«لأن وطني ــ وطننا ــ يعني لي أكثر من مالي»تشارلي فينك، مليونير أميركي

يوم الاثنين الماضي، كل الأحلام تبخرت، وكل الآمال أُحبطت، وكل المخاوف انتهت. الكثيرون قبل ذلك حبسوا أنفاسهم، بعد أن قبل المجلس الدستوري الطعن بقانون الضرائب، ظناً منهم أنه بدأ عصر التغيير وزمن انتصار المؤسسات على التعسف السياسي وانتصار الشعب على السلطة، التي حاولت أن «تثقله» بالضرائب. كان الأمل شبه مؤكد بانتهاء هذه الضرائب، لأن «الشعب» رفضها كما رفضتها أعلى سلطة دستورية في البلاد.

وكانت قبل الاثنين قد شاعت أخبار المفاوضات بين أطراف الأحزاب الحاكمة، وخصوصاً بين طرفي التسوية السياسية التي أنتجت أخيراً الشكل الجديد لنظام الطائف: التيار الوطني الحر وتيار المستقبل. هذه المفاوضات قيل إنها حاولت الخروج بتوليفة ضرائبية جديدة تضع معدلات أعلى على أرباح الشركات، يمكن تفسيرها بأنها كانت تحاول هباءً خلق التوازن بين مصلحة العهد ومصلحة الرأسمال المالي، وهي المهمة المستحيلة حالياً. في خضمِّ كل هذا، كان هناك أيضاً الخوف والتخويف من انتهاء السلسلة وانتصار الهيئات الاقتصادية والمصارف بنحو حاسم. كل هذا أشار إلى إمكانية دخولنا في مرحلة جديدة، أقل ما كان يُمكن أن تكونه أنها خطرة على الاستقرار السياسي والاقتصادي والنقدي. لكن كل ذلك لم يحصل، والذي حصل أنه أُقرَّ قانون الضرائب كما كان فعلياً قبل الطعن والأسبوع الذي ابتدأناه على حافة الهاوية انتهى إلى الجمود المتجدد، وانتهت العاصفة الأخيرة لموجة السلسلة وضرائبها، ليس بانفجار عظيم، بل بنهاية خافتة.
في خضمِّ هذا الهدوء والوجوم الذي يسود البلاد، لا بد من إعادة التفكير في بعض ما يمكن أن يفسّر لماذا حدث ما حدث وكيف قد تبدو ملامح المرحلة الآتية.
أولاً، الأحلام والآمال كانت، كما كل الأحلام والآمال، خادعة وكاذبة ولا أجد هنا أفضل من استحضار سارتر. إننا جميعاً نعلم، أو في حدسنا نحسّ، بأن سياسة نظام الطائف منذ البداية وحتى الآن اتسمت بـ «الإيمان الفاسد» البعيد كل البعد عن «الواقعية السياسية» (realpolitik)، وبالتالي إن الهوة بين القول والفعل كما الهوة بين الممكن الأدنى والممكن تَسِمان الفعل السياسي في لبنان، وتجلى كل ذلك أيضاً بشكل مكثف ومثير للإعجاب في هذه «الأزمة». يقول سارتر أيضاً: «إننا نستطيع فقط الاعتماد على الواقع. إن الأحلام والتوقعات والآمال تضع الإنسان في خانة الأحلام الخادعة والآمال المجهضة والتوقعات غير محققة». وها قد أتى الواقع يتجلى يوم الاثنين الماضي ويصفع الجميع ويفيقهم من أحلامهم وآمالهم وتوقعاتهم.
ثانياً، بدا جلياً خلال هذه الأزمة أن هناك خطابين كانا يحرضان بنحو فعال الناس ضد الضرائب ويشيطنونها. الأول شعبوي يميني اقتصادي يرفض الضرائب على الرأسمال باسم «الكفاءة» و«الاقتصاد» و«اليونان» و«الركود» الخ... من الشعارات التي ترفعها الهيئات الاقتصادية وإيديولوجييها والأحزاب المؤيدة لها في حملات شرسة على سلسلة الرتب والرواتب منذ طرحها في عام 2011. هذا الخطاب الذي يمثل الرأسمال المالي، أو البورجوازية الريعية، تلقى هو الآخر صفعة بإقرار القانون كما هو، ولكنه لم يهزم كما كان يجب أن يهزم. أما الخطاب الثاني الذي ظهر، فهو شعبوي يميني أيضاً، ولكن باسم الشعب تارة، وباسم الفقراء تارة أخرى. لا أريد الغوص في الأسباب السياسية والشخصانية لهذا التوجه، إذ إن الأهم هو تبيان مدى تحكم الفكر البورجوازي الصغير بعقول الكثيرين من اللبنانيين. فلقد دخلت هذه الطبقة الهامشية تاريخياً في الصراع حول السلسلة والضرائب من نافذة مصالحها الضيقة ونزعاتها الاستهلاكية وفرديتها الاستحواذية التي لا تريد أن ينافسها أحد عليها في حلمها البائس بالترقي الاجتماعي، فحولت الصراع إلى التمحور حول الموظف ضد الأستاذ الذي «بالكاد يُعلّم»، والمواطن المقهور ضد موظف القطاع العام «الكسول»، والأهل ضد الأساتذة، والجميع ضد الجميع، فكان لسان حال أفرادها «لماذا عليّ دفع الضرائب لينعم هؤلاء برواتب أعلى؟»، وهم نسوا أنهم يدفعون الضرائب منذ سنين طويلة، لا لينعم «هؤلاء»، بل الريعيون، بمداخيل عالية وليراكموا ثروات طائلة. وفي الآونة الأخيرة انضم الكثير من أفراد هذه الطبقة إلى موجة العنصرية ضد اللاجئين السوريين الذين يرون فيهم (خطأً طبعاً) سبباً إضافياً لـ «بؤسهم» الاقتصادي والاجتماعي. هذه الطبقة كانت دائماً وقود الفاشية، فحذارِ صعودها.
ثالثاً، إن معضلة النموذج الاقتصادي المأزوم لم تُحَلّ. فقانون الضرائب مرّر الوقت من دون أزمة كبرى، والموازنة المتوقعة لن تحدث أيضاً خرقاً كبيراً. ومن هنا فإن الأسئلة الكبرى التي تخيم على الاقتصاد ما زالت هي هي: كيف سننتقل من اقتصاد متدنّي الإنتاجية وركودي إلى اقتصاد ديناميكي إنتاجي ذي نموٍّ عالٍ وخالق للوظائف العالية المهارة؟ من أين ستأتي الموارد للاستثمار الحكومي الضروري في البنى التحتية؟ كيف سنحلّ مسألة العجز في الخزينة المرتفع المزمن وملحقاته من نمو مطّرد للدَّين العام وكلفة فوائد عالية؟ كيف سنحلّ معضلة عجز ميزان المدفوعات الذي يكاد يصبح مزمناً، والمرشح للزيادة سوءاً، في ظل زيادة الرواتب والاستثمار العام؟
رابعاً، كتبت في مقالات سابقة عن بعض الأجوبة لبعض هذه الأسئلة، وهنا أريد أن أُضيف في سياق الأحداث الأخيرة، أنه إذا أردنا أن نبدأ بالتغيير، علينا أولاً هزيمة الرأسمال الريعي... ولكن لماذا؟ هل لأننا نكره الريع والفوائد والمصارف؟ كلا، ليس لهذا السبب على الرغم من أنه قد يكون من السهل كرههم! اليسار لا ينطلق من الكراهية، لكنْ النازيون والفاشيون بالمقابل كرهوهم (على الأقل حتى وصولهم إلى السلطة!) والمنظِّر الاقتصادي الرئيسي للنازيين جوتفريد فيدير كان من أشد المعادين لهم. وهنا سأُعطي نصيحة لهؤلاء الرأسماليين وحتى يتوقف الناس عن كرههم، عليهم، على الأقل، أن يفعلوا كما فعل بعض الأغنياء في أميركا ويشكلوا مجموعة محلية من «المليونيريين الوطنيين» (The Patriotic Millionaires) الذين قادوا حملة قوية ضد برنامج ترامب لخفض الضرائب عليهم بل طالبوا بزيادتها!

انتهت العاصفة الأخيرة لموجة السلسلة وضرائبها ليس بانفجار عظيم، بل بنهاية خافتة

https://patrioticmillionaires.org). ولكن الأهم من ذلك الحل الليبرالي، الذي في وضع لبنان المزري قد يكون ثورياً، فإن هزيمة الرأسمال المالي والريعي، عبر نقل الموارد منه نحو الاستثمار بنحو منهجي أو «استغلال» هذا الرأسمال، من أجل إنهاء النموذج القديم ولحل الإشكاليات التي طرحتها في النقطة الثالثة، هو الطريق الوحيد للانتقال من اقتصاد الريع والمصارف إلى اقتصاد الإنتاج والأجور والانتقال من الجمود المترنح إلى النمو والتطور.
في هذا الإطار، كنا في خضمّ هذه الأزمة اليوم نستطيع أن نرى الفرصة فيها ونقيم التسوية التاريخية: ضرائب عالية جداً على مداخيل الرأسمال المالي والريعي والمداخيل الريعية الأخرى كتحويلات المغتربين والعاملين في الخارج مقابل ضرائب استهلاكية عالية على الـ tva (أعلى بكثير من الـ 11%) وعلى الرسوم الجمركية، وذلك كوسيلة فعالة لتأمين مداخيل للدولة من أجل الاستثمار، وفي الوقت نفسه لكبح الاستهلاك الفائض الذي قد يؤدي إلى تفاقم عجز ميزان المدفوعات. لكن الحل كان طبعاً بالاستمرار بالتخدير والتأجيل كما حصل بواسطة الودائع لدى مصرف لبنان في التسعينيات ومع باريس 2 و3. لكن يترافق اليوم، كما بالأمس مع هذا التأجيل، تدفيع الاقتصاد الحقيقي الثمن العالي. ويحصل كل هذا لأن الأحزاب الحاكمة تتكلم بنفس الصوت، ولدينا بورجوازيات غير متنورة أيضاً تتكلم بنفس الصوت، وأحزاب ليبرالية سطحية تنبت وتعتمد أساليب تذاكٍ للوصول إلى السلطة من دون التغيير؛ وكأننا محكومون بهذا الجمود الطويل الأمد. فهكذا بقي القانون، وهكذا يبقى النموذج الاقتصادي القديم؛ ولكن الواقع يحمل في طياته بوادر نهاية هذا الأخير، لأن هذا الجمود لا يمكن أن يستمر إلى الأبد وأن عوامل الانهيار التي يحملها لا يمكن تأجيل ظهورها ولا درء فِعلها التدميري طويلاً.