلم أنّه بهذا الخطاب ذاهب إلى حتفه. يذكر ذلك جيان زيجلير، مقرّر لجنة الأمم المتّحدة للعذاء آنذاك، والذي عرف «الضابط الاشتراكي» عن قرب. يعود بالذاكرة إلى ذات سهرة معه: «تحدّثنا عن غيفارا، وقلت له أيّام وتأتي الذكرى العشرون على اغتياله، فقال لي: غيفارا مات وعمره 39 عاماً وأنا سأموت قبل أن أُكمل 39 عاماً». لقد استلهم «الثائر الأممي» في كلّ شيء، حتى في اللباس وتلك «البيريه الحمراء» ذات النجمة، إلا أنّه كان أنحف جسداً. أصبح «غيفارا أفريقيا» أحد ألقابه التي يُعرَف بها في الإعلام العالمي. في تلك القمّة الأفريقيّة، في كلمته نفسها، ختم قائلاً: «على كلّ الدول أن تتفق الآن على عدم التسديد وبيد واحدة. إن رفضت بوركينا فاسو وحدها تسديد الديون فلن أكون هنا في المؤتمر المقبل». وبالفعل، لم يَحضر في المؤتمر المُقبل. كان قد أصبح جثّة مقطّعة، موزّعة في أكثر مِن بقعة، وظلّ مكانها مجهولاً. حُكي لاحقاً، بعد سنوات طوال، عن العثور على «بعضها». دُفِن بالثياب الزيتيّة التي صُنِعت في بلاده، تماماً، إذ «ليس فيه أيّ خيط مِن أوروبا أو أميركا» (كما خاطب الحاضرين في القمّة ودعاهم لأخذ المنسوجات القطنيّة مِن بلاده).
يذكره جيري راولينغز، الرئيس الغاني آنذاك، قائلاً: «كان صادقاً ولكنه غير صبور». حسناً، راولينغز مِن الصابرين، وها قد مضت ثلاثة عقود، فهل حصل شيئاً؟ دائماً الحجج موجودة. هذه أفريقيا ذات الصبر الأزلي. نعم، إن «صبرت» على تلك اللعبة الدوليّة تعش أكثر. هذه هي. يذكره سمير أمين في مذكراته: «كان سانكارا يتمتّع ببساطة حقيقيّة ومباشرة. كان لديه الشيء النادر بين الرجال الكبار. رؤيته في ما يتعلّق باستراتيجيا التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة سليمة - نظريّاً على الأقل. التقيته مراراً. قرأ جميع الكلاسيكيّات الماركسيّة، وكنت أشعر بالارتياح التام معه في العلاقة، ولو لم يكن رئيس دولة لصرنا أصدقاء مِن دون أيّ مشكلة. مِن هنا صُدمت عند اغتياله».

قال للزعماء الأفارقة: إن رفضت وحدي تسديد الديون فلن أكون هنا في المؤتمر المقبل
هو الرئيس الأفريقي الذي يُبادر إلى زرع 10 ملايين شجرة لمكافحة التصحّر في بلاده. يرفع مِن شأن المرأة ويوصلها إلى مناصب حكوميّة. يبني المستشفيات والمدارس، يهتم كثيراً بالمدارس والعاملين بالتعليم فيها، ويشقّ الطرق إلى الأرياف المرميّة خارج الجغرافيا والتاريخ. يَنشر ملايين لقاحات شلل الأطفال والحصبة. يُنشئ المساكن العامة. بقانون إصلاح زراعي يُعيد توزيع الملكيّة على الفلاحين. تحسّنت أحوال البلاد في عهده القصير. لم يَحكم أكثر مِن 4 سنوات. ثلاثون عاماً مضت والناس في بوركينا فاسو يعشقون اسمه، يرسمون صورته في أزقة واغادوغو، ويُطلقون اسمه في أغاني «الريغي» إلى جانب بوب مارلي. يوم إعلان مقتله كان «الحفاة» يمشّطون الشوارع والدموع في عيونهم. غيّر اسم البلاد مِن الاسم الاستعماري القديم (فولتا العليا) إلى بوركينا فاسو. هذه تعني بلغاتهم المحليّة «بلاد النزهاء». تلفزيون فرنسي ينشر تحقيقاً مِن هناك، أخيراً، ويتحدّث عن «جيل سانكارا». لا أحد هناك يذكر كومباوري إلا بالسوء، ذاك الذي قتل رفيق دربه، كدمية لفرنسا، وكدمية لدمية رئيس ساحل العاج، رغم أنّه حكم البلاد بعد جريمته نحو 27 عاماً. الآن هو في المنفى بعد طرده مِن البلاد. غسلت فرنسا يدها مِنه بعدما استوفى دوره. استقبلته قبل ذلك دولة «الأنوار» في قصرها الرئاسي، إذ احتفى به جاك شيراك، المعروف بـ«سيّد أفريقيا» في حقبة ديغول. كان شيراك أوّل مَن أبرق مهنئاً له بتولّي الحكم، وذلك في اليوم التالي مِن قتل سانكارا. الشهادات الاستخباريّة على تورّط فرنسا أكثر مِن أن تُحصى أفريقياً. هناك شكوى لدى الأمم المتّحدة حول ما حصل. لا تحقيق. لا نتيجة. لم يُفتح الملف أصلاً. والد سانكارا كان عسكريّاً مقاتلاً مع الفرنسيين ضدّ النازيّة. وقع أسيراً. هكذا كافأت فرنسا الوالد بابنه. رحل الرئيس الشاب وهو يردّد لازمته: «نفدي بلادنا بأرواحنا، وسننتصر». هل انتصر؟ هذه في ذمّة التاريخ، وربّما، غداً أو بعده، في ذمّة المستقبل.